نكتة من رصاص
حين عاد للدار في وقت متأخر ،لا حظ أن عينيها متوترتان .
لا شك أنها بكيت طويلاً هذه الليله ، تماماًمثل الليله الماضيه ،
ومثل كل ليله كان يغيب فيها عنها ويتركها للنار.
النارليس تلك الشعله التي تقدح عند أحتكاك عود الثقاب بسطح خشن .
إنها ذلك الأعصار الساخن الذي يصعد من المعده ويمر بالقفص الصدري ،
ويكتم على جهاز التنفس ويحيل العينين إلى جمرتين مبللتين ،
ويجعل الموت أسهل من الحياة . هل جربتم نار الغيره ؟
كان يظن أنه يشعر بها ، بتلك النار التي تحرق جوف زوجته وأم أولاده .
لكنه كان يعود من عند الأخره منهكاً يستبدل ثيابه على عجل ،
ويلقي بنفسه على الفراش ليغرق في أحلى نوم وكان يحدث أن يتقلب
أو يستفيق ليشرب ماء أو يقضي حاجه ، فيلاحظ أنها جامده في
موضعها إلى جواره ظهرها للحائط ، لكن عينيها مفتوحتان ،
وكأنها تمثال فاشل لأمرأة نائمه . حين ظهرت ألأخرى في حياته ، جرفته
موجه من الأنجذاب ، الذي لا طاقة له على مقاومته كان يظن أن الجاذبيه
هي من صفات كوكب الأرض إلى أن تعرف إلى تلك الغاده الشابه ذات
النضاره التي تنعش القلب ، لقد أرادها لنفسه مهما كلف الأمر وحصل
على ما أراد ، ولم تنفع توسلات زوجته ولا دموعها ولا تدخلات أقربائها
كانت القضيه محسومه وليس لأحد أن يتدخل في ما لا يعنيه .
غرق في العسل والطراوه ، وتذوق بعد سنوات من الألتزام رائحة الصبا،
ونسي أن له زوجة أولى ، لكنه عاد لبيته بعد أن هدأت نداءات الجوع ،
وبعد أن حنا إلى المذاق القديم والأليف لقد وجد في أنتظاره أمرأة
تجاهد ، لكي تبدو مرفوعة الهامه موفرة الكرامه تبتسم له من فم متوتر ،
فوقه عينان حمروان .
تصور أن الأمور عادت لمجاريها ، بمجرد أنه صار يتنقل بين هذا البيت
وذاك ، دون أن يقصر في حق أي من المرأتين .
لكن مفهوم (( الرضا )) ومعنى (( التقصير )) ولفظه ((العدل ))
تحتمل كلها أجتهادات شئى .
ثم شيئاً فشيئاً بدأ يلاحظ أن أم البنين تذوب و يعلوها نحول و شحوب .
غابت عنها تلك الروح الساخره التي أشتهرت بها .
ولما تجرأ و سألها ، ذات يوم ، عن أخر نكته في جعبتها ،
ردت بكلمات تتساقطت من شفتيها كالرصاص (( أنا أخر نكته )) .
إنها تتعذب ،وهو يرى عذابها بأم عينه .
وهي لم تعد تحتمل الوضع الجديد ، لكنه لا يملك أن يلبي لهاما تطلب .
وقد تصور أن نار الغيره تنطفئ بعد شهر أو شهرين أو ستة ،
لكن هذه النار تأكل أمرأته في كل دقيقه وثانيه ، وتجعل من
صدرها ممراً ضيقاً للحشرجات .
شيئاً فشيئاً، بدأ صدره يضيق هو أيضاً ، وذهبت نشوة أيام العسل لتحل
محلها مسؤوليات مضاعفه ، وطاقه لا يستطيع أن يلبيها كما يحب .
ثم إنه كان يقرأ عتاباً صامتاً في أعين بنيه وبناته ، ويشعر بأنهم
ينتظرون لحظة ما .. خبراً ما .. قراراً يعيده لهم بالكامل .
ويكذب لو قال إنه ما عاد يحب أم البنين كالسابق .
إذ لولاهذا الحب لما راودته مشاعر الأسى والحزن لحالتها .
إن كل لحظه في تاريخه ، وكل قطعه أثاث في بيته ، هي ذكرى عاشها
معها،واختارها معها ، وتلهف عليها معها ، وحصل عليها معها،
وتمتعاً بها معاً .
كيف يطفئ نار الغيره ؟ كيف ينتشلها من عذابها ؟ و لماذا يريدها قويه ،
في حين أنه كان ضعيفاً أمام التجربه ؟