ابن تيمية شيخ الإسلام ومتكلم أهل الآثار .
________________________________________
قال تلميذه محمد بن أحمد بن عبدالهادي فيما جمع لترجمته بكتابه المعنون بـ " العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية " :
هو الشيخ الإمام الرباني ، إمام الأئمة ، ومفتي الأمة ، وبحر العلوم ، سيد الحفاظ وفارس المعاني والألفاظ ، فريد عصره ، وقريع الدهر ، شيخ الإسلام بركة الأنام وعلامة الزمان ، وترجمان القرآن ، علم الزهاد وأوحد العباد ، قامع المبتدعين ، وآخر المجتهدين ، تقي الدين أبو العباس :
أحمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين ، أبي المحاسن عبدالحليم ، ابن الشيخ الإمام العلامة ، شيخ الإسلام ، مجد الدين أبي البركات بن علي ابن عبدالله بن تيمية الحراني نزيل دمشق ، وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها .
ولد شيخنا بحران يوم الإثنين عاشر ــ وقيل ثاني عشر ــ شهر ربيع الأول ( 661هـ ) إحدى وستين وستمائة ، وسافر به والده وبإخوانه إلى الشام عن جَور التتار ، فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة ، لعدم الدواب ، فكاد العدو يلحقهم ، فوقفت العجلة فابتهلوا لله واستغاثوا به فنجوا وسلموا .
قدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين وستمائة ، فسمعوا من الشيخ زين الدين أحمد بن عبدالدائم بن نعمة المقدسي جزء بن عرفة كله ، ثم سمع شيخنا الكثير من ابن أبي اليسر والكمال بن عبد ، والمجد بن عساكر وأصحاب الخشوعي ، وجماعة .
وسمع مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات .
وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء ، ومن مسموعاته معجم الطبراني الكبير .
وعنى بالحديث وقرأ ونسخ ، وتعلم الخط والحساب في المكتب ، وحفظ القرآن وأقبل على الفقه وقرأ العربية على ابن عبدالقوي ثم فهمها وأخذ يتأمل كتاب سيبويه حتى فهم في النحو ، وأقبل على التفسير إقبالا كليا ، حتى حاز فيه قصب السبق ، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك .
هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة .
فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه ، وسيلان ذهنه ، وقوة حافظته ، وسرعة إدراكه .
وقال الذهبي رحمه الله :
نشأ رحمه الله في تصون تام وعفاف وتألُّه وتعبد ، واقتصاد في الملبس والمأكل وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره ، ويناظر ويفحم الكبار ، ويأتي بما يتحير منه اعيان البلد في العلم .
فأفتى وله تسع عشرة سنة ، بل أقل وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت ، وأكب على الإشتغال ، ومات والده وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم ، فدرس بعده بوظائفه ، وله إحدى وعشرون سنة ، واشتهر أمره ، وبعد صيته في العالم ، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز في الجمع على كرسي من حفظه ، فكان يورد المجلس ولا يتلعثم ، وكذا كان الدرس بتؤدة وصوت جَهُوري فصيح .
كان آية في الذكاء وسرعة الإدراك ، رأسا في عرفة الكتاب والسنة والإختلاف ، بحرا في النقليات ، هو في زمانه فريد عصره علما وزهدا وشجاعة وسخاء ، وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، وكثرة تصانيف . تقدم في علم التفسير والأصول وجميع علوم الإسلام : أصولها وفروعها ، ودقها وجلها ، سوى علم القراءات .
فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه ، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق ، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا ، وسرد وأبلسوا ، واستغنى وأفلسوا .
وإن سمي المتكلمون فهو فردهم ، وإليه مرجعهم .
وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلَّهم وتيّسهم ، وهتك استارهم وكشف عوارهم .
وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة ، وهو أعظم من أن يصفه كلمي ، أو ينبه على شأوه قلمي ، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ، ومحنه وتنقلاته ، تحتمل أن ترصع في مجلدتين ، وهو بشر من البشر ، له ذنوب ، فالله تعالى يغفر له ويسكنه أعلى جنته ، فإنه كان رباني الأمة ، وفريد الزمان ، وحامل لواء الشريعة ، وصاحب معضلات المسلمين ، وكان رأسا في العلم .
له خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل ، وبالصحيح والسقيم ، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به ، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ، ولا يقاربه .
وهو عجب في استحضاره ، واستخراج الحجج منه ، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند ، بحيث يصدق عليه أن يقال : " كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث " . ولكن الإحاطة لله ، غير أنه يغترف من بحر ، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي .
وله في استحضار الآيات من القرآن ــ وقت اقامة الدليل بها على المسألة ــ قوة عجيبة . ولفرط امامته في التفسير وعظمة اطلاعه يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين ، ويوهي أقوالا عديدة ، وينصر قولا واحدا موافقا لما دل عليه القرآن والحديث .
وله أيضا باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين ، وقل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة . وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة ، وصنف فيها ، واحتج لها بالكتاب والسنة .
وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين ، بل بما قام عليد الدليل عنده .
ولقد نصر السنة المحضة ، والطريقة السلفية ، واحتج لها ببراهين ومقدمات وامور لم يسبق إليها . وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون ، وهابوا ، وجسر هو عليها ، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشأم ، قيام لا مزيد عليه ، وبدَّعوه ، وناظروه ، وكابروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي ، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده ، وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والأقوال .
