قراءة من كتاب الشباب تطلع نحو المسؤولية
إنسان بلا مسؤوليات :
نقِّل بصرك في أرجاء هذا الكون الفسيح ..
هل ترى من شيء إلاّ وله مسؤولية أو عدّة مسؤوليات يمارسها ؟
الشمس والقمر مسؤولان عن إنارة الأرض والسّماء في النهار وفي اللّيل .. ولولا هذا السراج وهذا المصباح لغرق الكون في ظلام دامس مخيف .. ولهما أعمال أخرى ..
والليل والنهار مسؤولان في تعاقبهما عن هذا التقسيم الزمنيّ لليوم .. فنهارٌ للنشاط والمعاش وليلٌ للنوم والسبات ، ولولا هذا التنظيم الوقتي الدقيق لاختلّ نظام الحياة في نهار طويل لا ليل بعده ، أو ليل طويل لا نهار ينسلخ عنه .
وهذه النسائم التي تحلّق بأجنحتها الرخيّة هنا وهناك .. لو لم تهبّ علينا لتنقل لنا أنفاس الحياة .. لكنّا أصبنا بحالة اختناق لا نجاة منه .
وهذا الماء العذب الرقراق الذي يسيل أنهاراً وينابيع وعيوناً .. فيسقي الزرع ويروي عطش الإنسان والحيوان .. والبحر المالح الذي يحمل على صدره السفن الماخرة .. وفي بطنه تعيش ملايين الأسماك ..
وهذه الطيـور السـابحة في الجوّ .. والتي تدرج على الأرض .. والماشية والنحل والنملُ ، بل حتى الحيوانات المفترسة في الغابة .. كلّ له دوره ووظائفه .
فما بالك بالإنسان وهو أشرف هذه المخلوقات وأكرمها وأعظمها عند الله سبحانه وتعالى ؟
منذ بداية الخلق حدّد الله له مسؤوليته: (قالَ إنِّي جاعِل في الأرض خلِيفة ). ومنذ ذلك الحين عرف الإنسان طبيعة مسـؤوليته : (إنّا عرضنا الأمانة على السّـموات والأرض والجِبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان ) أي حمل مسؤولية إعمار الأرض وفقاً لإرادة الله الذي استخلفه .
الكون كلّه إذاً مسؤول .. من أصغر شيء حتى أكبر شيء فيه ، فلا تكاد ترى شيئاً إلاّ وله مسؤولية قد تكون معلومة بالنسبة لنا وقد لا تكون .. وإذا كانت الكائنـات الأخرى مسـيّرة لما خلقت له ، أي تمضي في القيام بواجباتها حسب نظام كوني قدّره الله لها ، فإنّ الكائن الوحيد المختار ذا الإرادة هو الإنسان.. إنّه ـ بحسب طبيعة خلقته أيضاً ـ عليه أن يعمل بمسؤولياته ، ويمكنه أيضاً أن يتخلّى عنها . وعلى حسب اختياره ـ عملاً وتخلياً ـ تترتب النتائج فوزاً وخسارة .
فلقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن تكون الحياة الدنيا ورشة عمل كبيرة ، وساحة سباق وتنافس في الخيرات (هو الّذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أ يّكم أحسن عملا ) . حتى إذا انتهت هذه الرحلة الأرضـية منذ أبينا آدم (عليه السلام) وحتى آخر مخلوق ، أقبلنا على الساحة الثانية (المحشر والقيامة) التي يعلو فيها النداء : (وقِفوهُم إنّهُم مَسؤولون ).
هناك تتوالى الأسئلة : ماذا فعلتم بمسؤولياتكم ؟ هل أدّيتموها كما يجب ؟ لماذا أنجزتم بعضها وأهملتم البعض الآخر ؟ هل قمتم بها إبتغاء مرضاة الله أم لأغراض دنيوية وشخصية بحتة ؟ .. إلخ .
وبإختصار شديد ، فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق كلّ مخلوق لغاية معيّنة ، ولمسؤولية معيّنة ، وقد هداه إلى كيفية ممارستها ضمن ما آتاه من إمكانات تتناسب وأداء هذه المسؤولية . ولا يوجد مخلوق على هذه الأرض لا يعرف ما هي المسؤولية أو المسؤوليات التي خُلِق من أجلها . فالكون الفسيح الذي يحيطنا في أرضه ومائه وسمائه مصمّم على أساس المسؤولية التي تهدف إلى خدمة الإنسان ، والإنسان مزوّد بطاقات مسـؤولة عن أعمار وإصلاح وازدهار هذا الكـون ، فلا عبث ولا سدى (أفحسـبتُم أنّما خلقناكم عبـثا )، (أحسب الإنسان أن يُترك سدى ).
هل فكّرت مرّة بإنسان بلا مسؤوليات ؟ هل يمكن أن تتصوّر نفسك في حلّ من أيّة مسؤولية في الحياة ؟ كيف يكون شكل الحياة حينئذ ؟
إنّ حياة خالية من المسؤوليات هي أشبه شيء بمدرسة بلا وظائف وتكاليف ، لا يشعر فيها التلاميذ بأيّة التزامات ، كيف تسير عملية الدراسة فيها ؟ وكيف يمكن تحقيق النتائج المرجوّة ؟ كيف يمكن تمييز العامل من الخامل والمنتج من المتـقاعس ؟ فمـجرّد التفـكير بالحـياة الفارغة التي لا يجد فيها الإنسان إنسانيته من خلال كونه مسؤولاً يجعلنا نشعر بالدوار والعبث والفراغ الهائل ، لأ نّها تصبح عند ذاك حياة الغرائز المنفلتة .
انّك حين تعيش المسؤولية في البيت فإنّك تعيش الالتزام الأخلاقي إزاء الأسرة ، فللأب مسؤولياته تجاه أولاده وزوجته ، وللزوجة مسؤوليات إزاء زوجها وأولادها ، وللأولاد مسؤولياتهم إزاء الأبوين وإزاء بعضهم البعض، وإذا تحلّلنا من ذلك وتنصّلنا عنه تزعزعت أركان الأسرة
وتصدّعت ، فلا يعود هناك أب يهتم بشؤون أسرته ولا أُم ترعى مصالح أبنائها ، ولا أبناء يشعرون بوجوب الإحسان للوالدين .
عالم بلا مسؤوليات هو عالم مهدّد بالفساد والخراب وبالحروب الضارية وبالتنازع والفشل والخصومات التي لا حدود لها .. إنّه انهيار كلِّي شامل ، فمثل المسؤول كمثل ربّان السفينة إذا ترك سفينته في مهبّ الريح وبيد الأمواج المتصارعة فإنّه يكون قد أسلمها وأسلم ركّابها وحمولتها إلى الخطر الداهم والغرق المحقق .
ولذلك ، فإنّ من بين ملامح الجمال والحكمة في هذا العالم هي هذه المسؤوليات التي تناط بنا ، ونتنافس على أدائها بأفضل وجه .
بداية المسؤولية :
ها أنت تغادر مسرح طفولتك وملعب صباك لتطأ أعتاب شبابك .. تلك مرحلة انطوت لم تكن فيها مسؤولاً .. أبوك وأمّك كانا يتوليان رعايتك ويقومان بمسؤولية تربيتك والإنفاق عليك .. اليوم اختلف الأمر .. ما زلت قريباً منهما وتحظى بعنايتهما لكنّك لم تعد ذلك الطفل الصغير اللاّهي .. لقد تغيّرت فيك أشياء كثيرة سواء في جسدك أو في مداركك العقلية .. إنّك الآن تدخل عالم الكبار .. تتحوّل من طفل إلى رجل .
هذا التغيّر الذي يحصل لكل فتى وفتاة يمثل إنتقالة طبيعية لكلّ منهما ، لكنّه أيضاً يمثِّل مرحلة جديدة في عالم المسؤوليات .. فمن (طفل لاه) إلى (رجل مسؤول) أو (امرأة مسؤولة) .
في هذه السنّ التي يطلق عليها بـ (المراهقة) يصبح الشاب والشابّة مسؤولين أمام الله سبحانه وتعالى ضمن تكاليف وفروض وواجبات عليهما أن يمارساها خلال فترة حياتهما .
ماذا يعني ذلك ؟
يعني أنّ الشابّ ـ فتى كان أو فتاة لا فرق ـ سيقف منذ اليوم هو والأكبر سناً منه على قدم المساواة في ساحة المسؤولية والمحاسبة ، فأنا ـ حديث العهد بالإلتزام بالمسؤولية ـ وأبي وأمّي اللذان سبقاني إلى تحمّل مسؤولياتهما مطالبون بأداء نفس المسؤوليات .. هما يتحملان مسؤولية أعمالهما وأنا أتحمّل مسؤولية أعمالي أداءً وتقصيرا ..
