هذه بلادنا) سلسلة ثقافية كانت تصدرها الرئاسة العامة لرعاية الشباب، تهدف إلى التعريف بمناطق ومدن بلادنا المختلفة، فتسهم بذلك في سد فجوة ما زالت كبيرة في تعريفنا نحن قبل الآخرين ببلادنا التي لا نعرف الكثير عن ثرواتها غير النفطية. والأسوأ هو معلوماتنا الضعيفة عن ثرائها السكاني والاجتماعي والثقافي. فالمملكة تأسست على أنقاض عدة دويلات، كان لكل منها عاداتها وتقاليدها، وتراثها الشعبي.
وللأسف فإن المهرجانات الشعبية والأيام التراثية قد تنجح في عرض الزي العسيري، والعرضة النجدية، والمأكولات الحجازية، والحرف اليدوية الحساوية، لكنها لم تنجح في تعريف الناس ببعضهم. وقد أخبرتني زميلة تدرس هنا، بموقف محرج تكرر في أحد اجتماعات الجالية السعودية، إذ قامت سيدتان عن حسن نية بالتعامل مع إحدى السعوديات وكأنها أجنبية والتحدث معها بالإنجليزية، لأنهما لم تعرفا أن ثمة سعوديات من أصول غير عربية.
ولأن المسافات التي تفصل بين مدننا ومناطقنا شاسعة، وبالتالي أصبح من الصعب علينا أن نحكم على الآخرين بأنفسنا، فأصبحنا نستمع لما يقوله الآخرون عن غيرهم، ويرسخ هذا في عقولنا كحقيقة ثابتة.
كنت طفلة حين سمعت بمصطلح (صفر 7) لأول مرة، وفهمت يومها أنه يرمز لأهل الجنوب، لكنه رمز ساخر يوحي بأنهم أقل من غيرهم. فظننت آنذاك بأن الجنوب هذا ليس سوى خرابة، خاصة أن بعض صحفنا لم تقصر في التركيز على النواقص التي يعاني منها من ناحية الخدمات، فتكاملت الصورة في ذهني عن منطقة فقيرة ومتخلفة، وأهلها بدائيون.
وتمضي سنوات قبل أن أزور الجنوب بنفسي، في رحلة خرجت فيها لأول مرة بعيدا عن مدن الغربية، ويومها كم كانت الصورة مختلفة. فالمنطقة طبيعتها خلابة، وجوها خرافي، والأهم من ذلك أن أهلها كانوا في منتهى الكرم والذوق. فابتداءً كان من اللافت عدم وجود متسولين على النحو الذي تعج به منطقتنا. وثانياً، النساء يبعن في السوق الشعبي، وعلى جنبات الطرق، دون خوف أو مضايقات. ثم كان ذلك المعلم المحترم الذي توقفنا لسؤاله عن الاتجاهات في "النماص" والذي ألح كثيرا أن يُضِّيف عائلتنا، فاعتذرنا بسبب رغبتنا في السفر. ولن أنسى الشيخ الذي حول بيته إلى متحف في قرية "رجال ألمع"، والذي كان تعامله معنا وشرحه لنا (رجالا ونساء) في منتهى الأدب والاحترام، بشكل يتفوق فيه كثيرا على بعض أدعياء الحضارة والمدنية. أدهشني ذكاؤه الفطري واعتداده بنفسه وحُسن هندامه، وصدقه وجرأته أيضا. فأي تخلف هذا وبدائية تلك التي سمعت عنها؟
وما قيل عن أهل الجنوب، يشبه ما يقال عن أهل مناطق أخرى، ومنها المنطقة الغربية، المعروفة تاريخيا باسم الحجاز. والتي لا يكاد يوجد أي مسلم حقيقي - ناهيك عن سعودي- يجادل في الخصوصية والتميز التي أنعم الله بهما على هذه المنطقة دينياً وتاريخياً.
لكن الغريب أن بعض الذين يعترفون بهذه الخصوصية المكانية والتاريخية، يكادون ينكرون على هذه المنطقة الخصوصية السكانية. فيتعجبون (ويسخرون) من تمتعها بهذا المزيج السكاني الفريد، الذي يشكل في الحقيقة فسيفساء حضاري وثقافي، كان الأجدر بأن يُحتفى به بدل أن ينظر إليه وكأنه عيب أو نقص.
ما العيب أن ينتمي سكان هذه المنطقة إلى أصول مختلفة؟ أليس هذا هو في النهاية غرض الإسلام وهدفه الأسمى بتوحيد البشر تحت راية التوحيد على اختلافهم؟
تعود أصول سكان مكة والمدينة إلى الجزيرة العربية بقبائلها المشهورة تاريخياً وعلى رأسها قريش وبنو هاشم. كما تعود أصول بعض السكان إلى مصر، والعراق، واليمن، والشام، والمغرب، وليبيا، وتركيا، وإندونيسيا، وتايلاند، وماليزيا، وطشقند، وبخارى، وروسيا، وألبانيا، وفارس، وكردستان، وكازاخستان، والصين، وزنجبار، وإثيوبيا، والصومال، وإرتيريا، وعموم إفريقيا، والأندلس، والهند، وباكستان، وكشمير، وإلى كل بقعة في الأرض تقريبا.
