العودة   منتديات الـــود > +:::::[ الأقسام العامة ]:::::+ > ۞ مكتبة الــوٍد الإسلامية ۞
موضوع مغلق
   
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 21-11-2003, 07:14 AM   رقم المشاركة : 1
totti
( ود جديد )
 





totti غير متصل

الخشوع ( 2 )

وأما ثامناً:الطريق إلى الخشوع: كيف نحصل الخشوع في قلوبنا؟! كيف نكون من الخاشعين؟! نقول:

أول ذلك: أن تستحضر نظر الله تعالى إليك في حركاتك، و سكناتك في صلاتك، وفي قراءتك، وفي قيامك وقعودك، فالخشوع لا يختص بالصلاة، و إنما هو عبادة قلبية يظهر أثرها على الجوارح في كل أحوال العبد، فهذا سبب أساسي في تحصيل الخشوع، استحضار نظر الرب جل جلاله إليك، وكلما كان العبد أكثر استحضاراً لهذا المعنى؛ كلما زاد الخشوع في قلبه، و إنما يفارق الخشوع قلبك إذا حصلت الغفلة عن استشعا! ر نظر الله عز وجل ومراقبته، قال ابن القيم رحمه الله:'الخشوع هو الاستسلام للحُكْمين الديني والشرعي، بعدم معارضته برأي أو شهوة . والقدري بعدم تلقيه بالتسخط والكراهية والاعتراض، والاتضاع لنظر الحق، وهو اتٌضَاعُ القلب والجوارح وانكسارها لنظر الرب إليها، واطلاعه على تفاصيل ما في القلب والجوارح، وخوف العبد الحاصل من هذا يوجب له خشوع القلب لا محالة . وكلما كان أشد استحضاراً له؛ كان أشد خشوعاً، وإنما يفارق الخشوع القلب إذا غفل عن اطلاع الله عليه ونظره إليه ' أ. هـ !

هذا على بن حسين زين العابدين كان إذا مشى لا تجاوز يده فخذيه ولا يخطر بها . يعني ما يقول بيده إذا مشى هكذا يُحركها، ولا يقول بها هكذا وهو يمشي كأنه قد زهى بنفسه، فهو يمشي بشيء من الإعجاب والغرور والتعاظم. و إنما صفة مشية المتواضع أن يجعل يديه إلى فخذيه دون أن يخطر بها هكذا، فإن هذا يذهب الوقار والخشوع: الحركة الكثيرة . وكذلك لا يجافي بين يديه وبين منكبيه وفخذيه، فيظهر بصورة المتعاظم المتكبر المتغطرس وهو يمشي هكذا وإنما يلصق يده بجنبيه وفخذيه... هذا على بن حسين زين العابدين .

وكان إذا قام إلى الصلاة اضطرب وارتعد، فقيل له – سُئل عن هذا- فقال:' تدرون بين يدي من أقوم و أناجي؟' وكان إذا توضأ للصلاة؛ اصفر لونه من شدة الوجل والحياء، والخوف واستشعار عظمة الله، والنظر إليه، فيقدم على صلاةٍ يناجي فيها ربه، فيظهر ذلك صفرة في وجهه كمن أراد أن يلاقي عظيما من العظماء، فقد يظهر ذلك الوجل على قسمات وجهه، وعلى حركاته و سكناته، حتى أن بعضهم كان إذا قام إلى الصلاة ووقع ذباب على وجهه لا يقول بيده هكذا، ولا يحرك رأسه لطرد الذباب لغلبه الخشوع عليه، فهذا خلف بن أيوب كان لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة، فقيل له: كيف تصبر؟! قال:' بلغني أن الفساق يتصبرون تحت السياط ليقال: فلان صبور!!' يعني الفساق إذا جلدوا وض! ربوا الحدود، أو إذا جلدوا تعزيراً، فإن الواحد منهم يتجلد لا يتحرك وهو يجلد ليظهر للآخرين أنه لا يبالي، ولربما فعل ذلك بعض الطلاب في المدارس إذا أراد المعلم أن يعاقب بعض الطلبة فلربما أظهر تجلداً فقال بيده هكذا ولم يحركها فربما ضُرب ضرباً يكسر العظم وهو لا يتحرك ليظهر التجلد . فهذا كان يستشعر هذا المعنى – وهو خلف أبن أيوب – فيقول: إذا كان هؤلاء يتجلدون للسياط، فكيف لا نتجلد أمام رب الأرباب، نتجلد عن دفع هذا الذباب يقول: أنا بين يدي ربي أفلا أصبر على ذباب يقع عليٌ؟!

