في نهاية الأسبوع الماضي أفادت تقارير بُثَّت على الإنترنت أن قائد شبكة القاعدة أسامة "بن لادن" المطلوب رقم واحد لدى أمريكا اتصل بوالدته عبر وسيط باعثا إليها برسالة يؤكد فيها عدم صلته بالأفعال الإرهابية التي نفذتها في الرياض عناصر متشددة وأُلقِيت تبعاتها على عاتق شبكة (القاعدة). هذا الخبر لا يمكن التحقق منه على وجه الدقة. حوادث وبيانات وفتاوى كثيرة مماثلة انتشرت أخيرا ونقلت عن بعض رموز التشدد، أو بعض الجماعات المتشددة تنفي علاقتها بما حدث، مظاهر التنصل والتبرؤ إن صدقت مصادرها تعكس حالاً من التغيير هامة. التفجيرات التي وقعت في الرياض وتلك الخلايا الإرهابية المكتشفة بما تحمله من مخططات رهيبة أحدثت في المجتمع نوعا من ردة الفعل، ودفعت بكثير من الناس إلى وقف تعاطفهم وتأييدهم السابق لبعض الجماعات حين توجهت السهام إلى الداخل، وهي ردة فعل طبيعية إزاء ما حدث وما كان مخطط لحدوثه، ولذلك تبدو بعض الأصوات التي تحاول التبرؤ أو التنصل مما حدث - على الرغم من خلفية ممارساتها وأيديولوجيتها المتشددة- في حال شديدة من الإرباك خوفا من زوال التأييد الذي حظيت به من بعض الناس. وسواء أكانت هذه المظاهر نوعا من التضليل أم انقلابا في التفكير - وهو أقل فرصة- فإن ذلك يجب ألا يخفي عنا الخلفية الحقيقية لما حدث في السابق، وعلينا كذلك ألا ننخدع بالتنصل الوقتي خصوصا حين يكون ذلك مناقضا للمنطق السياسي العام لتلك الأيديولوجيات. دعونا نأخذ أسامة "بن لادن" وشبكته القاعدة مثالا على ذلك، ونحن هنا لسنا بصدد تكذيب أو إثبات التقارير المشار إليها أو البحث عن مسؤولية القاعدة في تفجيرات الرياض. بل نرغب بالعودة قليلا إلى الوراء بحثا عن الخلفيات البالغة الأهمية. لقد ساد الاعتقاد لدى الغالبية بعد أحداث سبتمبر أن ما حدث كان مخططاً إلصاقه بـ "بن لادن" والقاعدة، وعُدَّ امتناع الطالبان عن تسليم "بن لادن" حتى تثبت الولايات المتحدة إدانته حقا شرعيا تم خرقه، ولكن سرعان ما أثبتت بيانات "بن لادن" ومعاونيه - المباركة بمنفذي العمليات- صدق تورطهم. إن "بن لادن" والقاعدة هي المتهم الأول في 11سبتمبر وليس ذلك تسرعا كما قيل حينها ضد المسلمين، وبإطلالة سريعة على تقرير وزارة الخارجية "نماذج الإرهاب الدولي" الصادر في أبريل عام 2001 م عن مكتب مكافحة الإرهاب يعكس المؤشرات المتوترة وقتها عن نشاطات القاعدة التي اعترفت بمسؤوليتها عن بعض النشاطات الإرهابية - بوصفها جهاداً-. فالصفحات الأولى من التقرير تلقي الضوء على النشاط الذي قام به "بن لادن" والقاعدة، والتقرير لم يسع إلى إدانة الإسلاميين المعتدلين أو اتهامهم بدعم الإرهاب، بل يحذر التقرير من أن "أية إشارة سلبية في هذا التقرير لأعضاء على مستوى الأفراد لأية جماعة سياسية أو اجتماعية أو عرقية أو دينية أو قومية لا تعني ضمنا أن جميع أعضاء تلك الجماعة هم من الإرهابيين، وفي حقيقة الأمر يمثل الإرهابيون قلة صغيرة من الأفراد المتعصبين في معظم هذه الجماعات". لقد شرحت في مقال سابق مراحل العلاقة التي تعاملت بها السياسة الخارجية الأمريكية مع ملف الإسلاميين، وعطلت في مرحلتها الأخيرة - تفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا عام 98م - أصوات المعتدلين داخل وزارة الخارجية الأمريكية. وبات من الواضح أن المواجهة بين الطرفين أصبحت حتمية. ردة الفعل الأمريكية على تفجير السفارتين كانت أشبه بالانتقام الساذج منه إلى تفهم لطبيعة الأوضاع و المسؤولية. وإطلاق صواريخ كروز الأمريكية على أفغانستان و السودان لم تأت بأية نتيجة سوى رغبة الإدارة الأمريكية في صنع شيء ما، والرد بأية طريقة. و النتيجة الحقيقية لما حدث هو استثمار "بن لادن" لهذا الهجوم بتبرير الجبهة التي أعلن عنها في فبراير عام 98 م والتي تحل قتل المدنيين بحجج واهية، وبالطبع فإن الاستياء الشعبي في العالم الإسلامي جراء ضرب أمريكا لبلدان إسلامية ارتفع.
لا شك أن "بن لادن" هو حليف (مصلحة) سابق للولايات المتحدة إبان الحرب الأفغانية على الرغم من محاولته التقليل من شأن هذه العلاقة.
