من منا لا يعرف عمر بن الخطاب في قوته وشدته، في جاهليته وبعد إسلامه؟
يروي عن نفسه فيقول: لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة. قال: قلت: أبو جهل، فأتيت حتى ضربت عليه بابه فخرج إلي فقال: أهلاً وسهلاً، ماذا جاء بك؟ فقال عمر: جئت لأُخبرك أني قد آمنت بالله ورسوله. فأغلق أبو جهل الباب دونه فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به.
ثم إن عمر لم يصبر فأتى إلى جميل ابن معمر الجمحي ـ وكان أنقل قريش للحديث ـ فأخبره أنه أسلم، فلم يمهله جميل ونادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ، وهو يسير في جنبات مكة وعمر خلفه يقول: كذب، ولكني أسلمت. ولم يكتف بهذا فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألسنا على الحق وإن متنا وإن حيينا؟ قال: "بلى والذي نفسي بيده إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم" قال: قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن. وما كان أحد يستطيع أن يصلي عند الكعبة حينئذ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفين في أربعين من أصحابه له كديد ككديد الطحين، على أحد الصفين حمزة بن عبد المطلب وعلى الآخر عمر بن الخطاب (فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاروق). حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وأصحابه، فلما نظرت إليهم قريش أصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر" وكان يقول: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر". وعن صهيب بن سنان قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام ودعا إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً وطفنا بالبيت وانتصفنا ممن غلظ علينا. أما في الهجرة ففي الوقت الذي كان يهاجر فيه المسلمون خفية وتتبعهم قريش، نزل عمر بالمسجد ونادى بأعلى صوته: إني مهاجر فمن أراد أن تثكله أمه أو ييتم ولده فليتبعني. ثم هاجر.
هذا عمر في شدته وقوته. أما عن منزلته فيروي ابنه عبدالله يقول: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبوبكر وعمر وليس معه أحد فالتفت للناس وقال: "هكذا نبعث يوم القيامة". وصعد النبي الجبل يوم أحد فاهتز الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان".
تلك هي منزلة عمر وتلك هي شدته، فهل كانت تلك الشدة لتطغيه. كلا.. فهو عمر الذي كان يقسو على نفسه لترتاح رعيته. خرج عمر ذات ليلة ومعه غلامه وسارا حتى رأيا ناراً فذهبا يهرولان فإذا امرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة على النار. فقال عمر: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد. قال: فما بال هؤلاء الصبية؟ قالت: يتلوون من الجوع، قال: وما هذه القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به حتى يناموا. الله بيننا وبين عمر.
فقال عمر معتذراً: رحمكم الله، وما يدري عمر بكن؟ فقالت المرأة: يتولى أمرنا ويغفل عنا. فنظر عمر لغلامه وقال: انطلق، فأتيا دار الدقيق فأخرج الدقيق وقال لغلامه: احمله علي، قال: أعليك أم عنك يا أمير المؤمنين؟ قال: احمله علي، أأنت تحمل عني ذنوبي يوم القيامة؟ فحمله عمر وذهبا إلى المرأة فأخرج الدقيق وأعطاه الصبية فقالت المرأة: جزاك الله خيراً، أنت أولى بهذا من أمير المؤمنين، فقال عمر: إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله. ووقف عمر بعيداً ينظر للصبية وهم يصطرعون ويضحكون ثم ناموا وهدؤوا، فحمد الله عمر وقال: أحببت أن لا أنصرف حتى أراني ما رأيت منهم.
لله درك يا عمر! كم أتعبت الخلفاء من بعدك؟ فمن لهذا التراث؟