لقد ولّى عهد التواكل والإسترخاء واللهو والعبث الطفولي ، ودقّت ساعة العمل الجادّ ، ففي هذا المعمل الواسع الكبير الذي اسمه الكون لك موقعك بين مواقع العمل المسؤول ، وهو أشبه شيء بورشات متعددة تعمل باتجاه هدف واحد هو كسب مرضـاة الله سبحانه وتعالى : (يا أ يُّها الإنسانُ إنّك كادحٌ إلى ربِّكَ كدحاً فمُلاقيه ).
مسؤولياتنا مشتركة :
قد تختلفين أنت كفتاة بالغة مع أخيك البالغ في العمر الذي يتحمّل فيه كلّ منكما مسؤوليته ـ بحسب طبيعة تكوين كلّ منكما ـ لكنّ المسؤوليات بينكما مشتركة .. فهو مكلّف بأمور معيّنة ، وأنت كذلك أصبحت مكلّفة بالأمور نفسها . وقد تكون هناك بعض الفوارق في مسؤولياتك ومسؤولياته إلاّ أ نّكما بصفة عامّة لكما مسؤولياتكما التي لا تختلف بين فتى أو فتاة .
فمنذ أن عاش أبونا آدم وأمّنا حوّاء في الجنّة التي ذكرها الله تعالى في كتابه ، توجّهت المسؤولية إليهما معاً : (ألم أنهكما ) و (أقل لكما )و (إنّ الشّيطان لكما عدو ) وهذا واضح من التثنية في الخطاب ، فلآدم مسؤوليته ولحواء مسؤوليتها .
على ضوء هذا نعرف أ نّنا كشبّان أو كفتيات نتحمّل مسؤولياتنا كلٌّ بصفته الشخصية ، فإذا استقام الشاب وأحسن فله جزاء عمله الحسنى وزيادة ، وإذا قصّر وأخطأ فهو يدفع ضريبة تقصيره وأخطائه (يوم تأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها ).
وقد يتصور بعض الشباب خطأ أنّ مسؤولية الفتى الشاب هي أخفّ من مسؤولية الفتاة الشابّة ، وكأنّ سمعة الفتاة غير سمعة الفتى . في حين أنّ المسؤولية في الأخطاء واحدة . وكما تتحمّل الفتاة الخاطئة نتائج ومسؤولية عملها ، فكذلك الفتى المخطئ ، حتى لو اختلف الناس في النظرة إلى كلّ منهما .
إنّ كلّ خطاب في القرآن الكريم سواء جاء بلغة الجمع المخاطَب أو بكلمة (الناس) أو (الّذين آمنوا) أو (يا بني آدم) هو خطاب للجنسين معاً : الذكر والأنثى ، وقد وردت بعض الآيات التي تقرن وتجمع بينهما في إطار المسؤوليات الملقاة على عاتق كلّ منهما كما في الآية الكريمة : (إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصّـادقين والصّـادقات والصّـابرين والصّابرات والخاشـعين والخاشـعات والمتصـدِّقين والمتصـدِّقات والصّـائمين والصّـائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذّاكرين الله كثـيراً والذّاكرات أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً ) .
نماذج قرآنية :
على شاشـة القرآن الكريم ، يمكن مشـاهدة العديد من النماذج والعينات الشبابية التي عرفت مسؤوليتها بعمق وتحملتها بشرف ، فقدّمت بذلك المثال الذي يحتذى لكل شاب أو شابّة يريدان أن ينهضا بمسؤولياتهما في هذه الحياة .
ففي عالم الأنبيـاء (عليهم السلام) نلتقي بـ (الفتى إبراهيم) في مرحلة تفتّح شبابه لنطالع وجهاً ينضح بالفتوّة ويطفح بالثقة ، هازئاً بما يعبد الآباء من الأصنام ، حتى أ نّه يغافل قومه المشركين فيحطّم أصنامهم بفؤوس أصنامهم ، وذلك عندما يعلّق الفأس التي كسّر بها الأصنام في رقبة الصنم الكبير ليجعله في موضع اتهام ومساءلة ، وقد عرف قومه ذلك من خلال مواقفه الهازئة المستخفّة بعبادة ما لا يضرّ ولا ينفع (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يُقال له إبراهيم ) .