أما الأمر الثاني مما يكسب الخشوع، و يؤثر الخشوع: فهو ترقب آفات النفس والعمل، ورؤية فضل كل ذي فضل: -وقد تحدثت عن هذا القضية قبل قليل ونقلت فيها كلام ابن القيم رحمه الله -ارجع إلى نفسك وانظر إلى عيوبها، فإن ذلك يورثك انكساراً، وأما إلى الخلق فلا تنظر إلى عيوبهم، بل انظر إلى محاسنهم، فيورثك ذلك شعورا بأنك أقل من هؤلاء جميعاً، وأنك المقصر المذنب، تحتاج إلى عفو ربك و مسامحته، وإلى التشمير بالتقرب منه وطاعته.

وأما الأمر الثالث: فهو معرفته الرب جل جلالة معرفة صحيحة تورث التعظيم: وقد أشرت إلى هذا قبل قليل وذكرت فيه كلاماً لبعض أهل العلم – وهو الحافظ ابن رجب رحمه الله - فالمقصود أيها الإخوان أن العبد كلما كان بالله أعرف كلما كان له أخوف، وكلما كان أكثر تعظيماً لله جل جلاله ..ولهذا قال الله تعالى:} إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ...[28]{ [سورة فاطر] فإذا عرف العبد صفات الكمال التي اتصف الله بها، واستشعرها؛ فإنه ينكسر، ويخضع، ويتواضع، ويخشع قلبه أمام الله جل جلاله.

وأمر رابع نحتاج إليه في الصلاة لنستحضر الخشوع فيها وهو:أن تضع في قلبك إذا قمت إلى الصلاة وتهيأت لها أنها الصلاة الأخيرة: صل صلاة مودع، فقد لا تصلي بعدها، فإذا قيل للعبد هذه هي الصلاة الأخيرة، كيف يصلي؟ فإنه يفرغ قلبه من كل شاغل من شواغل الدنيا، ويحضر قلبه في هذه الصلاة، خطب علي ابن أرطاة على منبر المدائن فجعل يعظ الناس حتى بكي وأبكى، فقال: كونوا كرجل قال لابنه وهو يعظه:' يا بني أوصيك لا تصلي صلاة إلا وظننت أنك لا تصلي بعدها حتى تموت' .

وأمر خامس: أن تستشعر وتستحضر أنك على الصراط فوق جهنم: وكأنك تشاهد الجنة والنار أمام عينك، وكأنك قمت بين يدي الله عز وجل في موقف الحساب، كان بعض السلف إذا سمعوا الأذان تغيرت ألوانهم، وفاضت عيونهم، كانوا يرون أنه يذكرهم بالنداء يوم العرض الأكبر . كانوا يستشعرون هذه المعاني في كل شيء حولهم، إذا سمعوا المؤذن يؤذن فاضت أعينهم لأنه يذكرهم بالنداء في ذلك الموقف الرهيب . وهذا رجل من العلماء كان يخشع في صلاته فسُئل عن ذلك كيف يحصل لك هذا الخشوع العظيم؟ فقال:' أقوم إلى صلاتي وأج! عل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي'.

وهذا الرجل من العلماء، العباد، وهو سعيد بن عبد العزيز كان يبكي إذا صلى، وكان إذا صلى على الحصير يسمع من بجانبه وقع الدموع على الحصير تتقاطر، وكان قد سُئل: ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة، قال: ' يا ابن أخي: وما سؤالك عن ذلك؟' فقال السائل: رجاء أن ينفعني الله بذلك . فقال:' ما قمت إلى صلاة إلا مُثلت لي جهنم' . كأنه يرى جهنم مسعرة، وأهلها يصطرخون فيها:} وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا ! غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[37]{ [سورة فاطر] .. فكان ذلك يورثه خشوعاً وبكاء في صلاته .

