إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر
حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح ح و حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا عبد الله بن يحيى البرلسي حدثنا حيوة بن شريح عن إسحق أبي عبد الرحمن قال سليمان عن أبي عبد الرحمن الخراساني أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم
قال أبو داود الإخبار لجعفر وهذا لفظه
عون المعبود شرح سنن أبي داود
( أخبرنا عبد الله بن يحيى البرلسي )
باللام بعد الراء المهملة كذا في النسخ الصحيحة . قال الحافظ في التقريب : بضم الموحدة والراء وتشديد اللام المضمومة بعدها مهملة انتهى . وفي بعض النسخ بالنون دون اللام أي بضم الموحدة والنون بينهما مهملة ساكنة كذا ضبطه في الخلاصة وهو غلط .
وقال السيوطي في لب اللباب في تحرير الأنساب : البرلسي بضمات وتشديد اللام ومهملة إلى البرلس من بلاد مصر وفتح ياقوت أولها وثانيها انتهى .
وأما البرنسي بالنون فلم يذكره السيوطي فيه , وكذا لم يذكره الحافظ عبد الغني المصري وكذا الذهبي وأبو طاهر المقدسي وأبو موسى الأصبهاني في كتبهم المشتبه والمختلف . وقال الإمام الحافظ أبو علي الغساني الجباني في كتابه تقييد المهمل وتمييز المشكل : البرلسي بضم الباء المعجمة بواحدة والراء المهملة المضمومة بعدها لام مضمومة مشددة هو عبد الله بن يحيى المعافري البرلسي عن حيوة بن شريح ينسب إلى برلس قرية من سواحل مصر انتهى .
وفي مراصد الاطلاع : برلس بفتحتين وضم اللام وتشديدها بليدة على شاطئ نيل مصر قرب البحر من جهة الإسكندرية انتهى ولم يذكر بالنون .
( إذا تبايعتم بالعينة )
قال الجوهري : العين بالكسر السلف .
وقال في القاموس : وعين أخذ بالعينة بالكسر أي السلف أو أعطى بها . قال والتاجر باع سلعته بثمن إلى أجل ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن انتهى . قال الرافعي : وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر انتهى .
وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد , وجوز ذلك الشافعي وأصحابه . كذا في النيل . وقد حقق الإمام ابن القيم عدم جواز العينة ونقل معنى كلامه العلامة الشوكاني في النيل .
( وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع )
حمل هذا على الاشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد
( وتركتم الجهاد )
أي المتعين فعله
( سلط الله عليكم ذلا )
بضم الذال المعجمة وكسرها أي صغارا ومسكنة ومن أنواع الذل الخراج الذي يسلمونه كل سنة لملاك الأرض .
وسبب هذا الذل والله أعلم أنهم لما تركوا الجهاد في سبيل الله الذي فيه عز الإسلام وإظهاره على كل دين عاملهم الله بنقيضه وهو إنزال الذلة بهم فصاروا يمشون خلف أذناب البقر بعد أن كانوا يركبون على ظهور الخيل التي هي أعز مكان . قاله في النيل .
قال المنذري : وفي إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني نزيل مصر لا يحتج بحديثه . وفيه أيضا عطاء الخراساني وفيه مقال .
--------------------------------------------------------------------------------
تعليقات الحافظ ابن قيم الجوزية
قال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله : وفي الباب حديث أبي إسحاق السبيعي عن امرأته " أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم , فقالت : يا أم المؤمنين , إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة , وإني ابتعته منه بستمائة نقدا , فقالت لها عائشة : " بئسما اشتريت , وبئسما شريت , أخبري زيدا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلى أن يتوب " .
هذا الحديث رواه البيهقي والدارقطني , وذكره الشافعي , وأعله بالجهالة بحال امرأة أبي إسحاق , وقال : لو ثبت فإنما عابت عليها بيعا إلى العطاء , لأنه أجل غير معلوم .
ثم قال : ولا يثبت مثل هذا عن عائشة , وزيد بن أرقم لا يبيع إلا ما يراه حلالا .
قال البيهقي : ورواه يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية بنت أنفع " أنها دخلت على عائشة مع أم محمد " .
