[c]الحمد لله الذي لا إله إلا هو ، وهو للحمد أهل ، وهو على كل شيء قدير ، وبعد : [/c]
[c]إن الله لم يخلق شيئاً إلا وفيه نعمة أيضاً ، إما على المبتلى أو على غير المبتلى ، حتى إن ألم الكفار في نار جهنم نعمة ، ولكنها في حق غيرهم من العباد ، فمصائب قوم عند قوم فوائد ، ولولا أن الله خلق العذاب والألم لما عرف المتنعمون قدر نعمته عليهم ولجهلت كثير من النعم ، ومن هنا خلق سبحانه الأضداد لحكم كثيرة منها معرفة النعم ، فلولا الليل لما عرف قدر النهار ، ولولا المرض لما عرف قدر الصحة ، وكذا الفقر والسماء والجنة ، ففرح أهل الجنة إنما يتضاعف إذا تفكروا في آلام أهل النار ، بل إن من نعيم أهل الجنة رؤية أهل النار وما هم فيه من العذاب ، مع العلم أن كل بلاء يقدر العبد على دفعه ، لا يؤمر بالصبر عليه ، بل يؤمر بإزالته ففي الحديث : (( ليس للمؤمن أن يذل نفسه ، أن يحمل نفسه مالا يطيق )) . وإنما المحمود الصبر على ألم ليس له حيلة في إزالته ، كما أن من النعم نعمة تكون بلاءً على صاحبها ، فإنه يبتلى بالنعماء والبأساء ، وكم من بلاء يكون نعمة على صاحبه ، فرب عبد تكون الخيرة له في الفقر والمرض ، ولو صح بدنه وكثر ماله لبطر وبغى (( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض )) [ الشورى : 27] 0 [/c]
[c]فكل نعمة سوى الإيمان وحسن الخلق قد تكون بلاء في حق بعض الناس ، وتكون أضدادها نعماً في حقهم ، فكما أن المعرفة كمال ونعمة ، إلا أنها قد تكون في بعض الأحيان بلاء وفقدها نعمة مثل أجل العبد أو جهله بما يضمر له الناس ، إذ لو رفع له الستر لطال غمه وحسده . وكم من نعمة يحرص عليها العبد فيها هلاكه ، ولما كانت الآلام والأمراض أدوية للأرواح والأبدان وكانت كمالاً للإنسان ، فإن فاطره وبارئه ما أمرضه إلا ليشفيه ، وما ابتلاه إلا ليعافيه ، وما أماته إلا ليحييه ، وقد حجب سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره وجعلها جسراً موصلاً إليها ، ولهذا قال العقلاء قاطبة : إن النعيم لا يدرك بالنعيم ، وإن الراحة لا تنال بالراحة ، فهذه الآلام والمشاق من أعظم النعم، إذ هي أسباب النعم ، فمثلاً نزول الأمطار والثلوج وهبوب الرياح وما يصاحبها من الآلام فإنها مغمورة جداً بالنسبة إلى المنافع والمصالح التي تصحبها ، فمثلاً لو أن المرأة نظرت إلى آلام الحمل والولادة لما تزوجت ، لكن لذة الأمومة والأولاد أضعاف أضعاف تلك الآلام ، بل إنها إذا حرمت الأولاد لم تترك طبيباً إلا وذهبت إليه من أجل الحصول على الأبناء ، إنه لا يوجد شر محض ، وما نهى سبحانه عن الأعمال القبيحة إلا لأن مفسدتها راجحة على خيرها ، وهكذا .. وقد قال الله عن الخمر : إثمها أكبر من نفعها ، فلو نظر العبد كم يحصل له من المضار والمفاسد منها لما أقدم عليها 0 [/c]
[c]فإذا تقرر هذا كله ، فأليكم فوائد ومصالح ومنافع الأمراض والتي تزيد عن المائة فائدة نقتصر على بعض منها [/c]
[c]1ـ من فوائد المرض ، أنه تهذيب للنفس ، وتصفية لها من الشر الذي فيها (( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير )) [ الشورى : 30] ، فإذا أصيب العبد فلا يقل : من أين هذا ، ول من أين أتيت ؟ فما أصيب إلا بذنب ، وفي هذا تبشير وتحذير إذا علمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا ، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ما يصيب المؤمن من وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه )) وقال صلى الله عليه وسلم : (( ولا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة )) ، فإذا كان للعبد ذنوب ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن أو المرض ، وفي هذا بشارة فإن مرارة ساعة وهي الدنيا أفضل من احتمال مرارة الأبد ، يقول بعض السلف : لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس 0 [/c]
