المعصية : هي أحد الوسائل التي يستعين بها الشيطان على عدوه الإنسان وبها يقع في أسره ، فيزج به في سجن الشهوات ، ويقيده بسلاسل الأهواء ، فهو أسير مسجون مقيد .
وأسوأ أسير هو الذي يكون في أسر عدوه ، فإذا جمع عليه كل ذلك فأنّا له أن يخطو خطوةً واحدة إلى الله والدار الآخرة .
نعم : إذا كبل القلب بتلك القيود وضيق عليه في سجن لايرى من داخله النور فكيف الخلاص للأسير وما العمل حتى يهرب من تلك الظلمات إلى النور .
العمل : هو أن يعلم كل أسير لشهواته وأهوائه بل أسير الشيطان ، أن القلب كلما أبعد من الله كانت الآفات إليه أسرع ، والشيطان أخبث آفةٍ للإنسان بل هو وحشُُ شرس كاسر إذا انقض على فريسته لايدعها تخطو خطوةً واحدة إلا بأمره وترسيمه الشيطاني .
وكلما كان القلب أقرب إلى الله بعُدت عنه تلك الآفات ، والبُعد عن الله مراتب بعضها أشد من بعض ، فالغفلة ، تبعد العبد من الله ، وبعد المعصية أي الأستمرار فيها أعظم من بُعد الغفلة ، وبعد البِدعة أعظم من بُعد المعصية . وبُعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله .
الذنوب الشيطانية :
هي التي يقترفها الإنسان : فتكون مثل تلك التي يتعاطاها الشيطان مع عدوه الإنسان فيكون شبيهاً به .
وهي : الحسد ، البغي ، الغل ، الخداع، المكر ، الأمر بالمعاصي وتحسينها للناس، النهي عن طاعة الله وتجنبها ، الإبتداع في الدين : الدعوة إلى البدع والضلال.
الذنوب جميعها تنقسم إلى أربعة أقسام هي : ملكية ، وشيطانية وسبعية وبهيمية .
ولا مانع بعد أن أوضحنا الذنوب الشيطانية ، أن نوضح ماهية الذنوب الأخرى .
الذنوب الملكية :
فهي : العظمة ، والكبرياء ، والجبروت ، والقهر ، والعلو بغير الحق، واستعباد الناس ، ويدخل في ذلك الشرك بالله بأسمائه وصفاته وجعل ألهةً أخرى مع الله . ويشرك في معاملته . وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب لأن صاحبه قد نازع الله سبحانه في ربوبيته وملكه ، وجعل نفسه نداً لله فهي أعظم الذنوب عند الله ولا ينفع معها عمل .
الذنوب السبعية :
فهي : ذنوب العدوان والغضب ، وسفك الدماء والتوثُّب على الضعفاء والعاجزين ويتولد منها نوع الأذى الإنساني ، والجرأة على الظلم والعدوان .
الذنوب البهيمية :
منها : الشّره ، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج ، ومنها يتولد: الزنى ، والسرقة ، وأكل أموال اليتامى ، والبخل ، والشح ، والجبن ، والهلع والجزع ، وغير ذلك .
آفات نحذرها :
قيل من حفظ أربعاً فقد أحرز دينه : اللحظات ، والخطرات ، واللفظات والخطوات .
اللحظات:
هي : رائدة الشهوة ورسولها ، وحفظها حفظاً للفرج ، ومن أطلق نظره أورد نفسه المهالك ، قال النبي ص : ( ياعلي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية ) أخرجه الحاكم والقضاعي في مسند الشهاب .
وفي المسند عند الحاكم : أن النبي ص قال : ( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ) .
فمن عفى بصره عن محاسن إمرأة أورث الله قلبه حلاوة العبادة إلى يوم القيامة.
وقال ص : ( غضّوا أبصاركم واحفظوا فروجكم ) أخرجه الإمام أحمد والحاكم عن عبادة ابن الصامت بلفظ .
( إضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة أصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا واعدتم ، وأدوا إذا اؤتمنتم واحفظوا فروجكم وغضّو أبصاركم وكفوا أيديكم ) قال الحاكم صحيح الأسناد .
ومن آفات النظر : أنه يورث الحسرات ، والزفرات ، والحرقات ، فيرى المرء ماليس قادر عليه ولا صابراً عنه وهذا من أعظم العذاب . قيل : إن حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات .
قال الشاعر :
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كل نظرة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
الخطرات :
أما الخطرات : فشأنها أصعب فهي مبدء الخير والشر ، ومنها تولد الارادات والهمم والعزائم ، فمن راع خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه، ومتى غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب ، ومن استهان بالخطرات قادته قهراً إلى الهلاك ، ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير أماني باطلة ، وأضعف الناس همةً وأوضعهم نفساً من رضي بالأماني الكاذبة عن الحقائق .