ومن استشعر هذه المعاني في الصلاة فإن ذلك لا يفترق بالنسبة إليه في صلاة نافلة، أو صلاة فريضة، كما لا يفترق بالنسبة إليه في الصلاة الجهرية، أو الصلاة السرية .. وأنت تعجب حين تسمع بعض الناس يستغربون ممن يخشع في الصلاة السرية كيف يخشع في الصلاة السرية؟ وكيف لا يخشع؟ وهو يقف بين يدي الله، ويستحضر الجنة والنار، وأن الله يراه وينظر إليه, ويناجيه؟ كيف لا يخشع؟ ولكن الغفلة التي غلبت على قلوبنا أورثتنا بعداً عن هذه المعاني . يقول بعض السلف:' لو رأيت أحدهم وقد قام إلى صلاته، فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر على قلبه أن ذلك المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العلمين؛ فانخلع قلبه، وذهل عقله' تخيل هذا .. الناس في صفوفهم للصلاة يقفون صفوفاً فتذكر واستشعر الوقوف بين يدي الرب جل جلاله؛ فيخشع الإنسان، وينكسر قلبه، وكان منصور بن صفية يبكي في كل صلاة، وكانوا يرون أنه يذكر الموت والقيامة في صلاته فيبكي هذا البكاء .

الأمر السادس: فهو أن تفرغ قلبك لها، وأن تؤثرها على ما سواها مع مجانبة الصوارف و الشواغل التي تؤثر في القلب: وقد ذكر هذا المعنى الحافظ ابن كثير رحمه الله في[ تفسيره 5/456] حيث قال: 'والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، حينئذ تكون راحة له وقرة عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ]' وكان محمد بن المنكدر رحمه الله:' يقول أني لأدخل في الليل، فيهولني، فينقضي، وما قضيت منه أربي ' يقول: أدخل في الليل لأصلي صلاة الليل، فأشرع فيها، فينقضي الليل بأجمعه ولم أشبع، ولم أقض نهمة نفسي، وذلك لاستغراقه في هذه الصلاة، وقد قال سعد بن معاذ رضي الله عنه:' فيّ ثلاث خصال لو كنت في سائ! ر الأحوال أكون فيهن لكنت أنا أنا: إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، و إذا سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع في قلبي ريب فيه، وإذا كنت في جنازة لا أحدث نفسي بغير ما تقول أو يقال لها' . يعني من الحساب .

وقد قالوا لعامر بن عبد القيس، أتحدث نفسك في الصلاة؟ قال:' أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي؟' قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة !! قال: أبالجنة والحور؟ قالوا: لا، بأهلينا وأموالنا . فقال:' لئن تختلف الأسنة فيّ أحب إلي' أي من أن أحدث نفسي، يعني بشيء من حطام الدنيا وأنا في هذه الصلاة !! وهذا عامر بن عبد القيس قيل له: أما تسهو في صلاتك؟ قال: أو حديث أحب إلى من القرآن أنشغل فيه؟ هيهات .. مناجاة الحبيب تستغرق الإحساس. بعضنا ربما يكون إماماً ويسجد للسهو في اليوم مراراً !! وقد اشتكى بعض الناس من إمام لهم يسهو في اليوم الواحد في ثلاثة فروض هذه التي يسجد فيها للسهو!! فأين القلب؟ هذا قلبه مشغول.

فينبغي للعبد أن يفرغ قلبه .. فالمرأة- مثلاً- إذا جاءت إلى الصلاة لا تجعل شيئاً على النار تحتاج إلى مراقبته عن قريب، و إذا كان لديها طفل، فإنها تشغله في مكان آمن لئلا ينشغل قلبها عليه، ولا تحتاج أن تتجوز في صلاتها من أجل ملاحظة هذا الطفل، كما أنها لا تجعله بجانبها لكي لا يشوش عليها .. وكذلك من كان في انتظار مكال! مة مهمة أو نحو ذلك، أو عنده بعض المكالمات، وهو يريد أن يصلي الليل مثلاً، أو يتطوع، فإنه ينتهي من هذه المكالمات، وهكذا في الفريضة يُبكر قبل الأذان، ويقضي حوائجه، ويفرغ من هذه الأمور الم! قلقة له، ثم يدخل في الصلاة وهو فارغ القلب لا يحدث نفسه بشيء سواها .. وهذا الحسن رحمه الله يقول: إذا قمت إلى الصلاة قانتاً فقم كما أمرك الله، و إياك والسهو والالتفات، إياك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره،وتسأل ربك الجنة وتعوذ به من النار وقلبك ساه لا تدري ما تقول بلسانك، الله ينظر إليك، ولربما كنت تفكر في بعض الأمور المحرمة، ولربما نظر الله إل! يك وأنت تفكر في أمور حقيرة، فربما كان الواحد يصلح شيئاً تافهاً في بيته، لربما كان يصلح مسلاة لصبي، ثم يقوم يصلي وقلبه مشغول بإصلاحها، والله ينظر إليه ويطلع عليه، فهذا لا يليق في أي حال من الأحوال، فينبغي التفطن لهذه المعاني.

