في بداية خلق الإنسان خلق الله تعالى آدم عليه السلام، ثم خلق منه حواء؛ ليسكن إليها وتسكن إليه. ومنذ البدايات لم تظهر حواء بهذه الشخصية السلبية التي تطيع كافة أوامر زوجها دون مراجعة، بل كانت عندها قيادة فكرية تميزت بها، وكما يحكي أهل التفسير أن الله تعالى أنام آدم وخلق منه حواء، فلما خلقها وأفاق، وجد امرأة بجواره، فقال: من أنت؟ فقالت: حواء. قال: من أين جئت؟ قالت: خلقني الله منك. قال: ولم؟ قالت: لتسكن إلي وأسكن إليك، فحمد آدم ربه على نعمة حواء، إذ إنها ملأت فراغا كبيرا في حياته، وبدأ معها مشوار الحياة.
وبعيدا عن صحة هذه الرواية أو ضعفها؛ لأنها من روايات أهل الكتاب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"؛ فإنها تحمل في طياتها القيادة الفكرية، والتبادل الحواري بين الزوجين، وهذا ينفي نظرية "سي السيد" التي تطغى على كثير من مجتمعات المسلمين، وكان هذا في بدء الخليقة.
ولما أسكن الله تعالى آدم وحواء الجنة، وعاشا فيها، وحصل التفكير في الأكل من الشجرة، فكان هذا الأكل نتيجة حوار بين آدم وحواء، قررا بعدها أن يأكلا من الشجرة، بنوع من الاختيار منهما، وأبدت فيه حواء رأيها، واقتنع آدم برأي حواء، ووقع الاثنان في الخطيئة، وهذا يؤكد أن حواء لم تكن شخصية سلبية، بل كان لها قيادة فكرية، وحرية في التعبير عن الرأي، حتى أخذ آدم برأيها، وقرر الاثنان معا أن يأكلا من الشجرة، ولذا تحملا النتيجة معا "قال اهبطا منها جميعا"، ولو كانت حواء سلبية لما نزلت معه؛ لأنها لم تشارك في الرأي، بل كانت -حسبما هو مفهوم من الكتاب والسنة- هي المحرك للكلام، وأن المسئولية كانت مشتركة من كليهما، ثم كانت التوبة منهما أيضا.
والمتأمل لقصة حواء رضي الله عنها منذ أن خلقها الله تعالى إلى وفاة آدم عليه السلام يحفظ لها دورا فعالا في تحريك اتخاذ القرار والمشاركة فيه، بل كان لها دور ريادي، ولم تكن هي المرأة التابعة لزوجها يحركها كيف يشاء.
القيادة السياسية
ويحكي لنا القرآن الكريم قصة بلقيس ملكة سبأ، وما تمتعت به من قيادة سياسية، ومن الحكمة والفطنة ما جعلها تسوق شعبها إلى الإسلام والإيمان بالله تعالى، واتباع نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام.
وقد توافرت في شخصية بلقيس كثير من الصفات التي يحتاجها من يتولى حكم الناس وقيادتهم، بل كان عندها ما ليس عند "كثير" من حكام اليوم.
وأولى هذه الصفات التي حكى عنها القرآن الكريم أنها لا تستبد بالأمر دون الرجوع إلى وزرائها، فلم تكن تأخذ القرار من الساسة المتسلطين على العالم في وقتها، ولم تكن مجرد دمى تتحرك، بل كانت صاحبة قرار مع شعبها، فلما جاءها الخطاب من سليمان عليه السلام جمعت على الفور وزراءها، وقالت لهم -كما حكى القرآن الكريم-: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 29-32]؛ فهي تقرر أنها لم تقطع أمرا واحدا إلا بمشورة وزرائها، وهو أول مبدأ يقوم عليه الحكم في الإسلام، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ}.
كما أنها اتصفت بما يجب أن يكون عليه الحكام من أخلاق السياسة والبروتوكولات؛ فقد وصفت كتاب سليمان بأنه كتاب كريم، وهذا يدل على حسن خلقها، وهو من أول ما يجب أن يتصف به الحكام، حتى يكون عندهم شفقة ورحمة بشعوبهم، كما أن عندها صدقا في العرض، فقد قالت الكتاب بنصه: { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، ومع كونها غير مسلمة فإنها نقلت الرسالة بالبسملة كما هي.
