..في رأس السيناريوهات المطروحة لمستقبل العراق، والتي تنفيها الولايات المتحدة بزعم ان هدفها في النهاية ليس سوى تغيير نظام الحكم في عراق واحد موحد، هو تفتيت هذا البلد العربي على طريق ترويضه سياسيا من جهة وبهدف السيطرة الكاملة على ثرواته وفي مقدمها النفط من جهة ثانية.
ولأن نفط العراق يتركز في شماله جغرافيا، ولأن شماله هذا تقطنه اكثرية كردية وتركمانية بما يعنيه ذلك من حلم تاريخي للأكراد بإقامة دولة خاصة بهم، ولأن هذه المنطقة عاشت ما يزيد على عشرة اعوام حتى الآن خارج سيطرة بغداد وتحت وصاية شبه كاملة مما بقي <<من التحالف الدولي>> في حرب الخليج الثانية اي الولايات المتحدة وبريطانيا يكتسي هذا السيناريو اذاً ما يمكن وصفه بأنه <<لحم ودم>>، سيرا مع ما يقال عن المتخيل من الامور بعد ان يبدأ ذوبان الشكوك حول احتمالات تحوله الى واقع.
ذلك انه صحيح ان العراق مستودع أثنيات وقوميات وطوائف ومذاهب، الا ان ما ينطبق على شماله يكاد يكون نموذجيا لمن يريد ان يتلاعب بمستقبل هذا البلد، وخاصة بوحدته السياسية والجغرافية والاقتصادية الاجتماعية.
ففي جنوب العراق اكثرية شيعية طاغية، إلا ان الهوية القومية والوطنية لسكان المنطقة وتمسك هؤلاء بوحدة بلدهم أياً كانت وجهة نظرهم بنظام الحكم فيه يحولان دون تحويل الجنوب الى ساحة لأطماع الخارج ومخططاته كما أنهما يكفلان إجهاض اية محاولة لفصله عن الوسط والشمال. ولا يختلف الوضع أبدا في ما يتصل بتطلعات وآمال الأكثرية السنية في الوسط، ولا بالنسبة للأثنيات والقوميات الاخرى مثل الأشوريون والكلدانيين المسيحيين وغيرهم ممن لا تتملكهم اية سياسات انعزالية ضيقة تجاه ما تتمسك به الغالبية العظمى من المواطنين العراقيين، بصرف النظر مرة اخرى عن رأي هذه القوميات بنظام الحكم في بغداد.
من هنا الظن ب<<نموذجية>> الساحة الشمالية، في رأي الولايات المتحدة وبريطانيا التي تتبعها سياسيا كالظل، لتنفيذ الخطوة التالية في المخطط الاميركي لما بعد انتهاء الحرب الباردة تحت شعار <<مكافحة الارهاب>> من جهة، وإقامة النظام الدولي الجديد لمرحلة ما بعد <<نهاية التاريخ>>، وفق مقولة الأكاديمي الاميركي فرانسيس فوكوياما، من جهة ثانية.
ففي هذه الساحة، من وجهة النظر الاستراتيجية لإدارة جورج دبليو بوش، تتجسد حلقة القوة الاقتصادية الأهم في عالم القطب الواحد الوحيد (النفط والغاز) مع اشراف مباشر على الحلقة الثانية (المياه في تركيا) في منطقة مترامية الاطراف يهددها الجفاف، فضلا عن حلقة تأكيد السيطرة الكاملة من دون منازع عبر توجيه ضربة نهائية لنظام اقليمي ما يزال يجرجر أذياله منذ اتفاق سايكس بيكو بين القوتين الكبريين يومها (بريطانيا وفرنسا) على صيغة المنطقة وصورتها ومدى النفوذ فيها لما بعد الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين.
سايكس بيكو؟!.
