بالأمس أغمض الدكتور عبد العزيز الرنتيسي عينيه، وفتح ذراعيه للفراق ورحل... رحل كأجمل ما يكون الرحيل، ودع الحياة ليعانق حياة أجمل وأبقى وأبهى.. بالأمس تغيرت وجوه أفراد أسرته، وتبدلت أصواتهم وعلا بكاء الألم على الفراق.
ورغم أن كريمات الرنتيسي وزوجته يعلمن يقينا "أن هذه هي نهاية طريق المقاومة"، فإن رحيل الرنتيسي الزوج والأب الحاني، أبكى عيونهن لوعة على فراقه، فلطالما جمعتهن اللحظات السعيدة برفقته.
شبكة "إسلام أون لاين.نت"، اخترقت صفوف مئات النساء، اللاتي قدمن لأداء واجب التهنئة باستشهاد الدكتور الرنتيسي، والتقت بكريمات الرنتيسي وزوجته، وتحدثت معهن، عن الدكتور عبد العزيز الأب والزوج والإنسان.
وكانت قوات الاحتلال قد اغتالت الدكتور عبد العزيز الرنتيسي مساء السبت 17-4-2004 حينما قصفت السيارة التي كان يستقلها في مدينة غزة؛ وهو ما أدى إلى استشهاده مع اثنين من مرافقيه.
"بمشقة وصعوبة شديدة".. جملة لا يمكن لها أن تعبر عن حجم معاناة الوصول إلى زوجة الدكتورعبد العزيز الرنتيسي، فالمكان مزدحم جدا بالسيدات والفتيات، وبكثير من الكاميرات التي تتسابق نحو هذه السيدة للفوز بلقاء صحفي، وبعد ساعات من الانتظار والمحاولة استطعت الدخول إلى منزله، وصعدت الدرجات ورائحة المسك التي تفوح من كل مكان تسبقني، وهناك في غرفة الاستقبال كان لقائي الأول مع سمر الرنتيسي الابنة الثانية له، وهي متزوجة وتقطن في مدينة خان يونس وسط قطاع غزة.
إنسان آخر
تقول سمر بنت عبد العزيز الرنتيسي: "نال أبي ما يتمنى، لقد تلقيت الخبر وأنا في بيتي في مدينة خان يونس، ولم أتفاجأ بالخبر كون نفسيتي مهيأة لاستقبال هذا الحدث".
وأكملت القول والابتسامة ترتسم على شفتيها: "أبي كان شخصية حنونة يعاملنا بمنتهى الرقة والدلال... صحيح أنه يبدو على الفضائيات شخصية قوية، لكنه في البيت إنسان آخر".
وكانت آخر مرة تشاهده فيها "سمر" قبل شهرين، حيث كانت ابنتها مريضة، ولم يستطع الأطباء في مدينة خان يونس تشخيص مرضها، فجاءت إلى غزة حيث الأب الطبيب علها تجد عنده الدواء، وبالفعل وصف لها الطبيب الرنتيسي ما تعانيه طفلتها بدقة، وقال لها: إن طفلتها تعاني من انسداد في الأمعاء.
ولم تكد تكمل سمر كلامها "نعم الطبيب أبي"، حتى قطع حوارنا صوت طفل لم يتجاوز السادسة من عمره، وبكل براءة الأطفال قال: "سيدو راح على الجنة"، وعندما سألت: من يكون هذا الطفل؟ أجابوني أنه ابن إيناس الابنة الكبرى للدكتور عبد العزيز.
وأكمل الطفل قوله: "اسمي أمير الإسلام"، رغم أن اسمه أمير فقط، ولكنه أضاف إليها عبارة "الإسلام"، وأصر على أن يتحدث معي وبنبرة حزينة قال: "كنت بدي أبوس سيدو.. ماخلوني (لم يتيحوا لي الفرصة)... كان في ناس كتير... خلي سيدو يجي (اجعل جدي يعود) ويرجع بدي سيدو... بدي سيدو"، وغادر أمير الغرفة مخلفا وراءه الكثير من الصمت والكثير من الدموع.
أن تدخلني ربي الجنة
أما آسيا الابنة الثالثة للرنتيسي -وهي الأخرى تقطن مدينة خان يونس، ولم تره منذ شهرين- فحدثتنا قائلة: "كان أبي مثاليا في التعامل معنا، فقد كان يساوي بين البنت والولد، وكان يحب أحفاده كثيرا، ويخصص وقتا للعب مع الأطفال ومداعبتهم، وإن شاء الله سأربي أولادي على نهج جدهم".