وقال غيره : هذا الحديث حسن , ويحتج بمثله , لأنه قد رواه عن العالية ثقتان ثبتان : أبو إسحاق زوجها , ويونس ابنها , ولم يعلم فيها جرح , والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك : ثم إن هذا مما ضبطت فيه القصة , ومن دخل معها على عائشة , وقد صدقها زوجها وابنها وهما من هما , فالحديث محفوظ .
وقوله في الحديث المتقدم " من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا " هو منزل على العينة بعينها , قاله شيخنا , لأنه بيعان في بيع واحد , فأوكسهما : الثمن الحال وإن أخذ بالأكثر وهو المؤجل - أخذ بالربا . فالمعنيان لا ينفكان من أحد الأمرين إما الأخذ بأوكس الثمنين , أو الربا , وهذا لا يتنزل إلا على العينة .
فصل
قال المحرمون للعينة : الدليل على تحريمها من وجوه .
أحدها : أن الله تعالى حرم الربا والعينة وسيلة إلى الربا , بل هي من أقرب وسائله والوسيلة إلى الحرام حرام , فهنا مقامان .
أحدهما : بيان كونها وسيلة .
والثاني : بيان أن الوسيلة إلى الحرام حرام .
فأما الأول : فيشهد له به النقل والعرف والنية والقصد , وحال المتعاقدين .
فأما النقل : فبما ثبت عن ابن عباس " أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة , ثم اشتراها بخمسين ؟ فقال : دراهم بدراهم متفاضلة , دخلت بينها حريرة " .
وفي كتاب محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمعين , عن ابن عباس : أنه قال " اتقوا هذه العينة , لا تبيعوا دراهم بدراهم بينهما حريرة " .
وفي كتاب أبي محمد النجشي الحافظ عن ابن عباس " أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة ؟ فقال : إن الله لا يخدع , هذا مما حرم الله ورسوله " .
وفي كتاب الحافظ معين عن أنس " أنه سئل عن العينة - يعني بيع الحريرة - فقال : إن الله لا يخدع , هذا مما حرم الله ورسوله " .
وقول الصحابي " حرم رسول الله كذا , أو أمر بكذا , وقضى بكذا , وأوجب كذا " في حكم المرفوع اتفاقا عند أهل العلم , إلا خلافا شاذا لا يعتد به , ولا يؤبه له .
وشبهة المخالف : أنه لعله رواه بالمعنى , فظن ما ليس بأمر , ولا تحريم كذلك , وهذا فاسد جدا .
فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص , وقد تلقوها من في رسول الله صلى الله عليع وسلم , فلا يظن بأحد منهم أن يقدم على قوله " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم , أو حرم أو فرض " إلا بعد سماع ذلك , ودلالة اللفظ عليه , واحتمال خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية بل دونه فإن رد قوله " أمر " ونحوه بهذا الاحتمال وجب رد روايته لاحتمال السهو والغلط وإن قبلت روايته : وجب قبول الآخر . وأما شهادة العرف بذلك : فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير , بل قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعباده من المتبايعين ذلك : قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدا يقصدان به تملكها ولا غرض لهما فيها بحال . وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول : مائة بمائة وعشرين وإدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث , وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه , بل جيء به لمعنى في غيره , حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها موردا للعقد , لأنهم لا غرض لهم فيها وأهل العرف لا يكابرون أنفسهم في هذا .
وأما النية والقصد : فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة وإنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين , فضلا عن علم المتعاقدين ونيتهما , ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد , ثم يحضران تلك السلعة محللا لما حرم الله ورسوله .
وأما المقام الثاني - وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام : فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول .
فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة , وسمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة , كما تقدم .
وقال أيوب السختياني " يخادعون الله كما يخادعون الصبيان , لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل " .
والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين , سواء كانت لغوية , أو شرعية , والخداع حرام .
وأيضا : فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة , وإضمار ما هو من أكبر الكبائر , فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلا , وإنما قصده حقيقة الربا .
وأيضا فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام , فإن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلا , لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين , فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه , بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما , والثاني باطل قطعا فيتعين الأول .
