الجزء السابع :
بينما الحضارة الإسلامية السعادة عندها هي نوال رضوان الله، وتنظم إشباع غرائز الإنسان وجوعاته الجسدية بالأحكام الشرعية.
وعلى ذلك فإنه لا يجوز أن يؤخذ نظام الحكم الديمقراطي، ولانظام الاقتصاد الرأسمالي، ولانظام الحريات العامة الموجودة عند الدول الغربية، فالدساتير والقوانين الديمقراطية، وأنظمة الحكم الملكية والجمهورية، والبنوك الربوية، والبورصات وأسواق النقود العالمية، كلها لايجوز أخذها، لأنها كلها أنظمة كفر، وقوانين كفر تتناقض مع أحكام الإسلام وأنظمته.
وكما لا يجوز أخذ حضارة الغرب، وما انبثق عنها من أفكار وأنظمة فأنه لا يجوز أخذ الحضارة الشيوعية، لأنها تتناقض مع حضارة الإسلام تناقضا كليا.
فالحضارة الشيوعية تقوم على أساس عقيدة أن لا خالق لهذا الوجود، وأن المادة هي أصل الأشياء، وأن جميع الأشياء في الكون تصدر عنها بطريق التطور المادي.
بينما الحضارة الإسلامية تقوم على أن الله هو خالق هذا الوجود، وأن جميع الأشياء الموجودة فيه مخلوقة له، وأنه أرسل الأنبياء والرسل بدينه إلى بني البشر، وأنه ألزمهم بإتباع ما أنزل لهم من أوامر ونواه.
والحضارة الشيوعية ترى أن النظام يؤخذ من أدوات الإنتاج، فالمجتمع الإقطاعي تكون الفأس هي أداة الإنتاج فيه، ومنها يؤخذ نظام الإقطاع، فإذا تطور المجتمع إلى الرأسمالية تصبح الآلة هي أداة الإنتاج، ومنها يؤخذ النظام الرأسمالي. فنظامها مأخوذ من التطور المادي.
بينما الحضارة الإسلامية ترى أن الله سبحانه جعل للإنسان نظاما في الحياة يسير عليه، وأرسل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا النظام وبلغه إياه، وأوجب عليه أن يسير بحسبه.
والحضارة الشيوعية ترى أن النظام المادي هو المقياس في الحياة، وبتطوره يتطور المقياس.
بينما الحضارة الإسلامية ترى أن الحلال والحرام، أي أوامر الله ونواهيه هي مقياس الأعمال في هذه الحياة، فالحلال يعمل، والحرام يترك، ولا يتطور ذلك، ولا يتغير، ولا تحكم فيه نفعية، ولا مادية، بل يحكم فيه الشرع.
وعلى هذا فالتناقض تام بين الحضارة الشيوعية، والحضارة الإسلامية. لذلك لا يجوز أن تؤخذ، كما لا يجوز أن يؤخذ أي فكر من أفكارها، ولا أي نظام من أنظمتها.
فلا يجوز أخذ فكرة التطور المادي، ولا فكرة إلغاء الملكية الفردية، ولا فكرة إلغاء تملك المصانع وأدوات الإنتاج، ولا فكرة إلغاء تملك الأرض للأفراد.
كما لا يجوز أخذ فكرة تأليه الأشخاص، ولا فكرة عبادة الأشخاص. ولا غير ذلك من أفكار هذه الحضارة الملحدة وأنظمتها فكلها أفكار كفر، وأنظمة كفر تتناقض مع عقيدة الإسلام وأفكاره، ومع أنظمته وأحكامه.
والان نأتي إلى الديمقراطية لنبين مناقضتها للإسلام مناقضة تامة في المصدر الذي جاءت منه، والعقيدة التي انبثقت عنها، والأساس الذي قامت عليه، والأفكار والأنظمة التي جاءت بها.
