باعث نهضة الشرق
تمر السنون و تتعاقب الأيام و ذكرى جمال الدين الافغانى خالدة تتجدد في النفوس كباعث نهضة الشرق .
إذا ذكر الزعماء و المصلحون في الشرق كان هو رائدهم وكان في طليعتهم ، نهض و الناس نيام ، فكانت دعوته أول نداء دوى في الأفاق ، أهاب بالأمم الشرقية أن تتحد و تتعاون ، وتحارب الاستعمار وتقاومه ، وتحذر أساليبه ومكايده ، و أن تتخلص من النظم الاستبدادية الداخلية التي درج عليها الملوك و الرؤساء ، و تحرر العقول و العقائد من نزعات الجمود و الركود ، و تنطلق إلى أفاق الحرية و العلم و اليقظة و الرقى ، فكانت دعوته التي عاش عليها و مات من أجلها بداية النهضات التي شملت أقطارا عديدة جابها ، وغرس فيها أفكاره ومبادئه و كانت مبعث الحركات القومية التي ظهرت فى أرجاء الشرق حينا بعد حين ، خلال القرن التاسع عشر و القرن العشرين .
ظل الشرق قرونا وأجيالا رازحا تحت نير الجمود الفكري ، و التأخر العلمي و الاستعباد السياسي ، وبقى في سبات عميق إلى أن قيض الله له الحكيم الافغانى " جمال الدين " فنفخ فيه روح اليقظة و الحياة ، وأهاب بالنفوس أن تنهض و تتحرك .. و بالعقول أن تستيقظ ، وبالأمم و الجماعات أن تتطلع إلى الحرية ، فكانت رسالته إلى الشرق مبعث نهضته الحديثة .
وإذا أردنا أن نتبين في كلمة عامة فضل جمال الدين ، ومدى الرسالة التي أداها ، فلنتذكر أنه كان في حياته مصلحا دينيا و حكيما وزعيما سياسيا فجمع بين الزعامات الروحية و الفكرية و السياسية واضطلع يهما معا ،
فأدى من الناحية الدينية مهمة الإصلاح و التجديد .. وأهاب بالأمة الإسلامية أن تفهم الإسلام على حقيقته وترجع إلى مبادئه الصحيحة وفطرته الأولى و تطهره من الأوهام و الخرافات التي أفضت إلى تأخر المسلمين .
ومن الناحية الفكرية عمل على إنارة البصائر و توجيه الأفكار إلى البحث عن الحقائق ، وتحرير العقول من قيود الجمود و التفكير .
ومن الوجهة السياسية استنهض الهمم ، واستثار في النفوس روح العزة ، و الكرامة ، و التطلع إلى الحرية ، وغرس بذور الحركات الوطنية في مختلف البلاد الشرقية ، ومحاربة الاستعمار .
نشأته :
ولد جمال الدين الافغانى سنة 1838 م – 1254 هجرية في سعد آباد إحدى قرى التابعة لخطة "كنر" من أعمال كابل عاصمة الأفغان .
ووالده السيد صغتر من سادات " كنر " الحسينية ، ويتصل نسبه بالسيد على الترمذي المحدث المشهور و يرتقى إلى سيدنا الحسين بن على كرم الله وجهه ، فالسيد من السلالة النبوية الطاهرة و يجرى في عروقه الدم العربي الأصيل ، ومن هنا جاء التعريف عنه بالسيد جمال الدين الافغانى .
و قد زعم بعض المغرضين المتشككين أن جمال الدين إيراني لا أفغاني وهو قول مختلق ، يراد منه التشكيك في أفغانية السيد العظيم و يدحضه ما اتفق عليه رواة من معاصريه بأنه أفغاني الموطن ، هذا ما عرفه أقرب الناس إليه مثل الإمام الشيخ محمد عبده ، والأمير شكيب ارسلان ، و الشيخ عبدا لقادر المغربي .
ولأسرة جمال الدين منزلة عالية في بلاد الأفغان ، لنسبها الشريف ولمقامها الاجتماعي و السياسي ، إذ كانت لها الإمارة و السيادة على جزء من البلاد الأفغانية تستقل بالحكم فيه إلى أن نزع الأمارة منها " دوست محمد خان " أمير الأفغان وقتئذ .
صفاته و أخلاقه
وصفه تلميذه الأكبر الإمام محمد عبده بقوله : " إنه يمثل لناظره عربيا من أهالي الحرمين ، فكأنما قد حفظت له صورة آبائه الأولين من سكنة الحجاز ، ربعة في طوله ، وسط في بنيته ، قمحي في لونه ، واسع العينين ، عظيم الأحداق رحب الصدر جليل القدر ، كريم يبذل ما بيده ، قوى الاعتماد على الله لا يبالى ما تأتى به صروف الدهر ، عظيم الأمانة .
