رقصت القنابل فوق الربى رقص الذئاب في الليالي المقمرة. وقهقه الرصاص طائشاً في الدروب والأزقة، وانطلقت السماء تصبّ جام لعناتها هنا وهناك. تنفثها فوق البيوت فتستحيل ركاماً، وعند الأطفال فيستحيلون جثثاً مشوية ودموعاً في مآقي الثكالى ونواحاً عند الأرامل، ويهرب فرح الربيع مولياً الأدبار ويستحيل الموت سيّداً للمكان.
في مخيّم غير بعيد التجأ المستضعفين، يستنجدون بالأمان المزعوم. فالأمان في الحروب وهم، إذ ليس من مكان آمن وسط هذا الجو المحموم.
بين زوايا المخيّم، انتحت أرملة عجوز، ركعت، جمّعت عظامها، قلقة، خائفة، ترفع كفّها بالدعاء، يلهج لسانها بالذكر، وتمسح صورةٍ في قلادة ذهبية، لشابٍ مفقودٍ هو ابنها.
وعند منزل قروي، كانت عائلة تحاول الفوز والنجاة بأرواحها بعيداً من غدر الرصاص والشظايا، وشاب صغير يساعد والديه العجوزين دخول سيارته، وباءت محاولته بالفشل، وانهمر الرصاص وزغردت القنابل ونفثت بشظاياها فلم ترحم الأم العجوز ولا جسد ابنها يحمي أمه من لعنتها، فسقطا مضرّجين بالدماء. وسقط العجوز مغشياً. ثم استيقظ في المخيّم، يسأل عن أحبته في المشفى بجراح خطرة مميتة، شابّة حبلى وزوجها ينتظران ولادة طفلهما. وفي الركن البعيد تقوقع الأربعة، يكسرون الصمت، يسردون قصصهم، كلّ يقص حكايته عن وفاء أحبته، يرفعون الرجاء للرحمن: لطفك يا ربّنا وعفوك بنا.كلّ مترقّب، كلّ حذر. الأرملة تحلم برؤية ابنها فُقِدَ قبيل بدء الحرب، العجوز يحكي عمّا دفعه ابنه من ثمن يفي به حقّ أمه ويرجو له الشفاء وكذلك زوجته،وشابة تترقب ولادة أول أولادها تحلم به باراً بها حين تشيخ.
ساعات قليلات وارتفعت الصرخات، توقظ النساء، تعلن بدء مراسم الولادة. ليبزغ فجر البرّ من جديد.
في المشفى غير البعيد، هرول العجوز وقد استدعي على عجل: زوجه وابنه في النزاع الأخير. الأرملة تشعر بوخزة خفيفة بين ضلوعها، لا تكترث تحجل ببطء صوب السيدة تساعدها في مخاضها، فيشتد الألم بين الضلوع، فتتنحى لتلملم أنفاسها وتترك لبعض النساء إكمال المهمة.
في المخيّم الكئيب بزغ فجر الوفاء الجديد مُعْلناً بصرخات المولود الجديد، غير بعيد منه غيّب الموت شاب وفى لوالده ودفع الروح ثمناً ثم على إثره فارقت الأم الحياة .
عاد العجوز إلى المخيّم أرملاً، إلى الركن يبحث عن أصدقائه فإذ بالأب الجديد يستقبله بولادة ابنه البكر،فأخذه يضمه، ويبكي ينعي للأب زوجته وابنه، فما كان منه إلا أن احتضنه ، مسميّاً المولود الجديد على اسم الشهيد تيمناً بوفائه.
في الركن انزوت الأرملة، ابتسمت ابتسامتها الأخيرة، وسلّمت للباري روحها الطهور، ورحلت بيدها القلادة أمانة لابنها المفقود.
يوم الجنازة كان كئيبا صعباً ثقيلاً عاصفاً شتوياً، ناحت النساء، تفشى عويلهن كالداء بين حناجرهن، ورفعت النعوش الثلاثة للمثوى الأخير،يودَّعون بالبكاء والزغاريد.
من البعيد شاب أصفر الوجه، عينين غائرين، شعر أشعث، يزاحم المشيعين يهرع صوب الضريح، يسأل عن ذات القلادة، يبحث عمّن يعرفها،فيشيرون صوب الأرمل العجوز ، يسأله عن إرثه منها، فيجيب: هي القلادة وصورتك فيها، يغضب الشاب، يحملق بها، وينصرف شاتماً لاعناً متمتماً: تنفع ثمناً لديون القمار وسمومٍ أتعاطاها.
انفجرت الدماء من وجه العجوز غضباً،فانفجر شاتماً لاعناً هذا العاق:" تباً لوفائك أيها العاق، ليته كان ثمناً حياتك ليته كان كوفاء ابني الذي قدم روحه الطاهرة ثمناً ليبر بي و بأمه،أما أنت فأحمد الله الذي أمات أمك قبل أن تعلم بحقيقتك، ارحل ، تباً لك، لتأخذك اللعنات إلى الجحيم".
صعّر الشاب للعجوز وجهه، هزّ كتفيه ساخراً هازئاً ومضى لا مبالياً ينصرف بين الجموع يغادر المكان...