كل ما احتاجه هو مجرد جملةٌ شبقية بشكلٍ متدنٍ.. أثير بها غرائزكم، فتستمنون علانية سيل إعجابكم.. ما أسخف الكتابة، وأن يكون المرء كاتباً هو أمر يثير السخرية حقاً.. أنا هنا لا أدعي انفرادي بهذا الاستنتاج الساخر، بل يقاسمني إياه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، وعليكم مراجعة كتاب "ميشيل فوكو- جاك دريدا/ حوارات ونصوص – ترجمة: محمد ميلاد"..
المشكل في الكتابة هو الاعتقاد السائد بأنها عملية تفريغ وفضفضة الداخل إلى الخارج.. بينما الكتابة في واقع الأمر هي النقيض تماماً، ويمكن وصفها بعملية الامتلاء وليس الإفراغ.. بشكل مبسط يمكننا شرح عملية الكتابة على أنها انزواء الكاتب أمام ورقة بيضاء، يكون الذهن فيها خالياً من الأفكار، شيئا فشيئا ثم تصبح جملة من الأشياء حاضرة، بعد ساعتين أو يومين أو أسبوعين، النص موجود ونعرف عنه أكثر بكثير من ذي قبل. إذاً كان الذهن خالياً ثم أصبح ملآنا، وعليه تميل الكتابة لكونها عملية ملء وليس إفراغاً.. وبفراغها الخاص نصنع هالة من الزخم..
أضف إلى ذلك، هو الإيهام الذي يعيشه البعض باعتبار الكتابة طريقة لتعرية الذات، في الوقت الذي تكون فيه الكتابة –كإبداع- ادّعاء كوني يفوق الذات الفاعلة ويتمدد من فوقها متجاوزاً إياها وكاسرا لظروفها وكاسراً ظروفها وحدودها، كما يذهب إليه الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه "الكتابة ضد الكتابة/ دار الأداب-بيروت/ط1 1991".. ويقول: "الكتابة عمل تحريضي، يحرض الذات ضد الآخر، وهي في الوقت ذاته تحريض للآخر ضد الذات (...) كما أن الكتابة تتضاد مع الذات من خلال كونها عملا انتقائيا يصطفي من الفعل ومن الذاكرة، أي من الذات، أجمل ما فيها أو أقبح ما فيها، المهم أن ينتقي منها أشياء، وهو انتقاء لا يتم إلا بإلغاء شيء آخر.. ربما تكون الملغاة أهم من المصطفى أو أدّل منه على الذات"..
الذات التي تكتب إنما تفعل ذلك لكي تدل على كل ما هو مفقود منها، وبذا فهي لا تدل إلا على ما هو سواها وما هو غيرها، وكأنما هنا الذات تنفي نفسها من خلال الكتابة مثلما أنها تنفي الآخر بتجاوزها له.. هذا النفي للذات من خلال فعل الكتابة والذي نظن كل الظن أنه عملية ولوج فيها، إنما يحيل الكاتب في كثير من الأحايين إلى فعل كتابي آخر يعزز النفي نفيا والهروب هروبا، وفي نهاية الأمر ينتهي الكاتب إلى تشكيل نوع من الهوية الجديدة التي لا تماثل هويته حسب الحالة المدنية، كما أنها لا تماثل هويته الاجتماعية..