السلام عليكم ورحمة وبركاتة
أين بكاء العُبَّاد الخاشعين ؟
إنها صافية اللون، لؤلؤية البريق ..
تتحدر على الوجنات، وتمتزج بشهيق العبرات ..
إنها قطرات الدموع، مبدؤها قلوب مشفقة، وعقول متدبرة،
وألسن تالية، وشفاه مسبحة
ومن بعد عيون دامعة، إنه بكاء الخشية والخوف .
بكاء الرجاء والشوق ..
بكاء التوبة والندم ..
بكاء الإدكار والاعتبار ..
بكاء تغسل به الدموعُ الذنوبَ، وتمحو به العبراتُ السيئاتِ .
لله ذلك البكاء، ما أجلاه للقلوب، وما أزكاه للنفوس !
أين بكاء الخلوة من بكاء الجلوة ؟ وأين بكاء العُبَّاد الخاشعين من بكاء
العشاق المحبين ؟
أين الثرى من الثريا ؟
مع تلاوة كل آية دمعة، ومع كل دعوة دمعة، ومع كل سجدة دمعة،
دموع غزيرة لكنها عزيزة .
إنه بكاء التلاوات، وبكاء الصلوات .
{ ان الذين اوتوا العلم من قبله إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً *
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً *
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً }
[ الإسراء7-109]
ومثل هذا البكاء بكاء قوة لا ضعف، وبكاء عز لا ذل، إنه نعمة من الله،
وقربة إلى الله
وسمة لصفوة خلق الله
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا
مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً }
[ مريم8 ] .
إنه بكاء التعلّق بطاعة الله ، والشوق إلى لقاء الله، والحب العارم لنصر دين الله .
{ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ
تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ }
[ التوبة2 ]
عجباً للقوم، ما السبب في أن عيونهم تفيض دمعاً ؟
إنهم يبكون لأنهم حرموا فرصة الموت في سبيل الله، الله أكبر !
إنه بكاء العظة والعبرة تلامس القلوب فتذرف العيون ،
صورة رسمتها رواية العرباض بن سارية
رضي الله عنه حين قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة
ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب.
ما أعظم الواعظ وما أرق السامعين !
إنه بكاء الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تجلى عندما قال :
أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير
وترجعون برسول الله – صلى الله عليه وسلم – في رحالكم ؟ ...
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً .
وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال:
سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول
على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول،
فبكى أبو بكر رضي الله عنه حين ذكر رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
لله أنت يا رقيق القلب يا سريع الدمع يا عظيم الحب ، يا أبا بكر الصديق !
إنه بكاء التذكر والتفكر في الموت والقبر، والبعث والنشر .
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:
بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أبصر بجماعة فقال :
علام اجتمع عليه هؤلاء ؟
قيل : على قبر يحفرونه ، قال : ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فبدر بين يدي أصحابه
مسرعا حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه .
قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع .
فبكى حتى بل الثرى من دموعه ، ثم أقبل علينا ،
قال : أي إخواني لمثل اليوم فأعدوا .
أي موعظة بليغة حية مثل موعظتك يا رسول الله ؟
إنه بكاء الندم على التقصير في دقيق الأمور قبل جليلها .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قام خطيباً فكان فيما قال:
ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بالحق إذا علمه .
قال: فبكى أبو سعيد وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا .
فليسمع وليقرأ العلماء والدعاة ليتعلموا السمت ويعرفوا التبعة .
اقتربوا أكثر فأكثر لتروا الدموع وتسمعوا البكاء،
فهذا عبدالله بن الشخير رضي الله عنه يقول :
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء
صلى الله عليه وسلم .
وهذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول:
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي القرآن .
قال فقلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟
قال : إني أشتهي أن أسمعه من غيري .
فقرأت النساء . حتى إذا بلغت :
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا }.
رفعت رأسي . أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي . فرأيت دموعه تسيل .
فلنعش مع الأصحاب رضوان الله عليهم ..
فهذا أبو أمامة رضي الله عنه يخبر فيقول :
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ورققنا فبكى سعد فأكثر البكاء .