وكانت أسماء صغرى بنات الرنتيسي محظوظة كثيرا؛ إذ إنها آخر من شاهدت والدها، وعايشت لحظاته الأخيرة، حيث أخبرتنا عن تلك اللحظات قائلة: "كانت أروع لحظات حياتي هي الجلوس مع أبي، ومن أجمل الأوقات التي يسودها الفرح والسرور أوقات تواجده في البيت، فلقد أعطانا من الحنان الكثير".
وعندما سألتها: "يقولون إن الشهيد يشعر بقرب الشهادة، فهل لاحظت على والدك ما يدل على أنه يودع الحياة؟" فأجابتني: "صحيح لقد كان أبي طوال النهار ينشد أن تدخلني ربي الجنة.. هذا أقصى ما أتمنى، وقد كانت تخرج الكلمات من قلبه، ولما خرج لاحظت أنه لبس أجمل ثيابه وخرج وهو سعيد".
وتكمل أسماء حديثها عن اللحظات الأخيرة مع والدها، موضحة أنها استوقفته قبل خروجه من المنزل، وقالت له: "أبي لماذا تريد الخروج؟... ابق معنا... فلقد اشتقنا إليك كثيرا... فرد علي: ورائي مشاغل كثيرة كثيرة".
وتضيف أسماء: "بعد خروج والدي بدقائق فقط سمعت دوي الانفجار فقلت استشهد أبي، وبعد استشهاده تأكد لي صحة المقولة: الصبر ينزل بعد المصيبة".
وتؤكد كريمة الرنتيسي الصغرى "أفتخر بأبي وبقلم أبي، فأنا أحببت دوما كتاباته، وأذكر عندما زرته أول مرة أنا ووالدتي في السجن تأثر برؤيتي، فكتب لي قصيدة أحفظ مطلعها الذي يقول فيها: لكأنها نجم الضحى لألأ... لما تبسمت ثغرها أسماء".
أحب بناتي إلي
وذكرت أسماء أنه "بعدما شغل أبي منصب قيادة حركة حماس، كان يبدو عليه أنه يحمل هموما تفوق الهموم التي كانت يحملها بألف مرة، فقد كان نومه قليلا جدا، ولما كنا ننصحه بأخذ الحيطة والحذر، كان يرد: ما دام الأجل آتٍ لا محالة فحبذا لو كانت شهادة".
وعن كيفية تلقي أمها لهذا النبأ قالت أسماء: "الحمد لله كانت صابرة ومتماسكة وهي التي حثتنا على الصبر رغم تغير ملامحها وارتسام الحزن عليها، لكنها كانت ثابتة وتلقت الصدمة بكل صبر.. كنا نسمع أن الصبر ينزله الله مع المصيبة وتأكد لي هذا البارحة عندما سمعت نبأ استشهاد أبي".
وختمت أسماء حديثها عن أبيها بالقول: "أبي كان يحترم المرأة، ويقول إنها نصف المجتمع، وهي مربية الأجيال"، وتبتسم أسماء وكأنها تتذكر حدثا جميلا عن أبيها، قبل أن تواصل حديثها: "كلما ذهبت واحدة منا نحن الأربعة إلى زيارته في السجن داعبها قائلا: أنت أحب البنات إليّ، ولما تعود للبيت تفتخر وتتباهى بهذه العبارة لنكتشف في النهاية أنه قالها لنا نحن الأربعة".
"كان نعم الأب".. هذه العبارة ليست لابنة الرنتيسي هذه المرة، بل لزوجة ابنه البكر محمد "دينا النفار"، وهي حامل في شهرها الثامن، فقالت عن الرنتيسي والد زوجها: "مهما قلت ومهما تحدثت فلن أوفيه حقه، لقد كان يعاملني كأنني ابنة من بناته، وحزنت جدا؛ لأنني كنت أتمنى أن يرى حفيده، فلطالما قال لي: هانت أيام وسأرى عبد العزيز وسأعزّه كما لن يعزه أحد، كان يعامل زوجته وأولاده معامله رائعة، وخاصة من نوعها".
ولما شعرت دينا بالتعب استأذنت وغادرتنا، وهي تقول: "بإذن الله سيكون عبد العزيز الرنتيسي الحفيد القادم كما كان عبد العزيز الرنتيسي الجد، وأتمنى أن يجمعنا الله معه في الفردوس الأعلى".
نِعم الزوج
كان لا بد أن تكون زوجة عبد العزيز محطتنا الأولى في هذا التقرير، ولكن صعوبة اللقاء معها والتحدث إليها حالت دون ذلك، إلا أن القدر جعل "ختامها مسكا".