وأيضا : فإن الشارع إنما حرم الربا , وجعله من الكبائر , وتوعد آكله بمحاربة الله ورسوله , لما فيه من أعظم الفساد والضرر , فكيف يتصور مع هذا - أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل ؟ فيالله العجب , أترى هذه الحيلة أزالت تلك المفسدة العظيمة , وقلبتها مصلحة , بعد أن كانت مفسدة ؟ وأيضا : فإن الله سبحانه عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين وكان مقصودهم منع حق الفقراء من التمر المتساقط وقت الحصاد , فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة .
ولا يقال : فالعقوبة إنما كانت على رد الاستثناء وحده لوجهين .
أحدهما : أن العقوبة من جنس العمل , وترك الاستثناء عقوبته : أن يعوق وينسى لا إهلاك ماله , بخلاف عقوبة ذنب الحرمان فإنها حرمان كالذنب .
الثاني : أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا { أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } .
وذنب العقوبة على ذلك , فلو لم يكن لهذا الوصف مدخل في العقوبة لم يكن لذكره فائدة فإن لم يكن هو العلة التامة كان جزءا من العلة .
وعلى التقديرين يحصل المقصود .
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والمتوسل بالوسيلة التي صورتها مباحة إلى المحرم إنما نيته المحرم , ونيته أولى به من ظاهر عمله " .
وأيضا : فقد روى ابن بطة وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل " وإسناده مما يصححه الترمذي .
وأيضا : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " و " جملوها " يعني أذابوها وخلطوها , وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم , ويحدث لها اسم آخر وهو الودك , وذلك لا يفيد الحل , فإن التحريم تابع للحقيقة وهي لم تتبدل بتبدل الاسم .
وهذا الربا تحريمه تابع لمعناه وحقيقته فلا يزول بتبدل الاسم بصورة البيع كما لم يزل تحريم الشحم بتبديل الاسم بصورة الجمل والإذابة وهذا واضح بحمد الله .
وأيضا : فإن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم , إنما انتفعوا بثمنه , فيلزم من وقف مع صور العقود والألفاظ , دون مقاصدها وحقائقها أن يحرم ذلك , لأن الله تعالى لم ينص على تحريم الثمن وإنما حرم عليهم نفس الشحم ولما لعنهم على استحلالهم الثمن , وإن لم ينص على تحريمه دل على أن الواجب النظر إلى المقصود وإن اختلفت الوسائل إليه , وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين ولا ببدلها .
ونظير هذا أن يقال : لا تقرب مال اليتيم فتبيعه وتأكل عوضه , وأن يقال : لا تشرب الخمر فتغير اسمه وتشربه , وأن يقال : لا تزن بهذه المرأة فتعقد عليها عقد إجارة وتقول إنما أستوفي منافعها وأمثال ذلك .
قالوا : ولهذا الأصل - وهو تحريم الحيل المتضمنة إباحة ما حرم الله أو إسقاط ما أوجبه الله عليه - أكثر من مائة دليل , وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم " لعن المحلل والمحلل له " مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح , لما كان مقصوده التحليل , لا حقيقة النكاح .
وقد ثبت عن الصحابة أنهم سموه زانيا ولم ينظروا إلى صورة العقد .
الدليل الثاني على تحريم العينة ما رواه أحمد في مسنده : حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا ضن الناس بالدينار والدرهم , وتبايعوا بالعينة , واتبعوا أذناب البقر , وتركوا الجهاد في سبيل الله : أنزل الله بهم بلاء , فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم " .
ورواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شريح المصري عن إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - فذكره , وهذان إسنادان حسنان يشد أحدهما الآخر .
فأما رجال الأول فأئمة مشاهير , وإنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر .
والإسناد الثاني : يبين أن للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر , فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور وحيوة كذلك . وأما إسحاق أبو عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين , مثل حيوة والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم .
وله طريق ثالث : رواه السري بن سهل حدثنا عبد الله بن رشيد حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن ليث عن عطاء عن ابن عمر قال " لقد أتى علينا زمان وما منا رجل يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم , ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة , وتركوا الجهاد , واتبعوا أذناب البقر أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دينهم " وهذا يبين أن للحديث أصلا وأنه محفوظ .
