الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ،،، وبعد
لما ولي الحجاج بن يوسف الثقفي العراق ، وطغى في ولايته وتجبر. . . كان الحسن البصري - رحمه الله - أحد الرجال القلائل الذين تصدوا لطغيانه ، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله ، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه.
ومن ذلك أن الحجاج بنى لنفسه بناء في مدينة ( واسط ) ، فلما فرغ منه ، نادى في الناس أن يخرجوا للفرجة عليه والدعاء له بالبركة . فلم يشأ الحسن أن يفوّت على نفسه فرصة اجتماع الناس هذه. . . فخرج إليهم ليعظهم ويذكرهم ، ويرغبهم بما عند الله.
ولما بلغ المكان ، ونظر إلى جموع الناس وهي تطوف بالقصر المنيف ، مدهوشة بسعة أرجائه ، مشدودة إلى براعة زخارفه. . . وقف فيهم خطيباً ، وكان في جملة ما قال :
لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الأخبثين ؛ فوجدنا أن فرعون شيد أعظم مما شيد ، وبنى أعلى مما بنى. . .
ثم أهلك الله فرعون ، وأتى على ما بنى وشيد. . .
ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه ، وأن أهل الأرض قد غروه. . .
ومضى يتدفق على هذا المنوال حتى أشفق عليه أحد السامعين من نقمة الحجاج ، فقال له :
حسبُك يا أبا سعيد. . . حسبُك.
فقال له الحسن :
لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليُبَينُنّه للناس ولا يكتمونه.
وفي اليوم التالي دخل الحجاج إلى مجلسه وهو يتميزُ من الغيظ ، وقال لجُلاّسه :
تباً لكم وسُحقاً...
يقوم عبد من عبيد أهل البصرة ويقول فينا ما شاء أن يقول ، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه !! ...
والله لأسقينكم من دمه يا معشر الجبناء.
ثم أمر بالسيف والنطع. . . فأحضرا...
ودعا بالجلاد ؛ فمثل واقفاً بين يديه.
ثم وجه إلى الحسن بعضَ شُرَطِهِ...
وأمرهم أن يأتوا به...
وما هو إلا قليل حتى جاء الحسن ، فشخصت نحوه الأبصار. . . ووجفت عليه القلوب.
فلما رأى الحسن السيف والنطع والجلاد ، حرك شفتيه...
ثم أقبل على الحجاج وعليه جلال المؤمن ، وعزة المسلم ، ووقار الداعية إلى الله.
فلما رآه الحجاج على حاله هذه ؛ هابه أشد الهيبة وقال له :
ها هُنا يا أبا سعيد... ها هُنا...
ثم ما زال يوسِّع له ويقول :
هَا هُنا ... والناس ينظرون إليه في دهشة واستغراب حتى أجلسه على فَراشه.
ولما أخذ الحسن مجلسه التفت إليه الحجاج ، وجعل يسألُهُ عن بعض أمور الدين ، والحسن يجيبُهُ عن كل مسألة بجنانٍ ثابت ، وبيانٍ ساحر ، وعلمٍ واسع.
فقال له الحجاج :
أنت سيدُ العلماءِ يا أبا سعيد.
ثم دعا بغاليةٍ وطيَّبَ له بها لحيته وودعه.
ولمّا خرج الحسن من عندِهِ ، تبعه حاجِبُ الحجاج وقال له :
يا أبا سعيد ، لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك ، وإني رأيتُكَ عندما أقبلتَ ورأيتَ السيفَ والنطع ؛ قد حركتَ شفتيكَ ، فماذا قلت ؟ .
فقال الحسن :
لقد قُلتُ : يا وليَّ نعمتي وملاذي عندَ كُربتي ؛ اجعل نقمتهُ برداً وسلاماً عليَّ كما جعلتَ النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
رحم الله الحسن البصري رحمة واسعة على هذه العزة والشموخ والقوة والتوكل على الله ، وجعل من أصلاب هذه الأمة علماء أمثاله.
كتاب ( صور من حياة التابعين ) لعبد الرحمن رأفت الباشا.