هل الإسلام هو المسؤول؟
1من 2
د. فيصل القاسم
لماذا أصبح حال الكثير من المثقفين العرب كحال ذلك الشخص الذي أضاع قطعة نقدية في مكان مُعتم، فبدلاً من البحث عنها حيث أضاعها راح يبحث عنها تحت عامود كهرباء، فسأله أحد المارة: "عما تبحث، فقال: عن قطعة نقدية، فقال له: وهل أضعتها هنا تحت العمود، فقال: لا أضعتها هناك، فسأله: لماذا تبحث عنها هنا إذن، فقال صاحب القطعة الضائعة: أبحث عنها هنا لأن هنا يوجد ضوء، أتريدني أن أبحث عنها في العتمة؟" إنها نكتة حمصية مضحكة بامتياز. لكنها، ولسخرية القدر، تعبر عن واقع عربي ملموس يعيشه مئات المثقفين العرب وخاصة أولئك "الليبراليين العرب الجدد" الذين كفروا بكل ما هو إسلامي بشكل أعمى وراحوا يعزون كل مصائبنا وكوارثنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلى الإسلام. وبدلاً من البحث عن العلل الحقيقية وقفوا تحت الأضواء التي يسلطها الغرب وأعوانه المحليون علينا وأخذوا يقولون: هنا الحقيقة، فقط لمجرد أنهم وجدوا ضوءا يبحثون تحته عنها متناسين أن الآخرين لم يوفر لنا الأضواء كي يدلونا على أمراضنا وعيوبنا بل ليحددوا لنا الإطار الذي يريدوننا أن نفكر ونتحرك داخله لا أكثر ولا أقل.
لطالما سمعنا المثقفين العرب وخاصة العلمانيين منهم الذين يبحثون عن ضالتهم المفقودة تحت الأضواء الغربية يعزون التخلف العربي والإسلامي إلى الإسلام محملين إياه كل ما وصلت إليه الشعوب العربية والإسلامية من تدهور وانحطاط. وهذه أكبر كذبة لا بل تجن خطير لا تسنده أي حقائق. متى كان الإسلام حاكماً في أي بلد عربي كي نلومه على ما حصل لنا؟ من الذي تولى مقاليد السلطة في معظم الدول العربية بعد الاستقلال؟ هل هي حكومات إسلامية أم قومية وعلمانية واشتراكية وعسكرية بائسة؟ من المسؤول عادة عن نهضة المجتمعات أو تخلفها؟ أليست أنظمة الحكم؟ فما ذنب الدين في هذه الحالة؟ هل الإسلام هو الذي جعل إسرائيل تفترسنا البلد تلو الآخر عسكرياً؟ هل الإسلام هو الذي جعلنا نتسول السلام على أبواب واشنطن وتل أبيب؟ هل الإسلام هو الذي حولنا إلى إمة من الشحاذين والمحتاجين؟ هل الإسلام هو الذي جعلنا نعتاش على المساعدات الخارجية؟ هل الإسلام هو الذي جعلنا نستورد حتى الفلافل والحمص والفول والبقدونس والغترة والعقال ؟ هل الإسلام هو الذي جعلنا نعيش على قارعة الحضارة علمياً وتكنولوجياً؟ هل الإسلام هو الذي جعل بلداننا مرتعاً للفساد الإداري والتجاري والسياسي والاقتصادي؟ هل الإسلام هو الذي جعلنا نتذلل لأمريكا ونقدم لها بيانات مفصلة عن اسلحتنا وعتادنا ونفتح لها أبوابنا على مصاريعها كي تسرح وتمرح على هواها اقتصاديا وتجاريا وعسكريا وسياسيا ؟ ؟ هل الإسلام هو الذي أفقر بلداننا وبذر ثرواتها الناضبة على المشاريع السياسية والاقتصادية الوهمية؟ هل الإسلام هو الذي حول أوطاننا إلى مزارع خاصة للطغاة والمستبدين؟ أرجوكم احترموا عقولنا يا من تقحمون الإسلام بمناسبة ومن دون مناسبة في كل الأوضاع الرديئة التي آلت إليها مجتمعاتنا! فالإسلام بريء تماماً من كل ذلك.