[c]2ـ ومن فوائد المرض : أن ما يعقبه من اللذة والمسرة في الآخرة أضعاف ما يحصل له من المرض ، فإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة والعكس بالعكس ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : (( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )) وقال أيضاً : (( تحفة المؤمن الموت )) [ رواه ابن أبي الدنيا بسند حسن ] ، وإذا نزل بالعبد مرض أو مصيبة فحمد الله بني له بيت الحمد في جنة الخلد ، فوق ما ينتظره من الثواب ، أخرج الترمذي عن جابر مرفوعاً : (( يود الناس يوم القيامة أن جلود كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء )) [/c]
[c]3ـ ومن فوائد المرض : قرب الله من المريض ، وهذا قرب خاص ، يقول الله : (( ابن آدم ، عبدي فلان مرض فلم تعده ، أما لو عدته لوجدتني عنده)) [ رواه مسلم عن أبي هريرة ] ، واثر : (( أنا عند المنكسرة قلوبهم )) 0 [/c]
[c]4ـ ومن فوائد المرض : أنه يعرف به صبر العبد ، فكما قيل : لولا الامتحان لما ظهر فضل الصبر ، فإذا وجد الصبر وجد معه كل خير ، وإذا فات فقد معه كل خير ، فيمتحن الله صبر العبد وإيمانه به ، فإما أن يخرج ذهباً أو خبثاً ، كما قيل : سبكناه ونحسبه لجيناً فأبدى الكير عن خبث الحديد ( ومعنى اللجين الفضة ) ، والمقصود: أن حظه من المرض ما يحدث من الخير والشر ، فعن أنس مرفوعاً : (( إن عظم الجزاء من عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط)) ، وفي رواية : (( ومن جزع فله الجزع ))[ رواه الترمذي ]، فإذا أحب الله عبداً أكثر غمه ، وإذا أبغض عبداً وسع عليه دنياه وخصوصاً إذا ضيع دينه ، فإذا صبر العبد إيماناً وثباتاً كتب في ديوان الصابرين ، وإن أحدث له الرضا كتب في ديوان الراضين ، وإن أحدث له الحمد والشكر كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيراً له، أخرج مسلم من حديث صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابه سراء فشكر الله فله أجر ، وإن أصابته ضاء فصبر فله أجر ، فكل قضاء الله للمسلم خير )) وفي رواية لأحمد (( فالمؤمن يؤجر في كل أمره )) فالمؤمن لابد وأن يرضى بقضاء الله وقدره في المصائب ، اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر ، وإذا أذنب استغفر ، وإذا ابتلي صبر ، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال ، وكل واحدة من السراء والضراء في حقه تفضي إلى قبيح المآل ؛ إن أعطاه طغى وإن ابتلاه جزع وسخط 0 [/c]
[c]5ـ ومن فوائد المرض وتمام نعمة الله على عبده ، أن ينزل به من الضر والشدائد ما يلجئه إلى المخاوف حتى يلجئه إلى التوحيد ، ويتعلق قلبه بربه فيدعوه مخلصاً له الدين ، فسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء ، ومستخرج الشكر بالعطاء ، يقول وهب بن منبه : ينزل البلاء ليستخرج به الدعاء (( وإذا أنعمنا على الإنسان ونئا بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض )) [ فصلت : 51] ، فيحدث العبد من التضرع والتوكل وإخلاص الدعاء ما يزيد إيمانه ويقينه ، ويحصل له من الإنابة وحلاوة الإيمان وذوق طعمه ما هو أعظم من زوال المرض ، وما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين الذين يصبرون على ما أصابهم فلا يذهبون إلى كاهن ولا ساحر ولا يدعون قبراً ، أو صالحاً فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال ، ولكل مؤمن نصيب ، فإذا نزل بهم مرض أو فقر أنزلوه بالله وحده ، فإذا سألوا سألوا الله وحده ، وإذا استعانوا استعانوا بالله وحده ، كما هو الحاصل مع نبي الله أيوب (( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الرحمين )) [ الأنبياء : 83] 0 [/c]