ففي اللقاء الذي أجرته معه قناة الجزيرة في ديسمبر عام 98م أنكر أنه أقام علاقات مباشرة مع الأمريكيين، وبرر التحالف بأنه لقاء مصلحتين في الحرب ضد الروس الملحدين، وقد أعاد "بن لادن" التحالف ذاته ضد أمريكا ولكن هذه المرة مع البعثيين في العراق أثناء الحرب الأخيرة. وهكذا هو "بن لادن" تتوجه خياراته السياسية مع رياح التغييرات في ميزان القوى، العقيدة بالنسبة له هي مصلحته وهي ما يكرهه ولا يريده. ولا ندري لماذا يكفِّر "بن لادن" الحكام وبعض العلماء، وهم يراعون المصلحة في تحالفاتهم ويوازنون بين الخسائر والمكاسب في سياساتهم؟. منذ حرب الخليج وبدخول القوات الأمريكية إلى المنطقة أصبحت الولايات المتحدة عدو "بن لادن" الأول. التحول الذي أصاب "بن لادن" من ثري يعمل على الإغاثة في أفغانستان أول الأمر إلى قائد لتنظيم هو الأكبر من نوعه "القاعدة"؛ يجب ألا يخفي عنا العلاقة التي ارتبط بها مع الجماعات الجهادية في مصر والجزائر، والذين التقوا به أثناء الجهاد واستمالوه رغبة في تمويله و دعمه، هذه العلاقة أفلحت في نهاية المطاف بتحويله إلى شخص لا يتورع عن قتل المدنيين والأبرياء دون رحمة، والانطلاق في عملية تكفير تطال كل من لا يقف معه. والتراجع الأمريكي في الصومال شجع "بن لادن" على اتخاذ أمره في توجيه ضرباته واستهداف الأمريكيين. وطالبان التي استولت على السلطة وفرت لـ "بن لادن" المكان والحرية لنشاطاته.
وكانت الطالبان متهمة حين بزوغ نجمها بـ صلاتها مع الأمريكيين،
ولكن بعد مضي مدة تبين أن الباكستانيين يدعمون الطالبان برضى أمريكي. ووجد "بن لادن" في ظل طالبان فرصته لإقامة المعسكرات والنشاطات الجهادية. و يعتقد أن سلسلة من التفجيرات التي نفذها أسامة "بن لادن" قد أكسبته الحظوة لدى الجماعات الجهادية، التي أسفرت فيما بعد إنشائه لـ"الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين". وأعلن "بن لادن": (أن قتل كل الأمريكيين وحلفائهم المدنيين والعسكريين فرض عين على كل مسلم). وقد وصلت ذروة المواجهة بين حلفاء الأمس
وأعداء اليوم في أكتوبر 2000م إثر العملية الانتحارية على المدمرة "كول" في اليمن. و يقود ذلك إلى سياسة الإهمال التي انتهجها بوش تجاه ملف الشرق الأوسط طيلة المائة يوم الأولى في ولايته.
والإرهاب الذي أصاب الولايات المتحدة في 11سبتمبر لم يكن بمعزل عن سياساتها في المنطقة، مع أننا لا نسعى إلى تبريره ولا نفترض أنه السبب الرئيس. فأمريكا كانت طرفا في نشوء الجماعات الجهادية وتسليحها، كما وفرت بسياساتها غير العادلة مناخاً خصباً لانتشار الإرهاب عبر العالم العربي و الإسلامي، وذلك بحد ذاته يحملها جزءا غير يسير من المسؤولية. إن "بن لادن" ومسيرته مثال واضح لحال الصراع القائم اليوم بين الأمريكيين و الإرهاب الذي نمّوه في السابق. ولا ندري لماذا يتغاضى الخطاب السياسي الأمريكي عن هذه العلاقة - التي امتدت لأكثر من عشرين عاماً- في سياق الحرب على الإرهاب؟. يكفي هنا أن نشير إلى كتاب هام نشر عام 1999م، أي قبل عامين من 11سبتمبر، وهو كتاب جون كولي "الحروب غير المقدسة: أفغانستان، وأمريكا والإرهاب الدولي". لقد زين الكتاب بصورة لـ "بن لادن"، واستعرض المؤلف فيه مشروع "بن لادن" "القاعدة"، ووصف الكيفية التي تعاملت فيها المخابرات الأمريكية مع هذه التهديدات. والعجيب أن كولي قد ختم الفصل الأخير "الهجوم على أمريكا" بفقرة لها طابع النبوءة لما حدث في 11سبتمبر: (لقد أعطيت أمريكا مدخلاً إلى حرب صليبية يخوضها مرتزقة مسلمون انقلبوا في ما بعد على مموليهم ومستخدميهم. وسوف يستمر العالم في اختبار هذه الصدمة المرتدة للحرب الأفغانية لسني 1979-1989م بعد بداية القرن الجديد بكثير). الأزمة كبيرة اليوم، وكما يقول حسين حقاني - الأستاذ في معهد كارنيجي للسلام-: "يطرح التزايد في صفوف الأصوليين مشكلات جدية بالنسبة للغرب. ففي حال قبل واحد بالمئة من مسلمي العالم تبني منظور ديني لا يقبل المساومة، وفي حال قرر عشرة بالمئة من هؤلاء الالتزام بأجندة راديكالية، سيبلغ عدد الملتحقين بالقاعدة المليون". إنه بالتأكيد نموذج خطير لا ينفعنا معه تنصل "بن لادن" ورفقائه الأيديولوجيين مما حدث، أو ما سيحدث مستقبلاً