الإسلام يا جماعة الخير حورب وما زال يُحارب بشراسة عز نظيرها من قبل العديد من أنظمة الحكم العربية. ولا داعي للتذكير بأن بعض الدول العربية توافق على تأسيس جمعية أو حزب مؤيد للتطبيع مع إسرائيل خلال إسبوعين بينما ترفض السماح بتأسيس حزب إسلامي أو أنها تماطل في السماح له عشرات الأعوام هذا إن لم تضع أنصاره وراء القضبان لعشرات السنين. فالإسلاميون مفروض عليهم أن يغيروا أسماء أحزابهم وجمعياتهم كما لو كانت تسمياتها تسيء للذوق العام. النشطاء الإسلاميون يقبعون في غياهب السجون في معظم البلدان العربية. الإسلاميون محاربون بلقمة عيشهم ومطاردون في المنافي. وحتى خطب الجمعة تـُفرض عليهم من الدولة. ففي إحدى الدول العربية التي ترفع راية الإسلام زوراً وبهتاناً تقوم وزارة الداخلية بكتابة المواعظ والخطب التي يجب أن يلقيها الخطباء والأئمة في المساجد، والويل كل الويل لمن لا يتقيد بتعليمات "السيد الوزير" أو أذنابه من أجهزة وكلاب صيد. ولا داعي للحديث عن أن الـُدعاة ووزراء الأوقاف ومسؤولي المعاهد والمؤسسات الإسلامية الحكومية هم في معظمهم من طينة معينة بعيدة عن الإسلام بعد الأرض عن الشمس. وهم في أغلب الأحيان مجرد مرتزقة أو خدم لأجهزة الأمن ووزارات الداخلية العربية، إلا ما ندر، أو أبواق مفضوحة ورخيصة للأنظمة الحاكمة لا أكثر ولا أقل تـُفتي فقط بما يُطلب منها ومستعدة أن تحرّف التفاسير وحتى الآيات كي ترضي أسيادها. لقد دأبت كل الدول العربية تقريباً على تفصيل إسلام خاص على مقاسها ورغباتها، وقد أضفى كل نظام لمسته النافرة على الاسلام الذي يريد، فالإسلام الدارج في بلد عربي يدّعي الاشتراكية مثلاً هو إسلام مختلف تماما عن الإسلام المتبع في دولة عربية ملكية أو علمانية أو قومية. وكم ضحكت ذات مرة عندما استضفت "عالم دين" حكومياً من إحدى الدول العربية. فقد لف صاحبنا و ودار وحاول أن يتجنب التطرق إلى بعض الآيات التي تكفر غير المسلمين عندما طلب منه الضيف الثاني تعريف الكافرين. لماذا؟ لأن الزعيم الذي يخدم "العالم" تحت أمرته حاكم "اشتراكي" لا يؤمن بالفروق بين البشر أو هكذا يدّعي. ولذا وجب على خادمه العالم غير الجليل طبعاً أن يمارس الإسلام على الطريقة اليسارية أو الحزبية المتبعة في بلده. وهكذا دواليك.
وكم أتفاجئ عندما أسمع بعض الكتاب العرب يقولون إن الأنظمة الحاكمة "تترك عقول شعوبها لينهشها رجال الدين وتصبح مهلهلة لا تقدر علي التمييز ولا التفكير بواقعية فيما يجري أمامها وعلي أجسادها. ولأن المشايخ ورجال الدين لا حل عندهم سوى في الماضي، الذي لن يأتي أبدا، فالنظم الحاكمة تنفق عليهم بسخاء من عوائد جهد وعمل الشعوب". بالله عليكم من يصدق مثل هذه الأكاذيب والمزاعم التي يسوقها البعض؟ فلو أحصينا عدد الساعات المخصصة للبرامج والقضايا الدينية في وسائل الإعلام العربية لوجدنا أنها في انحسار وتناقص هائلين. فأين التأثير الخطير للإسلاميين الذي يحدثنا عنه بعض المثقفين العرب الليبراليين على النشء الصاعد؟ من الذي يخرب ويشل عقول الناس؟ أليست فضائيات الهشك بيشك والمدح والردح ووسائل الإعلام الساقطة شكلاً ومضموناً أقوى في تأثيرها على الشباب بمئات المرات من الإسلاميين المساكين؟ أليس هناك تغييب قسري لا بل تمييع للإسلام في الحياة العربية المعاصرة؟ ألم يحولوا الإسلام إلى مجرد طقوس شكلية في الكثير من البلدان كما حدث للمسيحية في الغرب، والحبل على الجرار؟
لكن بالرغم من فظاعة الهجمة الإعلامية التغريبية والتسطيحية التي تشنها بعض وسائل الإعلام العربية على الشعوب، فإن الأخيرة ما زالت قادرة على الصمود والتحدي والتمسك بدينها كالقابض على الجمر. فقد اشتكى لي أحد العلمانيين قبل فترة من أن معظم المطاعم في إحدى الدول العربية العلمانية المنفتحة لم تعد تقدم المشروبات الروحية نظراً لتكاثر عدد العائلات المسلمة المحافظة التي ترتادها. "يا رجل لم يعد بإمكاننا أن نأخذ كأساً من البيرة"، يتذمر صاحبنا. لا بل إن هناك اتجاهاً متصاعداً نحو ارتداء الحجاب في بعض الدول العربية. من المسؤول إذن عن تصاعد المد الإسلامي في هذه الدول المعروفة بعلمانيتها الصارخة؟ هل هم رجال الدين؟ بالطبع لا؟ إنه، كما سنرى في مقال الأسبوع المقبل، توجه روحي عام لدى الكثيرين بالرغم من محاولات التمييع والعلمنة وتضييق الخناق على الإسلام والإسلاميين ومضايقتهم وشل حركتهم. فهل بالمقابل إذن سستصاعد الهجمة على الإسلام والمسلمين في العالم؟ هل سيزداد استخدام تلك التهمة السخيفة المسماة بالإرهاب؟
~*¤ô§ô¤*~ حياتي قبل تحياتي ....اخوكم النوووفي ~*¤ô§ô¤*~