مع ما اشتهر عنه من الورع وكمال الفكرة وسرعة الإدراك والخوف من الله ، والتعظيم لحرمات الله . فجرى بينه وبينهم حملات حربية ، ووقائع شامية مصرية ، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله .
فإنه دائم الإبتهال ، كثير الإستغاثة قويُّ التوكل ثابت الجأش ، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجَعِيّة .
وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء ، ومن الجند والأمراء ، ومن التجار والكبراء ، وسائر العامة تحبه ، لأنه منتصب لنفعهم ليلا ونهارا بلسانه وقلمه .
وأما شجاعته فبها تضرب الامثال ، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال . فلقد اقامه الله في نوبة غازان ، والتقى أعباء الامر بنفسه ، وقام وقعد وطلع وخرج ، واجتمع بالملك مرتين ، وبقطلو شاه ، وببولاي ، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجراته على المغول .
وله حدة قوية تعتريه في البحث ، حتى كأنه ليث حرب .
وهو أكبر من ان ينبه مثلي على نعوته . فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت اني ما رأيت بعيني مثله . ولا والله ما رأي هو مثل نفسه في العلم .
قال ابن عبدالهادي :
ما فعله الشيخ رحمه الله في نوبة غازان من جميع أنواع الجهاد ، وسائر أنواع الخير : من إنفاق الأموال ، وإطعام الطعام ، ودفن الموتى ، وغير ذلك : معروف مشهور .
ثم بعد ذلك بعام ، سنة سبعمائة لما قدم التتار إلى أطراف البلاد ، وبقى الخلق في شدة عظيمة ، وغلب على ظنهم أن عسكر مصر قد تخلوا عن الشأم ، ركب الشيخ ، وسار على البريد إلى الجيش المصري في سبعة أيام .
ودخل القاهرة في اليوم الثامن : يوم الإثنين حادي عشر جمادي الأولى ، وأطلاب المصريين داخلة ، وقد دخل الملك الناصر . فاجتمع بأركان الدولة ، واستصرخ بهم وحضهم على الجهاد ، وتلا عليهم الآيات والأحاديث ، وأخبرهم بما اعد الله للمجاهدين من الثواب . فاستفاقوا وقويت هممهم ، وأبدوا له العذر في رجوعهم ، مما قاسوا من المطر والبرد منذ عشرين . ونودي بالغزاة ، وقوي العزم ، وعظموه ، واكرموه ، وتردد الأعيان إلى زيارته .
واجتمع في هذه السنة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ، وسمع كلامه ، وذكر انهم سألوه بعد انقضاء المجلس فقال : هو رجل حُفظة .
وقيل له : فهلا تكلمت معه ؟ ، فقال : هذا رجل يحب الكلام ، وأنا أحب السكوت .
ولقد أخبرني الذهبي عن الشيخ رحمه الله أنه أخبره أن ابن دقيق العيد قال له بعد سماع كلامه : ما كنت أظن ان الله بقى يخلق مثلك .
وفي اليوم السابع والعشرين من شهر جمادي المذكور وصل الشيخ إلى دمشق على البريد .
وقال بعض القدماء من أصحابه :
كنت إذا اجتمعت به في ختم أو مجلس ذكر خاص مع أحد المشائخ المذكورين ، وتذاكروا وتكلم مع حداثة سنه أجد لكلامه صولة في القلب ، وتأثيرا في النفوس ، وهيبة مقبولة ، ونفعا يظهر أثره وتنفعل له النفوس التي سمعته أياما كثيرة بعقبه ، حتى كان مقاله بلسان حاله ، وحاله ظاهر في مقاله . شهدت ذلك منه غير مرة .
قال ابن عبدالهادي :
ثم لم يبرح شيخنا رحمه الله في ازدياد من العلوم وملازمة الاشتغال والإشغال ، وبث العلم ونشره ، والاجتهاد في سبل الخير ، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل ، والزهد والورع ، والشجاعة والكرم والتواضع والحلم والإنابة والجلالة والمهابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسائر أنواع الجهاد ، مع الصدق والعفة والصيانة ، وحسن القصد والإخلاص ، والإبتهال إلى الله وكثرة الخوف منه ، وكثر المراقبة له وشدة التمسك بالأثر ، والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق ، ونفع الخلق والإحسان إليهم والصبر على من آذاه ، والصفح عنه والدعاء له ، وسائر أنواع الخير .
وكان رحمه الله سيفاً مسلولا على المخالفين ، وشجى في حلوق الأهواء المبتدعين ، وإماما قائما ببيان الحق ونصرة الدين ، وكان بحرا لا تكدره الدلاء وحبرا يقتدي به الأخيار الألباء ، طَنَّـت بذكره الأمصار ، وضَنَّـت بمثله الأعصار .
قال الحافظ جمال الدين أبو الحجاج المِـزِّي :
ما رأيت مثله ، ولا رأى هو مثل نفسه ، وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ، ولا أتبع لهما منه .
وقال العلامة الزملكاني :
كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحدا لا يعرفه مثله . وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه ، ولا تكلم في علم من العلوم ، سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه اهله والمنسوبين إليه . وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين .