خُطَبّتى الجمعة من المسجد الحرام
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور / عبد الرحمن السديس - حفظه الله
خطبتي الجمعة من المسجد الحرام بمكة المكرمة بعنوان :
والتي تحدَّث فيها عن البيئة ووجوب الحفاظ عليها والاعتناء بها،
مُبيِّنًا بالأدلة ما يجبُ على كل مسلم تجاهَها،
كما حثَّ على تربية النشء والأجيال على رعايتها وحُسن الاعتناء بها .
إن الحمد لله نحمدُك ربَّنا ونستعينُك ونستغفرُك ونتوبُ إليك،
ونُثنِي عليك الخير كلَّه .
فـحـمـدًا ثـم حـمـدًا ثــم حـمــدًا
لـربِّ الـعـالـمـيـن بـلا تـوانِــي
وإنـا نـسـتـزيـدُ الـحـمــدَ مـنــه
عـلـى مـرِّ الـلـيـالـي والـزمـانِ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خصَّنا بشريعةٍ بلجاء كالشمس في ضُحاها،
أفعمَت العالمين بسُمُوِّها وسناها،
وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أنقذَ الله به البريَّة وقد غرِقَت في أساها،
وجلَّى معالِم رُقيِّ الحضارة وأقام صُواها،
اللهم فيا ربِّ صلِّ وبارِك عليه وعلى آله صفوةِ الخليقة سيرةً وأزكاها،
وصحبِه الكرامِ البرَرة، البالغين من ذُرى الأمجاد عُلاها،
والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا طيبًا مُباركًا لا يتناهَى.
خيرُ ما يُوصَى به بُكرًا وآصالاً، خضوعًا وامتثالاً:
تقوى الله - تبارك وتعالى -، فمن تمسَّك بالتقوى أفلحَ ونجا، وجزاه الباري ما أمَّل ورجَا،
{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }
وخـيـرُ الـزاد تـقـوى الله فـاعـلَـم
وشـمِّـل واعـدُ عــن قــالٍ وقـيــلِ
فـتـقـواه غِـنَـى الـدَّارَيـن فـالــزَم
فـــذاك الــعِــزُّ لـلـعــبــدِ الـذَّلــيــلِ
حينما نستروِحُ شوامِخَ شريعتنا الإسلامية، وقِيَمنا الإنسانية،
ومضامينها الحضارية، وجوانبها السنيَّة، تبرُزُ قضيَّةٌ عالمية، عريقةٌ تأريخية،
سبقَت إليها شريعتُنا الغرَّاءُ الأُممَ السوالِف، والمُجتمعات الخوالِف،
ودعَت إلى الاهتمامِ بها وترجيحِها، وتقديمِها على ما سِواها وترشيحِها؛
لما بانَ من جليلِ آثارها، ومحضِ روائِعِها وصريحِها.
تلكم - يا رعاكم الله - هي: قضيةُ الحِفاظ على البيئة ورِعايتِها،
وصَون مكوِّنات الحياة ومُسخَّرات الكون وحمايتها، فكم نقعَت غليلاً،
وأفادَت عليلاً، وشرحَت صدورًا، وبعَثَت حُبورًا.
إن الحِفاظَ على البيئة أحدُ شُعب الإيمان، ودلائل البرِّ والإحسان؛
بل هو أمرُ الملك الديَّان، وحسبُنا ما تحفَلُ به شريعتُنا من حُجَّةٍ وبُرهان:
{ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ }
{ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا }
يقول الإمام القُرطبيُّ - رحمه الله -:
[ نهَى عن كل فسادٍ قلَّ أو كثُر بعد صلاحٍ قلَّ أو كثُر ]
وصحَّ عن سيِّد ولدِ عدنان - عليه الصلاة والسلام - قولُه:
( الإيمانُ بِضعٌ وسبعون شُعبة،
أفضلُها: قولُ لا إله إلا الله، وأدناها: إماطةُ الأذى عن الطريق )
والأذى يشملُ الحِسِّيَّ والمعنويَّ.
الله أكبر! فكيف بدرء الأذى عن مناحِي الحياة كلِّها ؟
لتسلمَ جميلةً بهيَّة، نقيَّةً صحيَّة، لا غرْوَ أن الأمرَ أعظمُ وأجلُّ، لمن دانَ وامتثَل.
وكيف لا نستبِقُ حمايةَ البيئة، وقد أفاءَ الله على عباده بآلاء الطبيعة الخلاَّبة،
والبيئة الجذَّابة؟ يقول - سبحانه -:
{ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }
ففي هذه الآية الكريمة - ونحوها كثير - الدعوة المُؤكَّدة لحماية البيئة؛
إنسانًا، وحيوانًا، وطيرًا، وبناءً، برًّا وبحرًا وجوًّا، فضاءً وسماءً، شجرًا ونباتًا،
زرعًا وماءً، حفظًا لجمالها ونظافتها، وقوَّتها ونضارتها، وسلامتها ونقاوتها.
إن لله فــــــي الــخـــلائـــقِ ســــــرًّا
مـن سـنَـا بـرقِــه تـحــارُ الـعـقــولُ
لا تـــــرى ذرَّةً مـــــن الـــكـــونِ إلا
ولـهـا فـي الـكــونِ شــرحٌ يـطــولُ
تـلـك يـا أخـي حـكـمـةٌ مـن حـكـيـمٍ
لـبـهــاءِ الـحــيــاةِ أصـــلٌ أصــيــلُ
البيئةُ التي طُرِّزَت ببدائعِ الموجودات وأحاسِن المخلوقات لهي من نعم البارِي الباهِرة،
ومِنَنه علينا الغامِرة، فمنها تُجنَى المنافعُ الكثيرة، والارتِفاقاتُ الكبيرة؛
كالتفكُّه من البيئة بثِمارِها، وابتِهاج النفوس بأزهارها، وتمتُّع الأبصار باختِضارها،
والاستِظلال بوارِف ظِلالها، والارتِفاق بخشَبها، واستِنشاق الهواء النقيِّ بسببها.
وتُثيرُ الأشواقَ والإعجاب، وتُزيحُ الونَى والأوصاب، وتخلعُ على النفوس رونقَ البهاء،
وعلى القِيَم الأثيلة روعةَ الطُّهر والسناء.
بل تبعَثُ على تمجيد الخالقِ الوهاب، لذلك رغَّب المُصطفى - عليه الصلاة والسلام
يقول - صلى الله عليه وسلم -:
( بينما رجلٌ يمشِي بطريقٍ وجد غُصنَ شوكٍ فأخَّرَه، فشكرَ الله له فغفرَ له )
وحذَّر - صلى الله عليه وسلم - من تلويثِ البيئة وتدنيسِها،
بقوله - عليه الصلاة والسلام -:
( اتقوا الملاعِن الثلاثة: البراز في الموارِد، وقارعة الطريق والظلِّ )
أخرجه أبو داود وابن ماجه.
وهذا - لعَمرُ الحقِّ - توجيهٌ صحيٌّ وقائيٌّ دقيق، ومنهجٌ نبويٌّ تجاهَ البيئة شفيق،
لم يُسبَق في المناهِج العالمية الغابِرة، ولا دُغُمها الحاضِرة.