لقد اتفق الاثنان، وهما ممثلا الدولتين الاستعماريتين للأرض العربية عندئذ، على تفتيت وبالتالي تقاسم الهيمنة على المنطقة التي تعارفا على تسميتها بمنطقة الشرق الأوسط، تكريسا منهما لنتائج الحربين العالميتين.. بزوال الامبراطورية العثمانية اولا ثم بعد ذلك بانتصار دول التحالف على دول المحور. وما شهده العالم العربي منذ ذلك التاريخ، بما فيه اساسا زرع دولة اسرائيل في قلبه على حساب تشريد شعب من ارضه وفرض احتلال استيطاني على من بقي منه، برغم كل شيء، كان محصلة ذلك الاتفاق المشؤوم بين الدولتين.
الآن تبدو <<الدولة العظمى الوحيدة في العالم>>، الولايات المتحدة الاميركية، في موقع من يعمل على اعادة النظر في تلك الصيغة انطلاقا من الوضع المستجد على امتداد الكرة الارضية وليس في المنطقة فقط. ما حدث أخيرا في افغانستان كان البداية، وأدى ما أدى الى سيطرة <<الدولة العظمى>> على عقدة المصالح الحيوية، السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، في آسيا الوسطى، بما في ذلك وجودها العسكري المباشر على ضفاف الكتلة البشرية الأكبر عددا، والأكثر قدرة على المنافسة في العالم (الصين والهند)، فضلا عن السيطرة على الثروات النفطية والمعدنية في بحر قزوين وعلى امتداد حوضه.
وما حركتها الموتورة في المنطقة العربية حاليا، سواء في الاصرار على غزو العراق أيا كانت الذرائع في واشنطن وأيا كان موقف نظام الحكم في بغداد من قرارات مجلس الأمن، او في محض اسرائيل دعمها المطلق في التوسع والهيمنة على حساب الشعوب العربية، او في التخلي عما كانت تصفه ب<<صداقات>> لها مع بعض انظمة الحكم في المنطقة، إلا مؤشرات على هذا المخطط.
المسألة هي انه لم يعد في المنطقة نفوذ فعلي لأي من بريطانيا وفرنسا، بل بات النفوذ اميركيا خالصا، فلماذا اذاً تبقى الصيغة البريطانية الفرنسية فيها؟!. وبعد سقوط القطب المقابل في العالم، الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، لماذا اذاً لا يتم فرض واقع جيو استراتيجي جديد يجسد هيمنة الدولة العظمى الوحيدة في هذا الجزء من العالم الغني بثرواته البترولية؟!.
يكاد الاميركيون يقولون ذلك علنا في كل تصريح، او مقال، او تحليل، او تقرير يصدر عنهم في مجال السياسة الخارجية لدولتهم. وليس <<مبدأ بوش>> حول <<الحرب الوقائية>> او <<الضربات الاستباقية>> الا الترجمة العملية لذلك المخطط.
في ضوء ذلك يمكن تلمس اسرار الحملة المتصاعدة على العراق، برغم <<الضربة الدبلوماسية الناجحة>>، حتى الآن، التي اعلنتها بغداد أخيرا بالموافقة على عودة المفتشين الدوليين من دون شروط. كما يمكن تحديدا تلمس اسرار ما يبيت لشماله على طريق تعميم عمليات التفكيك والشرذمة في المنطقة كلها.
ما قاله وزير الدفاع التركي عن منابع النفط في العراق، واعتبارها أراضي كانت تركية عبر التاريخ، هو احد هذه الأسرار. وما ذكرته اجهزة اعلام اميركية وبريطانية عن تحفز الأسرة الهاشمية للعودة الى المطالبة بعرشها المفقود في بغداد، اضافة الى تعمد ولي العهد الأردني السابق الأمير حسن الظهور فجأة في اجتماع لقادة المعارضة العراقية عقد في لندن، هو سر آخر. وما لاحظه خبير الطاقة اللبناني، الدكتور نقولا سركيس، عن اغفال الساسة الاميركيين عمدا اي ذكر للنفط في حديثهم عن العراق وعن <<المخاطر>> التي يشكلها نظامه كما يقولون على الاستقرار العالمي، هو سر ثالث.
