حب الطعام غريزة، وحرارة الجوع كما جاء في وصية الأعرابية لابنتها ملهبة، كلنا نحب الطعام ونشتهيه، ولا شيء يلفت الانتباه أو يضع الموضوع في خانة الاستثناء والشذوذ طالما الأمور في الحدود الاعتيادية، وفي حجمها الطبيعي، لكنها حين تخرج عن المألوف، ويتهامس الناس عندما يتواجد سين من الناس بين المدعوين على مائدة الطعام، فاعلم أن الرجل المقصود هو أشعب القوم بامتياز، وأكبرهم بطنة، ليس سمنة، أو كرشاً وإنما نهماً وشراهة في الأكل حتى قالت العرب، البطنة ليست من الفطنة!!... وكل غريزة هي كالأكل تظل عادية ما دامت طبيعية، لكن تصنيفها يدخل فئة الشذوذ والشاذين عندما تصبح المسألة فوق اللزوم، وتتجاوز الحدود المتعارف عليها، كلنا بشكل أو بآخر لدينا فوبيا طيران، وتخفق قلوبنا خوفاً وجزعاً عند كل مطب هوائي يهز الطائرة، لكن أنْ يقف أحد الركاب ويصيح بأعلى صوته، بسبب ذلك الخوف، وقد امتلأ قلبه رعباً !!، فهنا ثمة استثناء وشذوذ في المسألة، وحين يجلس المرء أمام التلفاز مندمجاً مع أحداث مسلسل أو يخرج الحماس حركاته عن السيطرة، وهو يشاهد حلقة مصارعة، ويبدو كبعض أبطال أفلام الكرتون، أيضاً الموضوع يظل عند الكثيرين عادياً جداً، أما عندما تصبح الشاشة زجاج سيارته، والريموت مقود السيارة، ويعلن أنه في حالة سفر لا يعرف له وجهة بين المحطات الأرضية والفضائية، وإنما يمزق أشلاء وقته على مقصلة الاستهتار والعبثية المفلسة، هنا لا بد أن في المسألة شذوذاً، والشذوذ على كل حال موجود في شتى الغرائز والهوايات والسلوكيات، لكن شذوذ العصر بعد المثليين وأمثالهم، هو هذا الشذوذ الالكتروني، الذي دخل ناديه الكبير والصغير، ولم يعد يقتصر فقط على رحلات المستكشفين بمحركاته للمواقع الإباحية وبائعات الهوى, والتعري بالألوان، والبحث عن زوجة !!، بل حتى الاستخدام الأمين والشريف للحاسب عندما يزيد عن حدوده في غير عمل مطلوب، أو مهمة يكلف بها الانسان، فإن التصنيف الأقرب لهذا الادمان على أجهزة الحاسوب المحمول منه وغير المحمول، يعد ايضاً نوعاً من أنواع الشذوذ، حتى لو لم يكن خلف الأبواب المغلقة!!!.... لقد قطَّعت هذه التقنية أواصر التواصل الحي بين الناس، رغم تسهيلها لتواصل الظل، فقبل أن تدخل الهواتف حياة الناس، كانوا يطمئنون على بعضهم ويتواصلون بالزيارات، وبعد الهاتف قلت الزيارات، وصار الاتصال يغني عن الزيارة، وبدخول تقنية الفيس بوك وتويتر وكان وأخواتها وإن وأخواتها، تباعدت حتى الاتصالات، أما الزيارات فقد اقتصرت فقط على المناسبات، حتى ساعات العمل، والدوام الرسمي، لم تسلم من الاختلاس والنَّهشِ منها، للتواصل مع الأصدقاء على الفيس بوك وغيره، أو البحث في جوجل، وإن مل أحدنا، جلس يلاعب نفسه الورق على الكمبيوتر الموجود على مكتبه لحساب العمل ولأجله...!!. كنا ننام ثلث يومنا، وثلثه للعمل، والثلث الآخر صار مجيراً لحساب الشذوذ الالكتروني، وكأن الأمر على ما يبدو لم يكن منصفاً !!، فصارت ساعات السهر في الشات، وعلوم الشباب والبنات تزحف على حصة النوم، ونذهب للعمل نتثاءب متأخرين، ومع ذلك نختلس من ساعات العمل، وقتاً مستقطعاً آخر للشذوذ الالكتروني غير مبالين!!... لقد صارت أرقام هواتفنا وملفاتنا ومعاملاتنا وصورنا وأخبارنا وأسرارنا كلها على تلك الأجهزة، وأصبحنا كالروبوت نشتغل بلمسة زر، ونتوقف بلمسة زر، ولم نعد نستخدم ذاكرتنا التي تبلدت في ظل خادم غير أمين ولا مأمون، صار ينوب عنا في حفظ كل شيء، حتى إن البعض منا لا يحفظ رقم هاتف أقرب الناس إليه، ولو انطفأ جواله، ربما لتعذر عليه أن يتصل على صديق أو قريب لأمر قد يكون في غاية الأهمية!! فهل بعد هذا الشذوذ الذي نعيشه شذوذ؟؟!!...