وذكر عنه الأمير شكيب ارسلان أنه كان يعظم نفسه عن الشهوات ، ولا يرى من اللذات إلا اللذة العقلية العالية ، وأن السلطان عبد الحميد حاول أن يعلق قلبه بالمال و البنين ، ويشغله بزينة الدنيا ، وراوده على الزواج فأبى و أعرض وكان ينظر إلى المال نظرة إلى التراب فلا يدخره ، ولا يتناول منه إلا ما هو ضروري ، كذلك رفض قبول أي وسام مهما كان عاليا .
علو نفسه
من ابرز صفاته علو النفس و لعلها الصفة الجامعة التي تصدر عنها صفاته الأخرى و أخلاقه
عقيدته
قال الأستاذ الإمام عن مذهبه و عقيدته : " أما مذهب الرجل فحنيفى حنفي ، وهو وان لم يكن مقلدا ، لكنه لم يفارق السنة الصحيحة ، وله مثابرة شديدة على أداء الفرائض في مذهبه .
علمه
منزلته من العلم وغزارة المعارف إذا تكلم في علم حكم فيه حكم الواضعين له ، ثم له في باب الشعر قدرة على الاختراع ، حاذق في صناعة الحجة لا يلحقه فيها احد ، ما خاصمه أحدا إلا خصمه ، ولا جادله عالم إلا غلبه ، أعترف له الأوربيون بذلك بعد أن أقر له الشرقيين .
وكان يجيد الأفغانية و الفارسية و العربية و التركية و الفرنسية ، واسع الإطلاع
أعطاه الله من قوة الذهن و سعة العقل و نفوذ البصيرة ما شاء .
مجلسه
كان حين إقامته بمصر يلقى الدروس في داره ، فكانت محط رجال العلماء و الأدباء و أذكياء الطلبة .
وكان أسلوبه في التدريس مخاطبة العقل ، وفتح أذهان تلاميذه ومريديه إلى البحث و التفكير ، وبث روح الحكمة في نفوسهم ، وتوجيه أذهانهم إلى الأدب و الإنشاء و الخطابة و كتابة المقالات الأدبية و السياسية و الاجتماعية .
العروة الوثقى
أخفقت الثورة العرابية و احتل الإنجليز مصر فسمحوا للسيد بالذهاب إلى اى بلد فاختار الشخوص إلى أوروبا فقصدها سنة 1883 م .
وفى باريس أصدر جريدة العروة الوثقى مع تلميذه الإمام محمد عبده واشتركا معا في تحريرها ، وقد صدر العدد الأول في 13 مارس سنة 1884 م .
إلا أن محاربة الإنجليز لها و منعها من الدخول إلى مصر و الهند وقلة إمدادها بالعون والتأييد أدى إلى احتجابها بعد صدور العدد 18 في 16 /10 / 1884 م .
وقد ظل أثرها بعد احتجابها باقيا مدويا في الأذهان .
من حكم السيد جمال الدين الأفغاني :
ــــــــــــــــــــ
من رهب الملوك من غير جريرة فهو الصعلوك .
إن أمة تطعن حاكمها سراً ، وتعبده جهراً ، لا تستحق الحياة .
قيد الأغلال أهون من قيد العقول بالأوهام .
يقل العلماء كلما زاد عدد المتطفلين و المدعين .
شر الأزمنة أن يتبجح الجاهل و يسكت العاقل .
الأديب في الشرق يموت حياً ويحيا ميتاً.
شر أدواء الشرق داء انقسام أهله ، وتشتت أرائهم ، واختلافهم على الاتحاد ، واتحادهم على الاختلاف ، فقد اتفقوا على ألا يتفقوا ..!!
معشر الشرقيين من خوف الفقر في فقر .
لا خير في حق لا تدعمه قوة .
الإفراط في التواضع دليل على الادعاء .
خير موازين الأمم أخلاقها .
الفقر عدو الفضيلة ، و الثراء نصير الرذيلة .
حقيقة الأنفة و عزة النفس عدم الاتكال على الناس .
يقل العلماء متى كثر المتطفلون و المدعون .
لا مانع من السفور إذا لم يتخذ مطية للفجور .
خير لون لراية الاستقلال دماء المجاهدين الأبطال .
لا يتم عمل و التآلف مفقود ، ولا يكون فشل والاتحاد موجود .
من عجز عن إصلاح نفسه .. كيف يكون مصلحا لغيره .
تحياتى
[IMG]http://[/IMG]