الجزء الخامس
وقبل أن نعرض لبيان مناقضة الديمقراطية للإسلام، وبيان حكم الشرع في أخذها، نود أن نعرض لموضوع ما يجوز للمسلمين أخذه مما هو عند الأمم والشعوب الأخرى وما يحرم عليهم أخذه، وفق ما تدل عليه نصوص الشرع وأحكامه. فنقول :
1- إن جميع الأفعال التي تصدر من الإنسان وجميع الأشياء التي تتعلق بها أفعال الإنسان الأصل فيها إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتقيد بأحكام رسالته، فان عموم آيات الأحكام تدل على وجوب الرجوع فيها إلى الشرع، ووجوب التقيد بأحكام الشرع فيها :
قال تعإلى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)الحشر).
وقال : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (65)النساء).
وقال : ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ)) الآية 10 الشورى،
وقال : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)النساء)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )). (( من احدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )).
فهذا يدل على ان الاصل هو وجوب اتباع الشرع، والتقيد به في الافعال والاشياء، فلا يجوز لمسلم ان يقدم على فعل شيء، أو تركه الا بعد ان يعرف حكم الله فيه، أهو واجب ام مندوب فيقدم على القيام به، أم هو حرام أم مكروه فيقدم على تركه، أم هو مباح فيكون مخيراً بين الفعل والترك.
ولهذا فالاصل في افعال الإنسان هو التقيد فيها بحكم الله،
وبالنسبة للاشياء التي هي متعلقات أفعال الإنسان فان الاصل فيها الإباحة ما لم يرد دليل التحريم.
فالاصل في الشيء ان يكون هو مباحاً، ولا يحرم الا اذا ورد دليل شرعي يدل على تحريمه.
وذلك ان النصوص الشرعية قد أباحت جميع الاشياء، وجاءت النصوص عامة، تشمل كل شيء قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)) الآية 20 لقمان.
ومعنى تسخير الله للأنسان جميع ما في السموات والأرض هو أباحته لكل ما فيهما. وقال: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً )) الآية 29 البقرة.
وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً)) الآية 168 البقرة.
وقال: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإليه النُّشُورُ (15))) الملك.
وهكذا جميع الايات التي جاءت في إباحة الأشياء جاءت عامة، فعمومها دل على إباحة جميع الاشياء فتكون إباحة جميع الاشياء جاءت بخطاب الشارع العام.
فإذا حرم شيء فلا بد من نص مخصص لهذا العموم، يدل على استثناء هذا الشيء من عموم الإباحة.
مثل قوله تعالى: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)) الآية 3 المائدة.
ومن هنا كان الأصل في الاشياء الإباحة.
2- الشريعة الإسلامية حاوية لأحكام الوقائع الماضية كلها والمشاكل الجارية جميعها، والحوادث التي يمكن أن تحدث بأكملها. فلم يقع شيء في الماضي، ولايحصل شيء في الحاضر، ولا يحدث شيء في المستقبل إلا ولكل شيء من ذلك حكم في الشريعة. فقد أحاطت الشريعة الإسلامية بجميع أفعال الإنسان إحاطة تامة شاملة.
قال تعالى: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) النحل)).
وقال: ((مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)) الآية 38 الأنعام.
وقال: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)) الآية 3 المائدة.
فالشريعة الإسلامية لم تهمل شيئا من أفعال العباد مهما كان، فهي إما أن تنصب دليلا للفعل بنص في القران والحديث، وإما أن تضع أمارة في القران والحديث تنبه على مقصدها، وعلى الباعث على تشريعه، لأجل أن ينطبق على كل مافيه تلك الأمارة، أو هذا الباعث.
ولا يمكن شرعاً أن يوجد فعل للإنسان ليس له دليل، أو أمارة تدل على حكمه، لعموم قوله تعالى: ((تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ)) وللنص الصريح بأن الله سبحانه قد أكمل هذا الدين.
3- وبناء على ما تقدم يمكن أن يتضح مايجوز للمسلمين أن يأخذوه، مما هو موجود عند الأمم والشعوب، وما لا يجوز لهم أن يأخذوه.