الدليل الثالث : ما تقدم من حديث أنس " أنه سئل عن العينة ؟ فقال : إن الله لا يخدع , هذا مما حرم الله ورسوله " ؟ وتقدم أن هذا اللفظ في حكم المرفوع .
الدليل الرابع : ما تقدم من حديث ابن عباس وقوله " هذا مما حرم الله ورسوله " .
الدليل الخامس : ما رواه الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن أبي إسحاق عن جدته العالية , ورواه حرب من حديث إسرائيل حدثني أبو إسحاق عن جدته العالية - يعني جدة إسرائيل - فإنها امرأة أبي إسحاق قالت " دخلت على عائشة في نسوة فقالت ما حاجتكن ؟ فكان أول من سألها أم محبة , فقالت يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت نعم .
قالت : فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء , وإنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقدا . فأقبلت عليها وهي غضبى , فقالت : بئسما شريت وبئسما اشتريت , أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب , وأفحمت صاحبتنا فلم تتكلم طويلا , ثم إنه سهل عنها فقالت : يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ؟ فتلت عليها { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } " .
فلولا أن عند أم المؤمنين علما لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا بالاجتهاد , ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يحبط بالردة , وأن استحلال الربا أكفر , وهذا منه , ولكن زيدا معذور لأنه لم يعلم أن هذا محرم , ولهذا قالت " أبلغيه " .
ويحتمل أن تكون قد قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا .
وعلى التقديرين : لجزم أم المؤمنين بهذا دليل على أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد , ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد والنزاع بين الصحابة لم تطلق عائشة ذلك على زيد فإن الحسنات لا تبطل بمسائل الاجتهاد .
ولا يقال : فزيد من الصحابة وقد خالفها , لأن زيدا لم يقل : هذا حلال بل فعله وفعل المجتهد لا يدل على قوله على الصحيح لاحتمال سهو أو غفلة أو تأويل أو رجوع ونحوه وكثيرا ما يفعل الرجل الشيء , ولا يعلم مفسدته , فإذا به له انتبه ولا سيما أم ولده , فإنها دخلت على عائشة تستفتيها , وطلبت الرجوع إلى رأس مالها , وهذا يدل على الرجوع عن ذلك العقد , ولم ينقل عن زيد أنه أصر على ذلك .
فإن قيل : لا نسلم ثبوت الحديث , فإن أم ولد زيد مجهولة .
قلنا : أم ولده لم ترو الحديث , وإنما كانت هي صاحبة القصة , وأما العالية فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي , وهي من التابعيات , وقد دخلت على عائشة وروى عنها أبو إسحاق , وهو أعلم بها . وفي الحديث قصة وسياق يدل على أنه محفوظ وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها , بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها فيها وحفظها لها , ولهذا رواها عنها زوجها ميمون ولم ينهها ولا سيما عند من يقول رواية العدل عن غيره تعديل له , والكذب لم يكن فاشيا في التابعين فشوه فيمن بعدهم , وكثير منهم كان يروي عن أمه وامرأته ما يخبرهن به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويحتج به .
فهذه أربعة أحاديث تبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم العينة :
حديث ابن عمر الذي فيه تغليظ العينة .
وحديث أنس وابن عباس : أنها مما حرم الله ورسوله .
وحديث عائشة هذا , والمرسل منها له ما يوافقه , وقد عمل به بعض الصحابة والسلف وهذا حجة باتفاق الفقهاء .
الدليل السادس : ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا " .
وللعلماء في تفسيره قولان : أحدهما : أن يقول : بعتك بعمرة نقدا أو عشرين نسيئة , وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك ففسره في حديث ابن مسعود قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة , قال سماك : الرجل يبيع الرجل , فيقول : هو علي نساء بكذا , وبنقد بكذا " .
وهذا التفسير ضعيف , فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة ولا صفقتين هنا وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين .
والتفسير الثاني : أن يقول أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منها بثمانين حالة وهذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره , وهو مطابق لقوله " فله أوكسهما أو الربا " فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما , وهو مطابق لصفقتين في صفقة . فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد , وهو قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها , ولا يستحق إلا رأس ماله , وهو أوكس الصفقتين , فإن أبى إلا الأكثر كان قد أخذ الربا .
فتدبر مطابقة هذا التفسير لألفاظه صلى الله عليه وسلم وانطباقه عليها .
ومما يشهد لهذا التفسير : ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن بيعتين في بيعة " و " عن سلف وبيع " فجمعه بين هذين العقدين في النهي لأن كلا منهما يئول إلى الربا , لأنهما في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا .
ومما يدل على تحريم العينة : حديث ابن مسعود يرفعه " لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والمحل والمحلل له " .
ومعلوم أن الشاهدين والكاتب إنما يكتب ويشهد على عقد صورته جائزة الكتابة والشهادة لا يشهد بمجرد الربا , ولا يكتبه . ولهذا قرنه بالمحلل والمحلل له , حيث أظهرا صورة النكاح ولا نكاح , كما أظهر الكاتب والشاهدان صورة البيع ولا بيع .
وتأمل كيف لعن في الحديث الشاهدين والكاتب والآكل والموكل ؟ فلعن المعقود له .
والمعين له على ذلك العقد ولعن المحلل والمحلل له , فالمحلل له : هو الذي يعقد التحليل لأجله والمحلل : هو المعين له بإظهار صورة العقد كما أن المرابي : هو المعان على أكل الربا بإظهار صورة العقد المكتوب المشهود به .
فصلوات الله على من أوتي جوامع الكلم .
الدليل السابع : ما صح عن ابن عباس أنه قال " إذا استقمت بنقد , فبعت بنقد , فلا بأس , وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا خير فيه , تلك وورق بورق " رواه سعيد وغيره .
ومعنى كلامه : أنك إذا قومت السلعة بنقد ثم بعتها بنسيئة كان مقصود المشتري شراء دراهم معجلة بدراهم مؤجلة وإذا قومتها بنقد ثم بعتها به فلا بأس . فإن ذلك بيع المقصود منه السلعة لا الربا .
الدليل الثامن : ما رواه ابن بطة عن الأوزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع " يعني العينة .
وهذا - وإن كان مرسلا - فهو صالح للاعتضاد به , ولا سيما وقد تقدم من المرفوع ما يؤكده .
ويشهد له أيضا قوله صلى الله عليه وسلم " ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها " .
وقوله أيضا , فيما رواه إبراهيم الحربي من حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أول دينكم نبوة ورحمة , ثم خلافة ورحمة , ثم ملك ورحمة , ثم ملك وجبرية , ثم ملك عضوض يستحل فيه الحر والحرير " والحر - بكسر الحاء وتخفيف الراء - هو الفرج .
فهذا إخبار عن استحلال المحارم , ولكنه بتغيير أسمائها , وإظهارها في صور تجعل وسيلة إلى استباحتها , وهي الربا والخمر والزنا , فيسمى كل منها بغير اسمها , ويستباح الاسم الذي سمي به , وقد وقعت الثلاثة .
وفي قول عائشة " بئسما شريت , وبئسما اشتريت " دليل على بطلان العقدين معا وهذا هو الصحيح من المذهب , لأن الثاني عقد ربا والأول وسيلة إليه .
وفيه قول آخر في المذهب . أن العقد الأول صحيح , لأنه تم بأركانه وشروطه , فطريان الثاني عليه لا يبطله وهذا ضعيف , فإنه لم يكن مقصودا لذاته , وإنما جعله وسيلة إلى الربا , فهو طريق إلى المحرم , فكيف يحكم بصحته ؟ وهذا القول لا يليق بقواعد المذهب .
فإن قيل : فما تقولون فيمن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة ؟ قلنا : قد نص أحمد في رواية حرب على أنه لا يجوز إلا أن تتغير السلعة لأن هذا يتخذ وسيلة إلى الربا , فهو كمسألة العينة سواء وهي عكسها صورة وفي الصورتين قد ترتب في ذمته دراهم مؤجلة بأقل منها نقدا , لكن في إحدى الصورتين : البائع هو الذي استغلت ذمته , وفي الصورة الأخرى : المشتري هو الذي استغلت ذمته , فلا فرق بينهما .