كما أنها اتصفت بالعقل والتفكير، فلما رد عليها قومها أنهم أصحاب قوة ومنعة، وإن أردت أن نقاتل سليمان؛ فنحن على أتم الاستعداد لم تفرح بهذا، ولم تتهور في اتخاذ قرار بدخول حرب مع سليمان، قد يكون نتيجتها فناء شعب، كما فعل بعض حكام العصرالحديث، والذي أودى بآلاف بل ملايين من شعبه، لأجل أن يبني لنفسه مجدا على حسابهم، بل قرأت لهم الواقع جيدا، حتى يخرجوا باتخاذ قرار هام، فقالت لهم: "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون". وهذا ما فهمته من شأن الملوك الذين عندهم سطوة، بل ظهر ذكاؤها، وهو أيضا من الصفات الواجبة للملوك والحكام، فاختارت الملاينة، وعرضت على قومها أن ترسل إلى سليمان بهدية، كنوع من الاختبار، حتى تعرف هل هو يدعي الصلاح والتقوى، أم أنه يريد المال، ومحاولة استشكاف الهدف من الرسالة تظهر حنكتها السياسية، فربما لو قبل، لأظهرت القوة لعدوها الذي يهددها، ثم أرسلت لسليمان هدية تليق بمقامه.
فلما جاءت الهدية لسليمان، وغضب من أن يرد على اتباع الهدى بالترضية بالمال، وأن الله تعالى قد آتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، ثم أتى بعرشها بعد عمل تغييرات طفيفة عليه، وأدخلها صرحا مبنيا على مياه البحر، ولما أتت ورأت كل هذا، علمت أن سليمان لا يدعي كذبا، وأنه لا يقصد بكلامه مالا، فعنده ما لم تر عينها من قبل، فأسرعت بالإسلام معترفة بتقصيرها في حق ربها، ثم في حق شعبها، وقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ونلحظ أنها اقتنعت بالرسالة، وليس خوفا من سليمان، فقالت: "وأسلمت مع سليمان لله"، ثم عرضت على شعبها الإسلام، فأسلموا، فكانت بركة على شعبها.
وإن امرأة تقود أهلها وشعبها إلى الإسلام والإيمان والعيش الكريم خير من ألف رجل يقودون شعوبهم إلى الهاوية والكفر والضلال.
وفي هذا الشأن يذكر أن المجمع عليه من فقهاء المسلمين قاطبة أن المرأة لا يجوز لها أن تكون خليفة المسلمين، يعني لا تحكم المرأة المسلمين في جميع العالم، أما أن تكون رئيسة دولة، أو حاكمة قطر، أو أن تتولى شئون منطقة أو محافظة، فهذا مما اختلف فيه الفقهاء، وليس هنا مجال حديثه.
القيادة الاجتماعية
ويعطي لنا القرآن الكريم مثلا للقيادة الاجتماعية في زوجة أيوب عليه السلام، حين غلبه المرض، وقعد عن العمل، وفقد المال والولد، ولم يكن له أحد ينفق عليه، ويسعى لطلب الرزق، خرجت زوجته تعمل عند الناس، وتأتي له بالطعام والشراب، فهي تقوم بكفالة الأسرة، فتعمل نهارا، وتخدم زوجها ليلا، بل باعت ضفائر شعرها حين لفظها الناس، وتأخرت في هذا اليوم عن أيوب عليه السلام، حتى أقسم بالله ليضربنها مائة سوط، فكانت بجواره إذ تخلى عنه الناس، وواسته بعملها وكدها إذ حرمه الناس، فإن كان الزوج هو المسئول عن الإنفاق على البيت، فلا بأس أن تقوم المرأة بالعمل، وتحل محل الرجل في هذا، ما دامت هناك حاجة، ولعل في هذا رد على من ينكر العمل على المرأة، وقد كافأ الله تعالى زوجة أيوب، فخفف عنها قسم زوجها، وأمره الله تعالى أن يأخذ مائة عود خفيف، قيل من القمح أو غيره، فيضربها بها ضربا خفيفا، فتقوم مقام حلفه.
ولا بأس أن نقبل ما ورد في كتب التفسير في هذا، وأن الله تعالى رد لها جمالها، مكافأة لها على ما قامت به من قيادة اجتماعية مع زوجها، حتى شفاه الله تعالى وعافاه، ورزقه ضعف ما فقد من المال، وضعف ما فقد من الولد، ولئن كان الله تعالى قد عافى أيوب وعاد شابا بعد أن أنهكه المرض، حتى لم تكد زوجته تصدق أنه هو، فلا بأس أن يقبل أن الله تعالى رد عليها نضارة وجهها، وعادت إليها روح نفسها كما كانت قيادة المقاومة
ومن القيادة التي نلحظها في القرآن الكريم قيادة المرأة في مقاومة الكفر والطغيان، وإصرارها على الإيمان، في وقت ضعف فيه كثير من الرجال، حتى كانت قيادة المرأة وثباتها في هذا الموقف محركا للرجال أن يثبتوا.
وقد ضرب القرآن الكريم لنا في هذا بعضا من نساء البيت الفرعوني، أولاهن زوجة فرعون التي لم تؤمن بزوجها، وآمنت بالله تعالى ربها، حين جاء موسى الذي ربته على يديها بالحق والإسلام، وحاول معها فرعون أن ترجع عن عقيدتها، لكنها ثبتت شامخة شموخ الجبال، ولم تخش من زوجها الذي يدعي أنه إله الناس، ومع أن امرأة في مكانها تنظر أنها زوجة الإله، وزوجة الإله إله، وأن على الشعوب أن يطيعوها وينصتوا لكلامها، فإنها كفرت بهذا الزيف والضلال، وآمنت بالله رب العالمين، حتى لو كان ثمن هذا أن تقدم حياتها فداء لدينها، ولتضرب مثلا للقصر الفرعوني أن أول من يجب أن يؤمن بفرعون كفر به، وكفى بذلك دليلا على كذبه؛ فكأنها كانت تحرض الناس على الكفر بفرعون، والإيمان بالله، فوهبها الله تعالى بيتا في الجنة كما دعته {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وتتمة للبيت الفرعوني تجيء ماشطة بنت فرعون، حين يسقط منها المشط الذي كانت تمشط به شعر ابنة فرعون، فلما سقط منها قالت: بسم الله. فقالت البنت: تقصدين أبي؟ قالت: لا، ربي وربك ورب أبيك الله. فأبلغت البنت أباها، فما كان منه إلا أن شاط غضبا، وهددها بالقتل إن لم ترجع، فأصرت على إيمانها، لتدفع ثمن ذلك حياتها، وتستبدل بها حياة خيرا منها عند ربها، ولتكون قائدة للثبات على الإيمان بالله لغيرها من الرجال والنساء.
ومن اللافت للنظر في قصة فرعون أن عددا غير قليل من النساء كان يمثل الثبات والقيادة في المقاومة ضد حزب فرعون وحاشيته الطاغية.
القيادة الدينية
ويحكي لنا القرآن الكريم عن نساء آل عمران، وهن يمثلن القيادة الدينية للمرأة؛ فها هي امرأة عمران تهب جنينها الذي في بطنها، والذي انتظرته بعد سنين من العقم متوجهة بذلك لربها {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. ويلاحظ أن المرأة وهبت جنينها من نفسها، وأنها هي التي أقدمت على هذا، مع استنباط أخذ رأي الزوج في هذا، ولكن القرآن يحكي أن المبادرة والقيادة كانت منها، فنسب العمل إليها، وكان طبيعة النذر أن يكون ولدها خادما للمسجد الأقصى، وهذا العمل يمثل نوعا من القيادة الدينية، وأنها تريد أن تنشئ ولدها ليتولى عملا مباركا، وكانت قد نذرت إن رزقت ولدا سيكون خادم المسجد الأقصى، ولكن الله تعالى قدر غير هذا، فرزقها بنتا سمتها مريم، ومع هذا فإن زوجة عمران أوفت بما نذرت، وإن لم يأت المولود ذكرا، ووضعت مريم بعد سن الرضاعة في حضانة شيوخ المسجد الأقصى، وكان منهم زكريا عليه السلام، وكان متزوجا أخت زوجة عمران.
وتنشأ مريم لتكمل القيادة الدينية لنساء آل عمران، وتصل إلى درجة من الإيمان والتقوى ومراقبة الله تعالى، فهي تعمل خادمة المسجد الأقصى بما في ذلك من الشرف الكبير، حتى إنها وصلت لدرجة فاقت بها معلمها زكريا عليه السلام، فقد كان يرى عندها فاكهة غير موجودة في السوق، لا يراها الناس؛ لأن هذا ليس أوانها، فيرى عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيسألها "يا مريم أنى لك هذا؟ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب".
بل تمر مريم باختبار عصيب، ينتج عنه أن تلد سيدا من سادات الأنبياء ونبيا من أنبياء بني إسرائيل عيسى عليه السلام، وتحمل معه الهم والتعب منذ الصغر، وتهرب بهإلى مصر، فرارا من محاولة اليهود اغتياله، وتربي ولدها نبي الله عيسى، حتى بعثه الله تعالى نبيا إلى بني إسرائيل، لتكمل مريم صورة القيادة الدينية في بيت آل عمران.
كانت هذه نماذج لأنواع متعددة من القيادة، وليست كل النماذج المذكورة في القرآن، فهناك زوجتا إبراهيم سارة وهاجر والدور الكبير في الدعوة مع إبراهيم عليه السلام، وابنتا العبد الصالح شعيب، وزواج موسى بواحدة منهما، وهناك زليخا في زمن يوسف عليه السلام، وهناك أخت موسى عليه السلام، وغيرهن كثير ممن ذكر القرآن الكريم لهن أدوارا قيادية في المجتمع