لكن المعضلة تبقى هي المعضلة نفسها على مر التاريخين القديم والحديث: <<الدولة الكردية>>!.
فهذه الدولة مرفوضة بقوة من تركيا، لما تشكله من عصبية للأكراد في داخل تركيا نفسها بعد ان أنكرت عليهم أدنى الحقوق بشكل دائم ومنتظم. كما أنها مرفوضة من إيران، فضلا عن أنها مرفوضة، من الناحية القومية، بدورها من سوريا ومن العرب عموما باعتبارها انفصالا عن العراق وتقسيما له سيؤدي، في جملة ما يؤدي، الى انشاء <<اسرائيل>> اخرى في جزء آخر من أجزاء العالم العربي.
وتلك هي المعضلة التي تحاذر الولايات المتحدة الحديث عنها في هذه الفترة، إلا أنها تستخدم بصددها كلا من العصا والجزرة في وقت واحد.. الجزرة مع الأكراد، عبر دعم قيادتيهم بينما هاتان القيادتان في صراع مرير في ما بينهما، ومع تركيا التي تعدها بعضوية الاتحاد الاوروبي الى جانب عضويتها في حلف شمالي الأطلسي ثم تقدم لها هدية ثمينة: خط أنابيب النفط الجديد من باكو (اذربيجان) الى شيحان التركية على البحر الأبيض المتوسط. والعصا مع إيران وسوريا والعرب جميعا، عبر تهديدهم بأن المطلوب حاليا هو رأس العراق وأن يتم ذلك بموافقتهم.. وإلا، فبعد ذلك يكون لكل حادث حديث!!.
اذا كان صحيحا، وهو صحيح كما يبدو واضحا، ان هذه هي العقدة الأساسية في الخطة الاميركية لضرب العراق، تكون الخطوة التي خطتها بغداد حول المفتشين الدوليين، هي بالفعل خطوة دبلوماسية ناجحة، وفي موعدها.
وعلى هذا الأساس تبدو الخطة وقد تعرضت لضربة، لكنها تبقى ضربة مؤقتة، ف<<الأسد الجريح>> في البيت الابيض ما يزال يردد ان مسألة المفتشين ليست هي الحل، وأن ساعة النظام العراقي قد أزفت برغم كل شيء!!.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة وبشدة ويطرحه كل مواطن قومي عربي.. هو: أين العرب من كل ما يجري؟!!. وهذا السؤال لا نطرحه من منطلق الرفض الكامل لسياسة الولايات المتحدة الاميركية في منطقة الشرق الاوسط وانحيازها الكامل والمطلق وبلا حدود لاسرائيل. الدولة التي اغتصبت بالقوة والاكراه والارهاب القسم الأكبر من فلسطين، والتي نعتبرها الدولة الارهابية الاولى في العالم، لما تحتويه مخازنها من اسلحة دمار شامل، وأسلحة بيولوجية، وبالطبع مئات القنابل النووية، باعترافها واعترافات مختلف المصادر والمؤسسات العلمية الاميركية والاوروبية، بل من منطلق الايمان بالأمن القومي العربي ومن منطلق الخوف من تقسيم العراق الى دويلات مذهبية، قد تصيب شظاياها، لا سمح الله، دولاً عربية اخرى...
العدوان العراقي الغاشم والاثم والسافر عام 1990 ضد بلدي الكويت كل العرب الشرفاء ضده، ويجب ان لا يتكرر مع اي دولة عربية اخرى، بأي حال من الاحوال، ولكن ما حصل ضد الكويت واهل الكويت، يجب ان يزيد العرب إيمانا واقتناعا بأن موضوع الأمن القومي العربي يجب ان يكون البوصلة التي لا مهرب منها، لرسم سياساتنا وخططنا الاقتصادية والتنموية رأفة بالأجيال العربية الصاعدة <<المضروبة>> على رأسها بهذا الواقع العربي المؤلم الذي نعيشه!!.
وعلى الرغم من هذا الواقع العربي المفجع، فلا بد من العمل والنضال لغد عربي افضل.