وقال بعض أصحابنا : يحتمل أن تجوز الصورة الثانية . إذا لم يكن ذلك حيلة ولا مواطأة بل واقع اتفاقا .
وفرق بينهما وبين الصورة الأولى بفرقين .
أحدهما : أن النص ورد فيها فيبقى ما عداها على أصل الجواز .
والثاني : أن التوسل إلى الربا بتلك الصورة أكثر من التوسل بهذه .
والفرقان ضعيفان . أما الأول : فليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة . والعينة فعلة من العين , قال الشاعر : أندان أم نعتان , أم ينبري لنا مثل نصل السيف ميزت مضاربه ؟ قال الجوزجاني : أنا أظن أن العينة إنما اشتقت من حاجة الرجل إلى العين من الذهب والورق , فيشتري السلعة ويبيعها بالعين الذي احتاج إليها , وليست به إلى السلعة حاجة .
وأما الفرق الثاني . فكذلك , لأن المعتبر في هذا الباب هو الذريعة , ولو اعتبر فيه الفرق من الاتفاق والقصد لزم طرد ذلك في الصورة الأولى , وأنتم لا تعتبرونه .
فإن قيل : فما تقولون إذا لم تعد السلعة إليه بل رجعت إلى ثالث هل تسمون ذلك عينة ؟ قيل : هذه مسألة التورق , لأن المقصود منها الورق , وقد نص أحمد في رواية أبي داود على أنها من العينة , وأطلق عليها اسمها .
وقد اختلف السلف في كراهيتها , فكان عمر بن عبد العزيز يكرهها , وكان يقول " التورق أخية الربا " .
ورخص فيها إياس بن معاوية .
وعن أحمد فيها روايتان منصوصتان , وعلل الكراهة في إحداهما بأنه بيع مضطر وقد روى أبو داود عن علي " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المضطر " وفي المسند عن علي قال " سيأتي على الناس زمان يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك , قال تعالى { ولا تنسوا الفضل بينكم } ويبايع المضطرون , وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر " وذكر الحديث .
فأحمد رحمه الله تعالى أشار إلى أن العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نقد , لأن الموسر يضن عليه بالقرض , فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها , فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة , وإن باعها من غيره فهي التورق . ومقصوده في الموضعين : الثمن فقد حصل في ذمته ثمن مؤجل مقابل الثمن حال أنقص منه , ولا معنى للربا إلا هذا لكنه ربا بسلم , لم يحصل له مقصوده إلا بمشقة , ولو لم يقصده كان ربا بسهولة .
وللعينة صورة رابعة - وهي أخت صورها - وهي أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة , ونص أحمد على كراهة ذلك فقال : العينة أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة , فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس .
وقال أيضا : أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة فلا يبيع بنقد .
قال ابن عقيل : إنما كره ذلك لمضارعته الربا , فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة غالبا .
وعلله شيخنا ابن تيمية رضي الله عنه بأنه يدخل في بيع المضطر , فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه , فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة , وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجرا من التجار .
وللعينة صورة خامسة - وهي أقبح صورها , وأشدها تحريما - وهي أن المترابيين يتواطآن على الربا , ثم يعمدان إلى رجل عنده متاع , فيشتريه منه المحتاج , ثم يبيعه للمربي بثمن حال ويقبضه منه , ثم يبيعه إياه للمربي بثمن مؤجل , وهو ما اتفقا عليه , ثمن يعيد المتاع إلى ربه , ويعطيه شيئا , وهذه تسمى الثلاثية لأنها بين ثلاثة , وإذا كانت السلعة بينهما خاصة فهي الثنائية .
وفي الثلاثية : قد أدخلا بينهما محللا يزعمان أنه يحلل لهما ما حرم الله من الربا . وهو كمحلل النكاح . فهذا محلل الربا , وذلك محلل الفروج , والله تعالى لا تخفى عليه خافية . بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
.................................................. ....................................
__________________