فالمصدر الذي جاءت منه الديمقراطية هو الإنسان، والحاكم فيها الذي يرجع إليه في أصدار الحكم على الأفعال والأشياء بالحسن والقبح هو العقل. والأصل في وضعها هم فلاسفة أوروبا ومفكروها، الذين برزوا أثناء الصراع الرهيب بين أباطرة أوروبا وملوكها وبين شعوبها. فكانت من وضع البشر، وكان الحاكم فيها هو عقل الإنسان.
أما الإسلام فإنه على النقيض من ذلك فهو من الله أوحى به إلى رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ((وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)النجم)). وقال: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)) (1) القدر
والحاكم فيه الذي يرجع إليه في إصدار الأحكام إنما هو الله سبحانه أي الشرع، وليس العقل. وعمل العقل قاصر على فهم نصوص ما أنزل الله. قال تعالى: (( إن الحكم إلا لله )). وقال: ((فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ (59)النساء)). وقال ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )) الآية 10الشورى.
أما العقيدة التي انبثقت عنها الديمقراطية فهي عقيدة فصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن الدولة. وهي العقيدة المبنية على الحل الوسط بين رجال الدين النصارى _ الذين كان يسخرهم الملوك والقياصرة، ويتخذونهم مطية لاستغلال الشعوب وظلمها، ومص دمائها باسم الدين والذين يريدون أن يكون كل شيء خاضعا لهم باسم الدين- وبين الفلاسفة والمفكرين، الذين ينكرون الدين، وسلطة رجال الدين.
وهذه العقيدة لم تنكر الدين، لكنها ألغت دوره في الحياة، وفي الدولة، وبالتالي جعلت الإنسان هو الذي يضع نظامه.
وكانت هذه العقيدة هي القاعدة الفكرية التي بنى عليها الغرب أفكاره، وعنها انبثق نظامه، وعلى أساسها عين اتجاهه الفكري، ووجهة نظره في الحياة، وعنها انبثقت الديمقراطية.
أما الإسلام فأنه على النقيض كليا من ذلك، فهو مبني على العقيدة الإسلامية، التي توجب تسيير جميع شؤون الحياة، وجميع شؤون الدولة بأوامر الله ونواهيه، أي بالأحكام الشرعية المنبثقة عن هذه العقيدة وأن الإنسان لا يملك أن يضع نظامه، وإنما عليه أن يسير وفق النظام الذي وضعه الله له.
وعلى أساس هذه العقيدة قامت حضارة الإسلام وعينت وجهة نظره في الحياة.
وأما الأساس الذي قامت عليه الديمقراطية وهو فكرتا :
السيادة للشعب.
والشعب مصدر السلطات.
فقد جعل الشعب مالكا لإرادته ، ومسيرا لها، وليس الملوك والأباطرة، وهو الذي ينفذ هذه الإرادة. وبكونه صاحب السيادة، ومالكا للإرادة، ومسيرا لها صار يملك التشريع، الذي هو تعبير عن ممارسته لإرادته ، وتسييرها، كما هو تعبير عن الإرادة العامة لجماهير الشعب، ويقوم بالتشريع عن طريق نواب يختارهم ليقوموا بالتشريع نيابة عنه.
وهو يملك أن يشرع أي دستور، وأي نظام، وأي قانون، وأن يلغي أي دستور، وأي نظام، وأي قانون حسب ما يرى من مصلحة. فله أن يحول نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري وبالعكس، كما له أن يحول النظام الجمهوري من رئاسي إلى نيابي وبالعكس، كما حصل على سبيل المثال في فرنسا وايطاليا وأسبانيا واليونان من تحول أنظمة الحكم فيها من ملكية إلى جمهورية ومن جمهورية إلى ملكية.
كما له أن يحول نظام الاقتصاد من رأسمالي إلى اشتراكي وبالعكس، وقد شرع بواسطة نوابه إباحة الارتداد من دين إلى دين أخر، وإلى غير دين، كما شرع إباحة الزنا واللواطة والتكسب بهما.