[c]ـ ومن فوائد المرض : ظهور أنواع التعبد ، فإن لله على القلوب أنواعاً من العبودية ، كالخشية وتوابعها ، وهذه العبوديات لها أسباب تهيجها ، فكم من بلية كانت سبباً لاستقامة العبد وفراره إلى الله وبعده عن الغي ، وكم من عبد لم يتوجه إلى الله إلا لما فقد صحته ، فبدأ بعد ذلك يسأل عن دينه وبدأ يصلي ، فكان هذا المرض في حقه نعمة ((ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة )) [ الحج : 11] ، وذلك أن على العبد عبودية في الضراء كما أن عليه عبودية في السراء ، وله عبودية فيما يكره ، كما أن له عليه عبودية فيما يحب ، وأكثر الناس من يعطي العبودية فيما يحب ، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره ، وفيها تتفاوت مراتب العباد ، وبحسبها تكون منازلهم عند الله ، ومن كان من أهل الجنة فلا تزال هداياه من المكاره تأتيه حتى يخرج من الدنيا نقياً . يروى أنه لما أصيب عروة بن الزبير بالأكلة في رجله قال : (( اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً وأبقيت ستة ، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت ، ولئن أخذت لقد أبقيت )) ، ثم نظر إلى رجله في الطست بعدما قطعت فقال : (( إن الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم )) [/c]
[c]ومن فوائد المرض : أن الله يخرج به من العبد الكبر والعجب والفخر ، فلو دامت للعبد جميع أحواله لتجاوز وطغى ونسي المبدأ والمنتهى ، ولكن الله سلط عليه الأمراض والأسقام والآفات وخروج الأذى منه والريح والبلغم ، فيجوع كرهاً ويمرض كرهاً ، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، أحياناً يريد أن يعرف الشيء فيجهله ، ويريد أن يتذكر الشيء فينساه ، وأحياناً يريد الشيء وفيه هلاكه ، ويكره الشيء وفيه حياته ، بل لا يأمن في أي لحظة من ليل أو نهار أن يسلبه الله ما أعطاه من سمعه وبصره ، أو يختلس عقله ، أو يسلب منه جميع ما يهواه من دنياه فلا يقدر على شيء من نفسه ، ولا شيء من غيره ،فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه ؟ فكيف يليق به الكبر على الله وعلى خلقه وما أتى إلا من [/c]
[c]ومن فوائد المرض: أنه علامة على إرادة الله بصاحبه الخير ، فعن أبي هريرة مرفوعاً : (( من يرد الله به خيراً يصب منه )) [ رواه البخاري] ، ومفهوم الحديث أن من لم يرد الله به خيراً لا يصيب منه ، حتى يوافي ربه يوم القيامة ، ففي مسند أحمد عن أبي هريرة قال : (( مر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي أعجبه صحته وجلده ، قال : فدعاه فقال له : متى أحسست بأم ملدم ؟ قال : وما أم ملدم ؟ قال : الحمى ، قال : وأي شيء الحمى ؟ قال : سخنة تكون بين الجلد والعظام ، قال : ما بذلك لي عهد ، وفي رواية : ما وجدت هذا قط ، قال : فمتى أحسست بالصداع؟ قال : وأي شيء الصداع ؟ قال : ضربات تكون في الصدغين والرأس ، قال : مالي بذلك عهد ، وفي رواية : ما وجدت هذا قط ، قال : فلما قفا ـ أو ولى ـ الأعرابي قال : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل المار فلينظر إليه )) [ وإسناده حسن ] فالكافر صحيح البدن مريض القلب ، والمؤمن بالعكس [/c]
[c] ومن فوائد المرض : أنه إذا كان للعبد منزلة في الجنة ولم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده ، أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل ، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها )) يقول سلام بن مطيع : اللهم إن كنت بلغت أحداً من عبادك الصالحين درجة ببلاء فبلغنيها بالعافية [/c]
[c]نسأل الله من عظيم لطفه وكرمه وستره الجميل في الدنيا والآخرة ، ونعوذ به من زوال نعمته وتحول عافيته وفجأة نقمته وجميع سخطه 0 [/c]