دققوا معي جيدا في الأسماء، ألم تكن بعض هذه الأماكن يوما حواضر الإسلام؟ ألم تضمنا جميعا ذات يوم خلافة واحدة، وبالتالي كان للناس حرية التنقل بين مدن بلادهم المختلفة؟ هل يمكن أن نقول اليوم لشخص من أبها: لا يحق لك السكن والعمل في جدة؟ لو أخذنا بهذا المبدأ فعلى ذلك سأعتبر أنا ابن القصيم أجنبيا في مكة، باعتبار أنه لم تمض بعد مئة سنة على توحيد السعودية، ولما كان قد وفد إلينا من خارج المنطقة فهو إذن أجنبي (ومتجنس) في نظر أهالي أي منطقة أخرى لم تكن سابقا جزءاً من بلده الأصلي.
إن 90% ممن يعتبرهم البعض أجانب أو متجنسين (مع أن التجنس ليس عيبا ونصف العرب يحلمون بجنسية أمريكية أو أوروبية) طمعا في الثروة السعودية، هم في الحقيقة ليسوا كذلك. هؤلاء أقوام هاجر أجداد أجدادهم منذ مئات السنين إلى هذه البلاد، إما طلبا للعلم، أو تقربا من الله ورغبة في مجاورة بيته المعظم، أو للتجارة، أو هربا بدينهم من ظلم للإسلام والمسلمين. يومها لم تكن دولتنا الغالية قد أنشئت بعد، ولم يكن هناك نفط ولا ثروة، بل فقر وجوع وأمراض، في منطقة طبيعتها بشكل عام صحراوية.
إن الموزاييك الحضاري والسكاني الذي يتألف منه الحجاز يشكل أنموذجا عالميا فريداً، يوضح كيف أن الإسلام هو دين الجميع الذي يقرب الناس ويجمعهم. فقد تمازجت هذه الأقوام، وترك هذا التمازج أثره الجميل على وجوه الناس، وثيابهم، وثقافتهم، ولهجتهم، وأفراحهم، وأتراحهم وحتى طعامهم. فعلى المائدة الحجازية هناك التميز الأفغاني، وورق العنب اللبناني، والرز البخاري، والكشري المصري، والمشاوي التركية.
وكانت الحجاز حاضرة الجزيرة العربية، ولها كُتابها وصحافتها ومدارسها ومنتدياتها. بل إنها صدرت للعرب ثلاثة ملوك، مازالت سلالة أحدهم تحكم الأردن الشقيق. لذلك فمن المؤلم أن يأتي جاهل غر، ويلمز هذه المنطقة وأهلها بلا ذنب إلا أنهم يختلفون عنه. مع أنه قدر المناطق التي كانت حواضر الخلافة الإسلامية أن تتلون بهذه الخلطة العجيبة من البشر، ومن ينظر إلى دمشق، أو بغداد، أو القاهرة فسيجد الدليل على ما أقول.
والكلام لا ينطبق على المنطقة الغربية فقط بل حتى على المنطقة الشرقية، التي يوصف أهلها بأنهم مهاجرون من إيران والعراق. فمادامت كل هذه المناطق قد انضوت تحت لواء الدولة السعودية، فكلهم إذن سعوديون، سواء كانت أصولهم عربية أو أعجمية، سواء كانوا سنة أو شيعة أوصوفية أو إسماعيلية، بيضا أو سودا، بدوا أو حضراً. فلا الشرع ولا العقل ولا الزمان الذي نعيش فيه، يمكن أن يوافق على مواطنة بدرجات على أسس عنصرية وطائفية.
إنني أتساءل كيف نتهم الغرب باللا تسامح وبالتمييز العنصري ضد المهاجرين المسلمين، بينما يعجز بعضنا عن تقبل بعضنا الآخر؟
أنا أعمل متطوعة في مدرسة إنجليزية تضم بنات اللاجئين والمهاجرين، وقد شاهدت بأم عيني كيف تعرض المدرسة أفلاما وثائقية تتحدث عن العنصرية، وتناقش الطالبات فيها، وتبين لهن فداحة القضية.
هل الوحدة الإسلامية شعار للاستهلاك فقط؟ فلدينا هنا مثال ونموذج مصغر لدولة الوحدة الإسلامية، حيث تتمازج فيها الأعراق والملل والألوان، فإن كان مرفوضاً، فلنتوقف إذن عن الحديث عن وحدة الأمة. فلماذا نلوث نقاء بلداننا بالمزيد من الأجانب و"المتجنسين"؟
http://www.alwatan.com.sa/daily/200...s/writers05.htm