الدين والحياة
المجتمع المدني في الفكر الاسلامي
من المعقولات الأساسيّة لكلِّ إنسان مهما تكن عقيدته وفكره السياسيّ والاجتماعيّ هو الايمان بالحرِّيّة والأمن والعدل والسّلام وتكافؤ الفرص والحقوق ومبدأ التعاون والتعايش .
فالانسان لو خُلِّي وعقله الطبيعي الفطري لما كانت هذه المبادئ إلاّ من المسلّمات الفطريّة لديه ، وأحكام العقل الطبيعي السّليم يتوافق عليها العُقـلاء بما هم عقلاء ; بغضِّ النظر عمّا يكون لديهم من عقل صناعي كوّنته التربية وعمليّات التحصيل والتجارب الخاطئة والمصيبة .
وقد بحث علماء الاسلام من متكلِّمين وفلاسفة واُصوليين وفقهاء مسألة العقل وأحكامه بشقّيها : العقل العملي ، والعقل النظري والسِّيرة العقلائية .. وما انتهى إليه الفكر الاسلامي في مدرسة الشيعة الإماميّة ( أتباع أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عليّ وبنيه ) ، من الإيمان بأنّ ما يحكم به العقل يحكم به الشّرع ، وما يحكم به الشّرع يحكم به العقل تحت عنوان التحسين والتقبيح العقليين (الذّاتيين) بمعزل عن الشرائع والأديان .
فإنّ العقل يدرك بطبيعته ـ مستقلاًّ عن الشّرع ـ حُسن العدل والأمن والنِّظام والصِّدق والحُبّ والتعاون والحرِّيّة ، وقُبح الظّلم والفوضى والعدوان والاضطهاد ... إلخ .. وهو المسمّى في مصطلح الفلاسفة والمتكلِّمين بالعقل العمليّ ..
وهكذا نفهم أنّ المفاهيم الكلِّيّة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الموصوفة بالحُسن والقُبح، مسألة يدركها العقل البشري ، بما هو عقل بشري ، بغضّ النظر عن العقيدة والمبادئ ، وهو يتطابق في إدراكاته مع الشّرع .. لذا فإنّ الكثير من المفاهيم الكلِّيّة لبناء المجتمع الّتي اصطلح عليها البعض بالمجتمع المدنيّ ، هي من مدركات العقل ; لذا فهي تتطابق مع أحكام الشريعة ، وحين يدخل العقل المكتسب ، أو العقل الصناعي ، الّذي كوّنته المعرفة النظرية المكتسبة من البيئة والتعاليم ... إلخ ; لتشخيص بعض المفاهيم ، يبدأ الخلاف ، كالقناعة بإلغاء دور الدولة ، واشتراط العلمانيّة ، وأمثالها .
ويزوِّدنا التأريخ بمثال رائع في مجال إدراك العقل البشري لما هو حَسن وقبيح ، وتطابق الشريعة معه ، وهو حلف الفضول الّذي اُسِّس في الجاهليّة قبل الاسلام لنصرة المستضعف والمظلوم من السّلطة المتحكِّمة في المجتمع آنذاك ، وإنقاذ حقّه .. فهو تحالف اجتماعي (مؤسّسة اجتماعية) لنصرة الحقّ والوقوف بوجه الظّلم ، والدِّفاع عن حقوق الانسان، والحفاظ على الأمن .. فشارك فيه الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند عقده وإنشائه ، وأثنى عليه بعد مجيء الاسلام ، واعتبره إنجازاً عظيماً .
ومن هذا التقديم الموجز يتّضح لنا أنّ بناء مجتمع إنساني على اُسس المشتركات العقليّة هو من مدركات العقل، كما هو من مقرّرات الشريعة..
فالإسلام بنصوصه الشرعيّة وبدعوته إلى العمل بمشخّصات العقل الطبيعي السّليم يدعو إلى بناء مجتمع يسوده العدل والأمن والقانون وتكافؤ الفرص ، وتحفظ فيه حقوق الانسان وحرِّيّاته ، ويعمل أفراده ومؤسّساته على أساس التعاون .
والتشريع الاسلامي بطبيعته يفصل بين تقرير المبادئ وآليّات التنفيذ ، فهو مثلاً يدعو إلى حرِّيّة الانسان وسيادة القانون والتعاون والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الّذي يُبرِز دور الاُمّة كقوّة سياسية واجتماعية إلى جانب دور الدولة .. ولكنّه لا يحدِّد اسلوباً معيّناً ، ولا يفرض آليّة خاصّة للتنفيذ; بل يدعو إلى أفضل الوسائل المُتاحة للإنسان المخاطَب . وعندما يجد الانسان أنّ أفضل وسيلة لتنفيذ تلك المبادئ والمفاهيم هي آليّة المؤسّسات الدستورية والسياسية والاقتصادية والاصلاحية لحماية حقوق الانسان وحرِّيّاته وصيانتها من اضطهاد السّلطة وتجاوزها على المبادئ والحقوق والقيم ..
والمؤسّسات الاجتماعية والثقافية والمهنيّة والسياسية ، سواء الدستورية والقانونية ، أو مؤسّسات حقوق الانسان والدِّفاع عنه أو الأحزاب والجمعيّات ... إلخ .. إنّما تقوم في الشريعة الاسلامية على مبدأين أساسين دعا لهما القرآن ، وهما مبدأ التعاون ، ومبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر .
ولقد أوجب القرآن عمليّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في العديد من آياته ، كما دعا إلى التعاون على البرِّ والتّقوى ، واعتبر ذلك من الأعمال المقرِّبة إلى الله تعالى .
* البلاغ