وللأسف نحن عندما كنا نعيش بعيدا عن هذه الأحوال أصبحنا نستغرب منها، ولقد حدثني جماعة من الناس عن رجل من المعاصرين- وهو من العوام وليس من طلبة العلم ولا من العلماء- أنه إذا قام يصلي فإن أهله أو من بجانبه يحتاجون إلى تنبيهه إذا قرب وقت الأذان من أجل أن يوجز في صلاته؛ لأنه يستغرق في صلاته، وينسى كل شيء . كان هذا ال! رجل يتطوع بعد صلاة العشاء في المسجد النبوي، وكان بعض الحراس يعرفونه، وهو رجل يسكن المدينة من عشرات السنين، فكان إذا قرب وقت إغلاق الأبواب بعد صلاة العشاء بمدة معلومة يأتون إليه قبل ذلك بنحو عشر دقائق وينبهونه من أجل أن يتفطن، من أجل أن يُجوٌز في صلاته. و امرأته كانت تأتيه قبيل الأذان الأول وهو يصلي فتنبهه من أجل أن يجوز فيخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تفتح أبوابه من الأذان الأول .. حدثني عن هذا بعض جيرانه، وبعض من عرفه منذ زمن طويل، وحدثني عن هذا ابنه بعد أن مات -رحمه الله - . هذا مثال! واقعي ' رجل من العوام يحصل له هذا الاستغراق والخشوع '

والأمر السابع مما يورث الخشوع هو تدبر القرآن: يقول ابن جرير الطبري رحمه الله: عجبت لمن يقرأ القرآن ولا يعرف معانيه كيف يتلذذ بقراءته؟ وجرب هذا في نفسك، اقرأ تفسير بعض الآيات، ثم اسمعها في الصلاة كيف تجد الفرق؟ بل وربما تكلم الإمام أو تكلم غيره في صلاة التراويح عن تفسير بعض الآيات فإذا قرئت؛ رأيت فرقاً شاسعاً بينها وبين غيرها من الآيات التي لم تُف! سر، وهذا شيء مشاهد . فمعرفة معاني القرآن تجعل القلب يستغرق في تدبره والتفكر في معانية، حتى أن القلب يخشع عند ذلك، بل لربما خشع الإنسان عند تسميع القرآن، يسمع لغيره قد لا يتحمل، وكان أبو بكر رضي الله عنه قريب الدمعة، كثير البكاء، لا يتمالك نفسه إذا صلى، ولذلك لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أن يصلى أبو بكر بالناس اعتذرت عنه عائشة رضي الله عنها بأنه رجل رقيق لا يتمالك إذا صلى وقرأ القرآن فإنه يبكي.

فأقول: معرفة معاني القرآن؛ طريق للتدبر. والتدبر طريق للفهم والاتعاظ والاعتبار والخشوع؛ لذلك كان السلف رضي الله عنهم يقرأ الواحد منهم آية واحدة، ويقوم يرددها إلى الفجر يبكي . هذا مالك بن دينار رحمه الله كان يقرأ قول الله عز وجل:} لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَ! اشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... [21]{ [سورة الحشر] ثم يقول: ' أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صُدع قلبه' . ويقول ابن مسعود: ' إن أقواماً يقرؤون القرآن ل! ا يجاوز تراقيهم' وهم الخوارج . هذه صفة قبيحة ينبغي للمؤمن أن يتباعد عنها لئلا يكون متصفاً بصفة هؤلاء الذين ذمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد قال أبو عمران الجوني رحمه الله:' والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرف إلى الجبال لمحاها ' وكان الحسن يقول:' يا ابن أدم إذا وسوس لك الشيطان في خطيئة، أو حدثت بها نفسك فاذكر عند ذلك ما حملك الله في كتابه مما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت . أما سمعته يقول:} لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... [21]{! [سورة الحشر]' .