فجميع الافكار المتعلقة بالعلوم والصناعات والاختراعات وما شابهها، وجميع الأشكال المدنية الناتجة عن العلم وتقدمه، وعن الصناعة ورقيها، فانه يجوز أخذها ألا أذا كانت تخالف الأسلام، فانها أذا خالفت الأسلام يحرم أخذها.
لأن جميع هذه الافكار المتعلقة بالعلوم والصناعات والاختراعات، وجميع هذه الأشكال المدنية الناتجة عنها لا تتعلق بالعقائد، ولا بالأحكام الشرعية التي تعالج مشاكل الإنسان في الحياة، وإنما هي من الأشياء المباحة التي يستخدمها الإنسان في شؤون حياته.
ودليل ذلك الايات العامة الواردة في إباحة الانتفاع بجميع الأشياء الموجودة في الكون للإنسان، ولما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إنما أنا بشر مثلكم، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وأذا أمرتكم بشيء من أمور دنياكم فإنما أنا بشر )).
ولما ورد في حديث تأبير النخل من قوله صلى الله عليه وسلم (( أنتم أدرى بشؤون دنياكم)) ولإرساله صلى الله عليه وسلم أشخاصا من الصحابة إلى جرش اليمن لتعلم صناعة السلاح.
ولهذا فإن كل مالم يكن من العقائد والأحكام جاز أخذه ما دام لم يخالف الإسلام، وما دام لم يأت دليل خاص به يحرمه.
وعلى ذلك فإنه يجوز أخذ جميع العلوم المتعلقة بالطب والهندسة والرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والزراعة والصناعة، والاتصالات وعلوم البحار والجغرافيا، وعلم الاقتصاد الذي يبحث في الانتاج وتحسينه وإيجاد وسائله وتحسينها - وهو علم عالمي لا يختص بأسلام أو راسمالية أو شيوعية - فكلها يجوز أخذها ما دامت لا تخالف الاسلام،
لهذا فإن نظرية دارون التي تقول: أن أصل الإنسان قرد لايجوز أخذها، لأنها تناقض قول الله سبحانه وتعالى:(( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) )) الرحمن.
وقوله ((وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) السجدة)).
وقوله: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ )) (20).الروم
وكما يجوز أخذ هذه العلوم فإنه يجوز أخذ ما ينتج عنها من صناعات وأدوات والات واشكال مدنية.
فيجوز أخذ المصانع بجميع أنواعها، وجميع صناعاتها، إلا مصانع التماثيل والخمر والصلبان لورود النص على تحريمها.
وسواء أكانت هذه الصناعات عسكرية أم غير عسكرية، وسواء أكانت صناعاتها صناعات ثقيلة كالدبابات والطائرات والصواريخ والاقمار الصناعية والقنابل الذرية والهيدروجينية والالكترونية والكيماوية، والجرارات والشاحنات والقطارات والبواخر، أم كانت صناعات خفيفة كالصناعات الاستهلاكية والأسلحة الخفيفة. وكصناعة الات المختبرات والآلات الطبية والزراعية والأثاث والطنافس والسلع الاستهلاكية.
فكلها جائز أخذها لأنها من الأشياء المباحة، التي جاءت الأدلة العامة على أباحتها، ويكون أخذها أخذا للحكم الشرعي، الذي هو المباح، وأتباعا لشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم
لأنها من المباحات، والمباح حكم شرعي من أحكام التكليف التي هي الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح.
4- أما الأفكار المتعلقة بالعقيدة والأحكام الشرعية، والأفكار المتعلقة بحضارة الإسلام، ووجهة نظره في الحياة، والأحكام التي تعالج مشاكل الإنسان فإنها جميعها يجب أن تكون وفق الشرع، ولايجوز أن تؤخذ إلا من الشريعة الإسلامية حصرا، أي مما جاء به الوحي من كتاب الله، وسنة رسوله، وما أرشد إليه من قياس وإجماع صحابة. ولا يجوز أن تؤخذ من غير ذلك ولا بحال من الأحوال.
يتبع بإذن الله