سحر العيون
انتهت من صف الأطباق على المائدة، ووضعت الشمعتين وأشعلتهما ونسقت الورود، ثم تراجعت إلى أريكة خلفها وألقت جسدها عليها وجلست تنتظره.
وبدأت ذاكرتها تستعيد مشاهد من حياتها السعيدة معه، تزوجا منذ سنتين، ولازلت مشغوفة به ولا تطيق فراقه لحظة، أصبح حمد بالنسبة لها مثل الهواء، مثل الماء لا غناء عنه.
لم يكن حمد ذو جمال ووسامة لافتة، ولكنه كان ذو ملاحة، وأكثر شي يجذب فيه كانت عيناه، كانت لا تستطيع مقاومة نظراته، التي تلاحقها وتشي بحبه وتخبرها بمكنون قلبه.
ابتسمت عندما تذكرت موقفا بينهما، كان حمد مستلقيا على الأرض ومسندا رأسه إلى حجرها، وكانت هي تعبث بشعره وتتخلله بيديها، مدت يدها وغطت عينيه وجعلت تتأمل وجهه، عندما قال:
- ميعاد.
- يا عيون ميعاد.
- إلى متى؟
- إلى متى ايش؟
- إلى متى بتحبيني؟
- إلى ما تتزوج علي؟(وجعلت تضحك ويضحك)
- إذا تزوجت عليك وش بتسوين؟
أحاطت رقبته بيديها وهمست في أذنه:
- بخنقك.
- ههههههههههههههههه. يا حبي لك.
- طيب وأنت إلى متى بتحبني؟
- إلى أن يتوقف قلبي عن النبض.
أحاطت رأسه بيديها وقبلت جبينه وهي تقول:
- بسم الله عليك.
- يا عمري أنتي.
*****
كان حمد من الرومانسيين اللذين انقرضوا في هذا العصر، كان عاشقا محبا، كانت كلماته كالسحر الذي يقلب كيانها، كانت تقوم دائما بأختبار حبه لها، كانت تحاول استفزازه حتى يغرقها بكلماته الحنونة، ونظراته العميقة، ولم تنجح ولا مرة في ذلك، كان دائما مبتسما ومتفهما وحتى عندما يغضب كان لا يلجأ للعنف والصراخ، كان يقول رأيه ثم ينسحب ليقضي على الفتنة في مهدها، وكان أسلوبا فعالا يهدي النفوس ويزيل الضغائن.
أفاقت من الذكريات، ونظرت إلى الساعة كانت تشير إلى الساعة العاشرة مساءا، همست لنفسها لقد تأخر، عادت إلى المائدة تنسقها وتتأكد من وجود كل شيء في مكانه، ولما لم تجد شيء تفعله عادت إلى الأريكة، تمددت عليها وسرحت بفكرها، ( لما شغفت به؟) سؤال تسأله نفسها دائما، أنها لم تكن حتى تعرفه قبل الزواج، تقدم لها وخطبها ووافق أبوها ودخلت بيته بناء على سمعته، وذكر الناس الطيب له، واكتشفت أنها ولجت جنة أرضية بقدميها، سنتان مضتا كحلم جميل، أشعرها بالأمان والحب ومنحها قلبه وعقله، كانت تسمع من صديقاتها اللواتي سبقنها بالزواج أن الرجال يكونون رومانسيين لأشهر قليلة ثم ينتهي كل ذلك، ويبدأون بالتأفف بعد ذلك وتصبح الكلمة الجميلة التي كانوا يوزعونها في الشهور الأولى عملة نادرة، (لكن ما باله هو لم يملها؟) ما لمختلف فيه عنهم؟ كانت خائفة من حبه الفياض في البداية، كانت تخشى أن تحبه ثم تكتشف أنه يخدعها، القصص التي سمعتها عن غدر الرجال تخيفها، ولذلك كانت تسأله دائما:
- حمد.
- يا حلم حمد أنتي.
- تحبني؟
- لا.
- كيف؟ كيف؟
- ههههههههههههههههههههههه
- جاوب على سؤالي يالتعبان.