والأماني الكاذبة : تتولد دائماً من العجز والكسل ، فهي بالتالي تولد : التفريط والإضاعة والحسرة والندامة . فلا ينبغي للإنسان أن يدع لخطراته أن توصله للضعف والوضاعة ، بل ينفي عنها كل خاطرة لا حقيقة لها ويستجلب من الخطرات مافيه طهارة النفس وزكاؤها وعلوها .
ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى : ركب في الإنسان نفسين ، نفساً أمارة ، ونفساً مطمئنة ، وهما متفاوتتان ، يقول الله تعالى { وهديناه النجدين } البلد 10 . وقال تعالى { يا أيتها النفس المطمئنة . ارجعي إلى ربك راضية مرضية } الفجر 27-28 . وقال تعالى { أن تقول نفس ياحسرتى على مافرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين } الزمر 56 .
فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله وإيثار رضاه على هواها وكذا ليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله ، وإجابة داعي الهوى وليس عليها شيء أضر منه .
والملك : مع هذه عن يمين القلب ، والشيطان : مع تلك عن ميسرة القلب . والحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلى أن تستوفي أجلها من الدنيا . والباطل كله يتميز مع الشيطان والنفس الأمارة . والحق كله يتميز مع الملك والنفس المطمئنة ، والحروب دول وسجال ، والنصر مع الصبر ومن صبر وصابر ورابط واتقى الله فله العافية في الدنيا والآخرة .
اللفظات:
وحفظها : بأن لايخرج لفظة ضائعة ، قال يحيى بن معاد ( القلوب كالقدور تغلي بما فيها ، وألسنتها مغارفها ) فذاك رجل يتكلم ولسانه يغترف لك مافي قلبه ، فانظر إلى مايخرج من قلبه، حلواً ، حامضاً ، عذباً ، أجاجاً أو غير ذلك . ثم تدرك العلم بحقيقته .
روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه ( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ) .
سئل النبي ص : عن أكثر مايدخل الناس النار .. ؟ فقال : ( الفم والفرج) أخرجه البخاري في الأدب المفرد . وقال الترمذي حديث حسن صحيح .
ومن العجب أن الإنسان يتحرز ويتحفظ عن كثير من المحرمات ، ويصعب عليه التحفظ في حركة لسانه ، فكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات . ولايبالي بما يقول .
روى مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله ص ( قال رجل : والله لايغفر الله لفلان ، فقال الله عز وجل : من ذا الذي يتألّى عليّ أني لا أغفر لفلان .. ؟ قد غفرت له وأحبطت عملك ) .
فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله .
روى مسلم أيضاً عن النبي ص قال : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة مايتبين مافيها يهوي بها في النار أبعد مابين المغرب والمشرق ) .
وفي اللسان آفتان عظيمتان :
إن خلص من إحداهما ، لم يخلص من الأخرى ، هما : آفة الكلام، وآفة السكوت . وقد يكون كل منهما أعظم إثماً من الأخرى .
فالساكت عن الحق : شيطان أخرس عاصٍ لله مراءٍ مداهن إذا لم يكن في ذلك مخافة على نفسه .
والمتكلم بالباطل : شيطان ناطق عاصٍ لله ، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته ، فمنهم من يكون بين هذين النوعين ، وأهل الوسط هم أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل ، وأطلقوها فيما يعود عليهم منفعةً في الآخرة . فلايرى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة عن أنها تضره في آخرته . وأن العبد يأتي يوم القيامة بحسنات مثل الجبال فيجد لسانه قد هدمها كلها في كلام ليس له بحق أن ينطق به .
ويأتي عبدُُ آخر : بسيئات مثل الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله عز وجل وذلك فضل الله يوتيه من يشاء .
الخطوات :
أما الخطوات : فحفظها أن لا ينقل الإنسان قدمه إلاّ فيما يرجو ثوابه عند الله ، فإن لم تكن خطاه مزيداً له من ثواب، فالقعود عنه خير له . ويمكنه أن يستخرج من كل مباح يخطو إليه قربة يتقرب بها وينويها لله . فيكون له بذلك عبادة وطاعة . ويمتدح الله عز وجل عباده بقوله { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً }
الفرقان 63 .
فالفواحش وغيرها من المحرمات وكبائر الذنوب : تستدعي الإنسان لأن يخطو ليظفر بها ، فهذا القاتل لايمكن أن يقتل قتيله إلا اذا خطا وأتى اليه ليقتله وكذا السارق ، والزاني ، وغير ذلك من خطوات فيها إتلاف وفساد وخراب في الدنيا والدين ، وضياع حقوق ، ومظالم ، كل ذلك يستدعي للخطوات . وكذلك الأعمال الصالحة تستدعي للخطوات ، فالفارق شتان فيما بين هذه وتلك . وكلها خطوات . والكيس من وضع قدمه يخطو بها في عمل يرضي الله ، فهي له أثر طيب ومثوبة من عند الله