ولما كان الشعب مصدر السلطات فإنه يختار الحاكم الذي يريده، ليطبق عليه التشريع الذي وضعه، ليحكمه به، وله أن يخلع الحاكم، ويستبدل به حاكما أخر، فهو صاحب السلطة، والحاكم يستمد منه سلطته.
أما الإسلام فالسيادة فيه للشرع وليست للأمة، فالله هو وحده المشرع، ولا تملك الأمة بمجموعها أن تشرع ولو حكما واحدا، فلو اجتمع المسلمون جميعا، وأجمعوا على إباحة الربا لإنعاش الحالة الاقتصادية، أو أجمعوا على إباحة أماكن خاصة للزنا حتى لا ينتشر الزنا بين الناس، أو أجمعوا على الغاء الملكية الفردية او أجمعوا على إلغاء فريضة الصيام، ليتمكنوا من زيادة الإنتاج، أو أجمعوا على تبني الحريات العامة، التي تترك للمسلم الحرية ليعتقد العقيدة التي يريدها، والتي تترك له أن ينمي ماله بجميع وسائل التنمية ولو عن طريق الوسائل المحرمة، والتي تبيح له الحرية الشخصية ليتمتع في حياته كيفما شاء من شرب للخمر، واقتراف للزنا. فإن هذا الإجماع لا قيمة له، ولا يساوي في نظر الإسلام جناح بعوضة،وإذا أقدمت عليه فئة من المسلمين وجب أن تقاتل حتى ترجع عنه. فالمسلمون مقيدون في جميع أعمال الحياة بأوامر الله ونواهيه، ولا يجوز لهم أن يعملوا أي عمل يتناقض مع أحكام الأسلام، كما لا يجوز لهم أن يشرعوا ولو حكما واحدا، فالله وحده هو المشرع.
قال تعالى: (((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ (65)النساء))). وقال: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ)). الآية 57 الأنعام والآية 40 يوسف.
وقال: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ (60)
سورة النساء. فالاحتكام إلى الطاغوت هو الاحتكام إلى غير ما أنزل الله، أي هو الاحتكام إلى أحكام الكفر التي يضعها البشر. وقال: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)المائدة)). وحكم الجاهلية هو الحكم الذي لم يأت به الرسول عن ربه وهو حكم الكفر الذي يشرعه البشر، وقال: ((((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) النور ومخالفة أمره الذي حذر منه هو أتباع ما يشرعه البشر، وترك ما جاء به الرسول. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) والمراد بأمرنا في الحديث هو الإسلام.
وهناك عشرات الآيات والأحاديث القطعية التي تبين أن السيادة للشرع، وأن الله هو المشرع، وأن البشر لايجوز لهم أن يشرعوا، وأنهم يجب عليهم أن يسيروا جميع أعمالهم في هذه الحياة بأوامر الله ونواهيه.
والإسلام جعل تنفيذ أوامر الله ونواهيه للمسلمين، وتنفيذ أوامر الله ونواهيه يحتاج إلى سلطة تنفذه، لذلك جعل للأمة السلطان، أي حق اختيار الحاكم، ليقوم بتنفيذ أوامر الله ونواهيه عليها، وذلك أخذا من أحاديث البيعة التي جعلت حق تنصيب الخليفة للمسلمين بالبيعة على كتاب الله وسنة رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ))، وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الأخر )).
وعن عبادة بن الصامت قال: (( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المكره والمنشط )). وأحاديث غيرها كثيرة تبين أن الأمة هي التي تنصب الحاكم عن طريق البيعة على كتاب الله وسنة رسوله.
ومع أن الشرع قد جعل السلطان للأمة تنيب عنها فيه من يحكمها بطريق البيعة، إلا أنه لم يجعل لها حق عزل الحاكم، كما في النظام الديمقراطي، وذلك لورود الأحاديث الصحيحة الموجبة طاعة الخليفة ولو ظلم، مالم يأمر بمعصية. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية. وعن عوف بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((....وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من وَلَي عليه والٍ فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة )). وإقامة الصلاة تعني الحكم بالأسلام من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل..
يتبع بإذن الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــ