عندما تعانى السياسات الأمريكية من فشل دبلوماسى أو عندما تمر بمأزق أمني-عسكرى فى هذه المنطقة أو تلك من العالم، فإنها تعمد وبمساعدة شبكات الإعلام المتطورة والمتخصصة إلى جذب أنظار الرأى العام بعيداً عن مواقع الفشل أو التأزم، وهذا هو بالتحديد ما لجأت إليه الولايات المتحدة فى غير مرة عند مهاجمتها للعراق عسكرياً أو سياسياً. وفى هذه المرة، وهى لا زالت تعيش فى ضوضاء أزمة الحادى عشر من أيلول، أخذت الولايات المتحدة تصعد من لهجة العداء ضد العراق مهددة إياه بالغزو ومتهمة له بتطوير أسلحة الدمار الشامل تحت غطاء مواجهة الإرهاب وللتستر على مواطن الخلل الخطيرة فى السياسات الأمريكية ولا سيما تجاه منطقة الشرق الأوسط. أن الولايات المتحدة باتهاماتها وتهديداتها الجديدة للعراق تحاول أن تجعل من هذا الموضوع منفذاً جاهزاً للتغلب على أى مأزق أو فشل تعانيه فى أى بقعة من العالم للتمويه لتمرير أى من السياسات التى تخدم مصالحها الفردية، فعليها أن تغطى على ضعف الاقتصاد الأمريكى وإزدياد نسب البطالة بسبب تسريح العديد من الشركات ولاسيما شركات التكنولوجيا العملاقة لإعداد كبيرة من العاملين فيها وإفلاس آو شبه إفلاس بعض كبار الشركات الأمريكية بعد تفجيرات أيلول من العام الماضي، وعليها التمويه لتمرير مشروعها فى إنشاء نظام الدرع الصاروخى وللتستر على عدم توقيعها على بروتوكول كيوتو ، وعليها أيضاً وهو الأهم من ذلك كله، أن تصرف الأنظار عن ما يُرتكب من مجازر فى فلسطين بحق المدنيين العزل عن السلاح وعن انحيازها الواضح لإسرائيل.
ولا يعنى الرأى المشار إليه أعلاه أن أمريكا تعادى العراق لهذا الغرض فحسب، وإنما هو هدف أو غرض أمريكى تم توظيفه ضمناً فى إطار التهديد الأمريكى للعراق للأسباب المعروفة ابتداءً. ومضافاً الى كل ما تقدم، فأن امريكا تريد بتهديدها للعراق ان تشرع الاستخدام المنفرد للقوة وما تسميه هى بالوقائى ليسهل عليها لاحقاً ان تستخدم القوة حيث ما تقتضى مصالحها. وفى إطار تلك التهديدات الأمريكية المستمرة بغزو للعراق وفى ظل التمويه والخداع الأمريكى لتمرير أى أعتداء على العراق واستثماره لتضليل الرأى العام، اخذ العراق يوظف مجموعة من الخيارات الإستراتيجية لمواجهة تلك التهديدات أو أى اعتداء أمريكى محتمل وراصداً لتنفيذ تلك الخيارات إمكانيات دبلوماسية مرموقة.
فسياسياً يعمد العراق إلى تطوير علاقات وثيقة مع مجموعة من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة لإفشال السياسات الأمريكية وإحاطتها بطوق شديد يكبح كل مخططاتها، فطور العراق علاقاته مع روسيا مركزاً على الدور الرافض للسياسات الأمريكية التى تؤديه روسيا فى فترة باتت فيها الأخيرة تتطلع لاستعادة مكانتها على الساحة الدولية، وبالفعل تمكنت روسيا من إفشال مشروع ما سمى بالعقوبات الذكية. وطور العراق علاقاته أيضاً مع مجموعة من القوى الإقليمية المؤثرة فى المنطقة والقادرة على منع تنفيذ السياسات الأمريكية على أرض الواقع كمصر وسوريا والسعودية وايران، واعادة العراق بناء علاقات جيدة مع الاتحاد الأوربى وهو ما أسفر مؤخراً عن تحذير المستشار الألمانى من مخاطر الاعتداء على العراق رافضاً مساعدة العدوان الأمريكى بتوفير الدعم المادي.
واقتصادياً، يملك العراق خياراً ذو بعد إستراتيجى هام لمواجهة التهديدات الأمريكية يتمثل فى إقامة مصالح اقتصادية فاعلة مع مجموعة موسعة من دول العالم ولاسيما تلك الدول الفاعلة سياسياً والتى أشرنا إليها آنفاً، لا بل أن العراق أخذ يقيم علاقات اقتصادية موسعة حتى مع دول الجوار الجغرافى التى يختلف معها سياسياً فى بعض المواقف كتركيا وإيران والسعودية، واقدم على خطوات جريئة على طريق تعزيز العمل الاقتصادى العربى المشترك بإقامة مناطق التجارة الحرة مع عدد من الدول العربية. وعلى صعيد الإعلام، يأخذ العراق بخيار التصعيد الإعلامى كخيار إستراتيجى يمكن من خلاله فضح المؤامرات الأمريكية وتوضيح الحقائق لشعوب العالم حول ما ترنو إلى تحقيقه السياسات الأمريكية، وتسانده فى ذلك مجموعة كبيرة من الأصوات القومية والإسلامية المنطلقة من صحف ومجلات وشبكات إذاعة وتلفزيون آلت على نفسها إلا ان تفضح السياسات الأمريكية المعادية للعراق. وعسكرياً، فان العراق وبرغم تأثر قواته البليغ نتيجة العدوان الأمريكى والأطلسى عليه عام 1991، وبرغم بعد الولايات المتحدة جغرافياً مما يمنع الرد المباشر على هجماتها ، فان العراق يعتبر من التصدى للطائرات الأمريكية حين هجومها على العراق أو اقتحامها لأجوائه، يعتبر ذلك خياراً إستراتيجياً ذو أهمية بالغة لديه، فهو يدرك عظمة الخسارة التى ستعانيها أمريكا فى حالة إسقاط إحدى طائراتها والقبض على الطيار الذى يقودها، لذا ذهب العراق إلى تطوير أنظمة مقاومة الطائرات التابعة إليه كما أشارت إلى ذلك صحيفة الثورة العراقية والتى أضافت مستغربة من الاعتراض الأمريكى على من يطور دفاعاته الجوية حماية لأمنه وشعبه، وتمكن العراق من إسقاط اكثر من طائرة أمريكية موجهة عن بعد، وهو يعد لدفاعات برية مستمية ضد أى غزو أمريكى محتمل.
إن تلك الخيارات الإستراتيجية التى أخذ العراق بتنفيذ بعضها ويتطلع إلى تنفيذها جميعاً، تشكل بمجموعها إستراتيجية هجوم عراقى معاكس بالضد من الاستراتيجية الأمريكية الساعية إلى عزل العراق فى إطار إستراتيجية الهيمنة الأمريكية على العالم ومن ثم لغزوه لخلق النظام السياسى البديل والمنساق للسياسات الأمريكية، وتتأتى أهمية تلك الخيارات للعراق من إدراك الولايات المتحدة لخطورة اعتماد العراق لتلك الخيارات بالنسبة لمصالحها القومية، فمن جانب العراق، يدرك أن الاعتماد على تلك الخيارات فى هذه الفترة بالذات يبدو أكثر إيجابية للتخلص من الحصار الأمريكى وللتصدى للتهديدات الأمريكية فى ظل بيئة دولية تعيش فيها أمريكا بعزلة متزايدة تبرر بوضوح فى الاستقبال السلبى الرافض لرئيسها بوش فى أكثر من عاصمة أوربية وفى رفض العديد من دول العالم لأنماط السلوك الأمريكى فى الساحة الدولية.
رائد صبار / استاذ جامعي من بغداد