- أنتي أحب مخلوق على وجه الأرض إلى قلبي.
- بس
- أنتي أجمل و أرق وردة، أنتي أحلى فراشة.
- ما يكفي
- أنتي الحلم الذي كان يطرق منامي كل ليلة من عرفت نفسي، أنتي زائرة الأحلام في المراهقة والشباب، أنتي الحب الذي ترعرع في قلبي منذ كنت طفلا، أنتي رمز الجمال وكل ماهو جميل في هذه الدنيا، أنتي كل ما حلمت فيه وأردته، أنتي حبي وقلبي وعمري، أنتي كل شيء بالنسبة لي، أنتي أملي ووعدي وميعادي، لا ولن تأخذ امرأة أخرى مكانك في قلبي، أنتي وبس اللي أحبها و....
- خلاص كفاية ما أقدر أتحمل أكثر من كذا.
- هههههههههههههههههههههه
- هههههههههههههههههههههه
- يا حبي لك.
- حمد.
- ميعاد.
- أحبك وبس ما أقدر أقول لك أكثر من كذا الباقي شفه في عيوني.
- غلبتيني،هههههههههههه
- ههههههههههههههههه
*****
نظرت إلى الساعة كانت تشير إلى العاشرة وأربعين دقيقة، وينك يا حمد ما هي العادة تتأخر كذا، تنهدت ونظرت إلى الشمعتين اللتين تنيران المائدة وما حولها، وعادت تنظر للساعة ثم عادت برأسها للخلف وسرحت من جديد.
دخل يوما وهو يردد كلاما لم تفهمه، ثم التفت إليها وقال:
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام. وش السالفة وش تقول ؟
- لا أبد. شعر بالإنجليزي.
- ههههههههههههه. أحلى يا الإنجليزي.
- تبغين تسمعينه؟
- قل.
- Every night….In my dreams….I see you….I feel you….That's how i know you
- طيب وش معناه.
- معناه يا جميلتي...في كل ليلة، في أحلامي، أراك، أشعر بك، هكذا أعرفك.
- مهوب حلو.
- بالعربي مهوب حلو لكن بالإنجليزية يا سلام لا وبصوت سيلين ديون يطلع أحلى.
- سيلين ايش من هذي؟
- ههههههههههه. وراك قلبتي هذي وحدة كندية.
- يا سلام ومبسوط وتردد كلامها.
- ههههههههههههههه. طيب وش المشكلة؟ تغارين؟
- ايه أغار.
- تغارين من سيلين؟ ديون هذي عجوز.
- ولو أغار عليك من أم عميش.
- أم عميش. ههههههههههههههههههه.ههههههههههههههههههه.
وسقط حمد على ظهره من الضحك وهو يردد(أم عميش)، وأم عميش هذه عجوز مقعدة حار المتحف الملكي البريطاني في تقدير عمرها، وفيما يظهر والله العالم أنها حضرت ختان الأسكندر الأكبر، فيما قالت ميعاد بغضب:
- لا وتضحك بعد.
- يا حبي لك، أم عميش؟ ههههههههههههههههههه.
- المهم من وين تعرف هالتعبانة؟
- من؟
- اللي قالت الشعر البايخ.
- سيلين؟ هههههههههههههههه.
- ايه.
- هذي ما قالت الشعر يا لزينة هذي مغنية. شفت التايتنك؟
- الفلم؟ ايه شفته.
- تذكرين نهايته يوم راحت العجوز تنام وتحلم بخويها، كانت فيه أغنية كانت هي اللي قلتها لك قبل شوي، واللي غنتها كانت سيلين ديون.
- تذكرت، شفته خمس مرات ولا دريت عن الشيء هذا.
- يا ساتر خمس مرات؟
- ايه معجبتني قصة الحب الخالدة فيه.
- لا والله قصة الخيانة الخالدة.
- ليش؟
- الفلم كان خدعة من المخرج والممثلين، صرفونا بقصة حب خيالية عن القصة الحقيقية.