إنّ فتوة إبراهيم (عليه السلام) المسخّرة في إلفات نظر قومه إلى ضرورة عبادة الله الواحد الأحد ، سواء من خلال محاورة النجوم ، أو محاورة الحاكم الطاغية (نمرود) أو في دعوة أبيه إلى الهدى ، وصبره ومقاومته في تحمّل نتائج مسـؤوليته ، ترسـم لنا صـورة الفتـوّة الإبراهيمـية المسؤولة التي يراد لنا أن نقتدي بها (لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والّذين معه ).
ثمّ يطل علينا وجه الغـلام (إسماعيل) الذي شرب من نهر أبيه إبراهيم (عليه السلام) ماء الفتـوّة المطيعة لله سـبحانه وتعالى ، وكيف أبدى استعداداً عالياً للتضحية بنفسه من أجل تنفيذ إرادة الله سبحانه وتعالى، ثمّ وهو يساعد أباه في مهمّة بناء الكعبة المشرّفة .
وعلى مثل هذه الفتـوّة المطيعـة لله ، المعـينة على البرِّ والإحسان (وصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب قال يا بني إنّ الله اصطفى لكم الدِّين فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون ) .
ويشرق على شاشة القرآن وجه الفتى (داود) الذي يوظّف فتوّته اليافعة في مقاومة الظالمين وإدهاشهم بالروح الاستشهادية من أجل الحقّ .
وأمّا فتوّة الشاب الجميل النبيل (يوسف) (عليه السلام) فكانت مسؤولة عن ضرب المثل الرائع للشاب العفيف الذي يربأ بنفسـه أن يقع في أحضان الرذيلة ، والشاب الذي يمارس الدعوة إلى توحيد الله حتى وهو في السجن .
وتتجلّى فتوّة (موسى) (عليه السلام) في استقامته على الإيمان رغم أ نّه نشأ وترعرع في الأجواء الكافرة ، وفي (مدين) حينما يسقي للفتاتين بكلّ شهامة وحياء إيماني ، وفيما يجابه من غطرسة فرعون وجبروته .
ثمّ يطلّ علينا وجه الفتى (عيسى) (عليه السلام) برّاً بوالدته ولم يكن جباراً عصياً ، فلقد حمل مسؤوليته منذ نعومة أظفاره في رسم منهج أخلاقي لقومه يربطهم من خلاله بعبادة الله تعالى وحده .
وأمّا (محمّد) (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّنا لم نقرأ في القرآن شيئاً عن مسؤولياته في شبابه ، ولكنّنا عرفنا من خلال سيرته المطهّرة كيف أ نّه كان ينصرف عن الترّهات والخرافات والأوهام ليتعبّد في (غار حراء) .. وكيف بنى شخصيته التي اتسمت بالصدق وطبعت بالأمانة حتى صارت مضرب الأمثال بين قريش .
وعلى غير صعيد الأنبياء (عليهم السلام) يطالعنا على الشاشة القرآنية ، التي تعرض لنا صوراً عن الفتوّة المسؤولة ، (الفتية أصحاب الكهف) الذين شعروا أن مسؤوليتهم هي في اجتناب التعامل مع الحاكم الظالم ، وعدم الانخراط في مشاريعه الإفسادية .
وتتألق صورة الشابة المسؤولة (مريم بنت عمران) (عليها السلام) في مثل أعلى من الحياء والعفاف والصون والعبادة يحـتذى ، و (أخت موسى) التي تلعب دوراً مسؤولاً في إنقاذ أخيها من الموت جوعاً بعدما حرّم الله عليه المراضع ، والعمل على إنفاذ وعد الله لأمِّه في عودته سالماً كي تقرّ به عيناً .
هذه المشاهد القرآنية للشباب المسؤول تريد أن تقول :
الأنبياء (عليهم السلام) والمؤمنون كانوا جميعاً مسـؤولين في شبابهم .. وهم قدوات وأسوات حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر .. فخذوا من شبابهم لشبابكم .. ومن عطائهم لعطائكم .. إن كنتم تريدون معرفة : ما هي المسؤولية في الإسلام ؟!
وللكتاب بقية ,,,