وبعد طول صبر وانتظار، تحدثت أخيرا إلينا زوجته "رشا الرنتيسي" قائلة: "لقد عشت معه، وأنجبت منه أربع بنات (إيناس وسمر وآسيا وأسماء)، وولدين (محمد وأحمد)، وكان دوري في حياته دور المرأة المسلمة التي وعت رسالتها جيدا، والرسالة من خلال الإسلام ومن خلال كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الرسالة هي التي جعلتني أقف بقوة خلف الدكتور عبد العزيز".
وتضيف زوجة الرنتيسي: "أنا لم أره إلا أمس منذ توليه قيادة حركة حماس، فهو لم يكن يتواجد في البيت، وقبل ذلك لم أكن أشاهده إلا على شاشات الفضائيات، وأسمعه عبر وسائل الإعلام".
وعن الرنتيسي الزوج، تقول: "كان خلقه يتمثل في خلق رسول الله صلى لله عليه وسلم الذي كان يقول خيركم لأهله، وأنا أشهد بأن أبا محمد كان نعم الزوج، ونعم الأب، ونعم الجد، ونعم القائد، وكان لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يطأ موقعا إلا أغاظ به الأعداء".
وأشارت الزوجة الصابرة إلى أنها وطنت نفسها لاستقبال نبأ استشهاد زوجها الرنتيسي، مضيفة: "أود أن أقول إنني وطنت نفسي على كل شيء، فحياتنا كلها قدر... نعم بكيت، ومثلي في ذلك رسولنا صلى لله علية وسلم، ولكني لم أقل إلا ما يرضي الله عز وجل".
وحالت هتافات النساء القادمات للتهنئة، والتي علت تطالب زوجة الرنتيسي بالنزول إلى خيمة العزاء دون مواصلة الحديث عن الفارس الذي ترجل، لكنها ختمت حديثها معنا قائلة: "حماس كلها لا تتجزأ، وإذا ذهب عبد العزيز الرنتيسي، فهناك ألف عبد العزيز الرنتيسي".
ثم توجهت زوجة الرنتيسي إلى جموع الفلسطينيات اللاتي أتين للمشاركة في بيت عزاء الشهيد في حي الشيخ رضوان وتحدثت فيهن قائلة: إنه والله لموقف فخر واعتزاز أقف فيه في هذا اليوم.. في عرس زوجي حين يزف إلى 72 حورية من الحور العين... أسأل الله العلي القدير أن يهنأ بهن".
وأضافت الزوجة التي بدى واضحا عليها ملامح الصمود والصبر والحزن: "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وأنا على فراقك يا أبا محمد لحزينة، لكنني أسال الله العلي القدير أن يلهمني الصبر أنا وأولادي وبناتي وكل الشعب الفلسطيني والمسلم"، وتابعت الزوجة تتحدث بعبارات قوية متلاحقة: "لا أستطيع أن أقول إلا اللهم اؤجر حركة المقاومة الإسلامية حماس في مصيبتها هذه وأبدلها خيرا منها.. فإن كان عبد العزيز مصدر قوة لها فإنه حين يكتب الله نهاية أجله فوالله لن تضيع الحركة.. لن يضيعها الله العلي القدير.. فإن ذهب عبد العزيز وقبله الشيخ أحمد ياسين فهناك آلاف أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي"، وختمت أم محمد كلمتها بالقول: "لن يثأر القساميون للرنتيسي، بل الشعب الفلسطيني بأكلمه، فلم يبق أمامنا إلا خيار المقاومة... بارك الله في هذا الشعب".
لم يكن عبد العزيز الرنتيسي سوى رجل منح زوجته القوة والصبر لتمنح هي أبناءها الصمود والثبات يوم استشهاده، ولم تكن المرأة التي شاركت عبد العزيز الرنتيسي حياته سوى زوجة وأم أوفت بمتطلبات مسئولية أولاها إياها هذا الرجل الذي جند حياته للجهاد في سبيل الله.
وفي حديث خاص لـ"إسلام أون لاين.نت" قالت أم محمد: "لا أستطيع أن أقول أكثر من أن أبا محمد تمنى الشهادة ونالها فهنيئا له.. كم تمنيت أن أستشهد معه ولكن الله لم يكتب لنا نهاية الأجل في وقت واحد.. أراد له أن ينال الشهادة قبلي وما أقول إلا الحمد لله الذي قدر لنا هذا، وأدعوه لأن يلحقني بزوجي وأبي أبنائي".
أم محمد -الطالبة في الجامعة الإسلامية كلية أصول الدين- أوضحت أن الشهيد كان المشجع الأول لها على استكمال دراستها وهو الذي كان دائما مع تواجد المرأة في غمار المعركة، وفي أن يكون لها دور فعال في الجهاد ضد المحتل الإسرائيلي