- وش هي القصة الحقيقية؟
- حقيقة السفينة الجبارة التي أدعى طاقمها قبل الإبحار أن الله سبحانه وتعالى لا يستطيع إغراقها، فغرقت في أول رحلة، التايتنك كانت عبرة، لكن الأمريكان أعموا عيون العالم عن الحقيقة، وحطوا قصة حب كالعادة.
- والله توي أدري عن الشيء هذا.
- التايتنك كانت عقوبة للذين تحدوا قدرة الله سبحانه وتعالى.
- عموما شكرا لكن لا تضن إني نسيت.
- نسيتي وش؟
- خويتك هذي سيلين.
- هههههههههههههههههههه. ولا أنا نسيت أم عميش.
*****
ابتسمت وهي تتذكر ذلك الحوار، كان حمد مثقفا للحقيقة، وكان يبهرها عندما يتحدث، وكانت له فلسفة في كل شي يراه، قص عليها قصصا كثيرة، من التاريخ والروايات التي قرأها، وحاول أن يغريها بالقراءة ولكنها كانت تأبى، فلم يضغط عليها وتركها وشأنها، كانت تغار عندما تجده منهمك بقراءة كتاب، وتدخل الغرفة وتحاول ألهائه عن القراءة، فكان عندما تحدثه يترك الكتاب ويلتفت إليها بكله، وكان هذا يرضي غرورها، تذكرت عندما دخلت يوما غرفتهما، كان جالسا على السرير ومعه كتاب يقرأه، جلست بجانبه وجعلت تراقبه، التفت إليها وابتسم وعاد إلى الكتاب، كانت تراقبه كان يقطب ثم يبتسم ثم يعود يقطب ثم يضحك، لاحت منها نظرة إلى الكتاب، جذبها اسم على كعب الكتاب، عبير سليمان، كان الكتاب لأنثى، اختطفت الكتاب من يده وهي تقول متصنعة الغضب:
- يا سلام، يا سلام، ما شاء لله. الدنيا سايبة.
نظر إليها نظرات عدم فهم وقال:
- وش السالفة؟
- تقرأ كتاب لوحدة اسمها عبير، وشو ( ونظرت إلى كعب الكتاب) ايه عبيرسليمان ومستأنس وتضحك؟ لا وش رأيك تتصل عليها وتسولف معها، عشان تضحك على الهواء مباشرة.
- ههههههههههههههههههه. يا ناس .هههههههههههههههههههههه. وش هالخبلة اللي مزوجيني إياها؟ ههههههههههههههههههههههه. تغارين من كاتبة هههههههههههههههههههههه. يابطني .هههههههههههههههههه. بموت .هههههههههههههههههههههه.
- ايه أضحك، أضحك ما همك وأنا محترة.
- هههههههههههههههههههههههه
- لا وبعد تضحك وتلقاك تقول ها لكاتبة رهيبة وتنكت بروح بكرة واشتري كل كتبها. لا واسمها عبير تلقاها ما شاء الله جمال و مثـقفة تصلح لك.
دمعت عيون حمد من الضحك وأخذ الكتاب منها، وأشار وهو يضحك إلى صورة على غلافه لعجوز كتب تحت الصورة ( عبير سليمان)، انفجرت ميعاد ضاحكة وغطت وجهها، وهي تقول:
- يا ربي...شكلي غبية، هذي هي عبير؟
- ههههههههههههههههههههههههه.
- هههههههههههه. اسمها عبير قلت شكلها حلوة.
- ههههههههههههههههههه. والله أنك خبلة. الله يخلف.
- وأنت ما صدقت لقيت شيء تمسكه علي.
- آه... بطني، أجل تبغيني أكلمها واسولف معها، وأخلي أم عميش؟ ههههههههههههههههههههههههه.
- أنت ما يقال لك شيء.
ونهضت لتغادر الغرفة ولكنه جذبها من ذراعها، وضمها إلى صدره وهو يحاول كتمان ضحكاته، وقال:
- لا لا كل شيء ولا تزعلين.
- خلاص لا تفكر تراضيني، زعلت عليك.
- افا... طيب آسف حرام عليك وش سويت؟
- حسستني أني غبية.
- ههههههههههههههههه. وش أسوي لك؟ تغارين من كاتبة؟ يا ساتر.