الأمر الثامن:مما يورث الخشوع: وهو ترك التكلف في كل شأن من الشؤون: ولذلك أقول: من الأحسن أن يصلي الإنسان في كل مكان لا يتكلف لأحد فيه، وأن يصلي في مكان لا يكون بجانبه أحد قد يجد نفسه تشده لأن يتكلف لهذا الإنسان، يجعل الله أمام ناظره ولا يلتفت . وهناك أمر يذهب الخشوع على الإمام، وعلى المأمومين، وهو التكلف في الدعاء، حينما يتكلف الإنسان أن يأتي بالد! عاء على غير سجيته المعهودة فيه كما لو كان من عادة الإنسان أنه يلحن، فصار يحاول أن يأتي بالدعاء موزوناً معرباً، فإن ذلك يكون مدعاة لذهاب الخشوع وليس هذا دعوة للحن، و إنما أقول: ينبغي في الدعاء أن يحرص الإنسان أن يدعو على سجيته، ولهذا فإن شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله لفت النظر إلى هذا المعنى, وكان يقول: إن الله يسمع دعاء الداعين سواء كان مسجوعاً، أو ملحوناً، سواء كان معرباً أو غير معرب بمعنى أنه إذا تكلف الإنسان السجع في الدعاء، فإن ذلك يذهب عليه الخشوع، وكذلك إذا كان العبد يتكلف الإعراب فيه، يعني أن يأتي به على وزان لغة العرب فإن ذلك يذهب الخشوع . يقول شيخ الإسلام: بل ينبغي للداعي إذا لم تكن عادته الإعراب أن لا يتكلف الإعراب، وقد قال بعض السلف إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع، يقول شيخ الإسلام: ' وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس به، فإن أصل الدعاء في القلب واللسان تابع للقلب ' . فإذا كانت العناية بإصلاح اللسان فإن ذلك يؤثر في القلب ولا بد . يقول: ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه أضعف توجه قلبه, ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاء يفتح عليه لا يحضره قبل ذلك، وهذا أمر يجده كل مؤمن في قلبه' ولهذا يقول شيخ الإسلام: أن الدعاء يجوز بالعربية وبغير العربية، والله يعلم مقصد الداعي ومراده وإن لم يُقوم لسانه، فإنه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات '[مجموع ا! لفتاوى 22/488-489] .

وهذا أمر مهم قل من يفطن له، بل حتى الموعظة إذا كان هم الملقي هو توقي اللحن في الخطبة، أو في الموعظة، أو في المحاضرة، فإن ذلك يؤثر في وقعها على القلوب، ! قد يكون الكلام الذي يقال في ذاته من الكلام المؤثر، ولكن لما كان شُغل الملقي بإصلاح لسانه وتقويمه مخافة اللحن- ولا شك أن اللحن قبيح فاللحن في الكلام كالجدري في الوجه- ولهذا السبب قل التأثير، وهذا شيء مشاهد، تسمع الناس يتأثرون كثيراً ببعض المواعظ والخطب، والمحاضرات ويبكون عند حضورها، ويتأثرون غاية التأثر، وإذا سمعتها تجد قلبك حاضراً، وقد يكون من! الأسباب عدم تكلف صاحبه في إلقاء الكلام عند محاضرته، فتجد لحناً فجاً فاحشاً لا يستطيع أن يسمعه من أجاد العربية، بل ينفر من أول جملة يسمعها فيه، بينما تجد الآخرين الذين لا ينظرون إلى هذه الجوانب يستهويهم هذا الكلام، ويعجبهم ويتأثرون به غاية التأثر، ولربما تبرعوا بمئات الألوف من هذا الشريط الذي يسمعه الآخر الذي يعرف لحن الكلام، ولا يستطيع أن يواصل جملة واحدة فيه لركاكته وضعفه وكثرة اللحن فيه، بينما هؤلاء يتأثرون به ويعجبهم غاية الإعجاب، ما السبب في هذا؟ السبب هو أن هذا يتكلم من غير تكلف، ولم تكن عنايته ! بإصلاح منطقه ولسانه، و إنما كانت هذه المعاني في قلبه، فتكلم بكلمات صادقه من قلب خاشع؛ فأثر ذلك في سامعيه، والقلوب بينها إشارات وأمور لا يدركها حس الإنسان فالقلب يدرك بعض المعاني المعبرة عن الحب، وبعض المعاني المعبرة عن الانقباض، فتجد قلبه ينقبض لفلان وفلان ولا يلقاه إلا تكلفاً, كما أن القلب يتأثر حينما يسمع نصيحة يدرك أن هذا الكلام صدر من قلب ! مشفق، فيتأثر، وكذلك أيضاً تجد هذا الإنسان يتأثر بالموعظة إذا خرجت من قلب عامر بالخشوع والخضوع، وأما إذا كانت المواعظ تلقى على الناس من قلب صلب لا يتأثر أو يقرأ القرآن، صاحب قلب قاس، فأنى للناس أن يتأثروا ؟ هذه الآية يقرؤها هذا الإمام، ويقرؤها آخر، هذا يتأثر ويتأثر من حوله، ومن يسمع قراءته غاية التأثر، والآخر يمر على مئات الآيات من أمثالها ولا يحرك فيه ساكناً، ولا يحرك فيمن معه، ما السبب ؟ السبب هو هذا المعنى، والله تعالى أعلم