- لأني أحبك ولا أرضى أن وحدة تأخذ منك شيء غيري.
- يا عمري أنتي. أنا ما أقدر أفكر بغيرك، عمرك شفتي واحد متزوج من سنة ونص والى الحين يفتح فمه كل ما شاف زوجته.
- ايه ألعب علي بهالكلام.
- الله يسامحك، يا دلوعة، يا مغرورة، عارف تتدلين تبغيني أدللك. وأنتي تستاهلين الدلال، سماح؟
- لأني أحبك بس. سماح.
*****
عادت تنظر للساعة بقلق، الساعة الحادية عشرة وثلاث عشرة دقيقة وهو لم يأتي، لكنها لم تحس بالخوف، سوف يأتي لم يخلف له موعدا أبدا، فكيف بموعده معها، عادت الأفكار تلفها، تذكرت يوما، كان مستلقيا ومسندا رأسه إلى حجرها، كان يحب أن يفعل ذلك دائما، ويترك رأسه للمساتها وعبثها بشعره وعينيه ووجهه، قال لها وهو يبتسم:
- ميعاد.
- سم يا أمير ميعاد أنت.
- ودي أقولك شيء بسيط، لكن أخاف تفهمين غلط أو يضيق صدرك.
- قل.
- أوعديني أول شيء، أنك تسمعيني إلى النهاية.
- أوعدك.
- ميعاد. أنا بسوي عملية قلب ال.....
- عملية؟ يا ربيه؟ ليه وش فيك؟
- وش قلنا وين الوعد؟
- حمد عمري وش السالفة؟
- لا موضوع بسيط، من كنت صغير كنت إذا ركضت أحس بألم في صدري، عندي صمامات تعبانة، وبسوي عملية بسيطة، يعني مافيه شيء يخوف.
- حمد، هذي عملية قلب، يا ويلي( وجعلت تبكي).
- وش قلنا ؟ ليه كذا يا عمري؟ المسألة ماتستاهل.
- قلب وماتستاهل( اهه اهه اهه ).
- والله السالفة عادية يا بنت الحلال، أنا اللي مضيقن صدري مهيب العملية، من اللي بيسوي لي العملية؟ أنا مشترط طاقم حريم.
- (اهه اهه اهه) ليش؟
- لأن الرجال إذا فتحوا قلبي بيشوفون صورتك محفورة على جدران قلبي، واسمك في كل مكان، وأنا أغار عليك من نظراتهم.
- (ههههه اهه اهه ههههههههههه واختلط ضحكها ببكائها وقالت من بين دموعها) وأنا بعد أغار عليك ولا أرضى وحدة تسوي العملية لك.
- هههههههههههههههههههههههه،ايه كذا أضحكي المسألة ماتستاهل.
*****
تعبت من الجلوس فذهبت إلى المطبخ، شربت كأسا من الماء، وأسندت ظهرها إلى الثلاجة، وعادت تسرح بأفكارها، تذكرت منظره بملابس المستشفى، كان راقدا استعدادا لدخول غرفة العمليات، وهي بجواره وقد أمسك بيدها، والمحلول يثقل جفنيه، وفيما كان جفناه ينطبقان خيل لها رؤية دموع في عينيه وهو يهمس لها:
- أحبك أكثر من أي شيء في هذه الدنيا، مع السلامة.
وغاب في نفق اللا وعي، ودفعه الممرضون إلى غرفة العمليات، ووقفت هي تراقبه حتى غاب عن عينيها.
توقفت أفكارها عند هذه النقطة، عادت إلى المائدة، كانت إحدى الشمعتين قد ذوت وانطفأت، فيما كانت الأخرى لازالت تجاهد للبقاء، همست لنفسها ( معذور أكيد مشغول، الرجال دائما مشغولين)، واتجهت إلى غرفة النوم، وألقت جسدها على الفراش، وسرعان ما نامت، وفي خيالها يتردد صوتا هامسا يقول:
(Every night….In my dreams….I see you….I feel (you….That's how i know you
ولم يخلف موعده معها وزارها في أحلامها كل ليلة.