تاسعاً:ثمرات الخشوع:

1- أول هذه الثمرات والآثار السلوكية: هو أن الخشوع يطرد الشيطان، لأن الشيطان لا يجتمع مع الخشوع إطلاقاً، فالخواطر والوساوس تشغل القلب، والخشوع حضور القلب بكليته، وصاحب القلب الخاشع لا يجد الشيطان طريقاً في وساوسه، وخواطره إلى قلبه، ولذلك قال من قال من أهل العلم:' من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان'[ انظر! المدارج].

2- الرفعة وعلو المنزلة: 'ومن تخشع لله تواضعًا-كما قال ابن مسعود- رفعه الله يوم القيامة'[ الزهد لوكيع] .

3- وأما الأمر الثالث: فهو بلوغ المرام وتحصيل المطلوب: الله عز وجل يقول:} قَدْ أَفْلَحَ الْم! ُؤْمِنُونَ[1]الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]{ [سورة المؤمنون] فذكر ذلك في أول صفاتهم وهي ال! فلاح الذي قد حكم الله به بطريقة محققة بالتعبير بقد :} قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1]{ [سورة المؤمنون] وهو تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، قال رجل للحسن: أوصني، قال:' رطب لسانك بذكر الله، وند جفونك بالدموع من خشية الله، فقل من طلبت لديه خيراً فلم تدركه'[ الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا] . فمن كان بهذه المثابة حصل له مطلوبه من ربه تبارك وتعالى، فأكرمه وقربه .

4- والأمر الرابع هو: أن الخشوع يورث صاحبة أخلاقاً محمودة: وذلك أن الخشوع أصل من أصول الأخلاق، وأساس من أسسها كما قال ابن القيم رحمه الله:' فالكبر والمهابة والدناءة أصل الأخلاق المذمومة، والكبر يقابل الخشوع، والخشوع يقابله الصلف و التعالي، والجفاء والرعونة والدناءة، وأما الخشوع فهو عكس ذلك، فهو أصل الأخلاق الفاضلة، كالصبر والشجاعة، والعدل والمروءة، والعفة والسيادة، والجود والحلم، والعفو والصفح،! والاشتمال والإيثار، وعزة النفس عن الدناءات، والتواضع والقناعة، والصدق والأخلاق، والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضل، والتغافل عن زلات! الناس، وترك الانشغال بما لا يعنيه، وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك، فكلها ناشئة من الخشوع وعلو الهمة. والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة، ثم ينزل عليها الماء؛ فتهتز وتربوا، وتأخذ زينتها وبهجتها، فكذلك المخلوق منها إذا أصاب حظه من التوفيق-إلى أن قال-: فمن علت همته، وخشعت نفسه؛ اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكل خلق ردي'[الفوائد ص143-144 –بتصرف-] .


--------------------------------------------------------------------------------

اللهم رحمتك نرجو


--------------------------------------------------------------------------------







موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)
   


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:51 PM.




 


    مجمموعة ترايدنت العربية