العودة   منتديات الـــود > +:::::[ الأقسام العامة ]:::::+ > ۞ مكتبة الــوٍد الإسلامية ۞
إضافة رد
   
 
أدوات الموضوع التقييم: تقييم الموضوع: 2 تصويتات, المعدل 5.00. انواع عرض الموضوع
قديم 01-05-2014, 03:59 AM   رقم المشاركة : 51
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور


اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رقم الآية ‏(‏228‏)‏
‏{‏ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ‏}‏
هذا أمر من اللّه سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أي بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت فإنها تعتد عندهم بقرأين لأنها على النصف من الحرة، والقرء لا يتبعض فكمل لها قرآن لحديث‏:‏ ‏(‏طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان‏)
‏"‏رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن ابن عمر مرفوعاً والصحيح أنه موقوف من قول ابن عمر‏"‏
وقال بعض السلف‏:‏ بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية ولأن هذا أمر جلي فكان الحرائر والإماء في هذا سواء حكي هذا القول عن بعض أهل الظاهر‏.‏
وروي عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت‏:‏ طلقت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل اللّه عزّ وجلّ حين طلِّقت أسماءُ العدة للطلاق فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق يعني‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏"‏قال ابن كثير‏:‏ هذا حديث غريب من هذا الوجه‏"‏وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء ما هو على قولين، أحدهما‏:‏ أن المراد بها الأطهار وقال مالك في الموطأ عن عروة عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت‏:‏ صدق عروة، وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا‏:‏ إن اللّه تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏ثلاثة قروء‏}‏، فقالت عائشة‏:‏ صدقتم وتدرون ما الأقراء‏؟‏ إنما الأقراء الأطهار‏.‏ وعن عبد اللّه بن عمر أنه كان يقول‏:‏ إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها، وهو مذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد، واستدلوا عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}
أي في الأطهار، ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسباً، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها، ولهذا قال هؤلاء‏:‏ إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة، واستشهد أبو عبيدة وغيره على ذلك بقول الأعشى‏:‏
مورثة مالاً وفي الأصل رفعة * لما ضاع فيها من قروء نسائكا
يمدح أميراً من أُمراء العرب آثر الغزو على المقام حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن المراد بالأقراء الحيض فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة، زاد آخرون وتغتسل منها، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل، وحكى عن الأثرم أنه قال‏:‏ الأكابر من أصحاب رسول الّه صلى اللّه عليه وسلم يقولون الأقراء‏:‏ الحيض، وهو مذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث
عن فاطمة بنت أبي حبيش أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏دعي الصلاة أيام أقرائك‏)
، فهذا لو صح لكان صريحاً في أن القرء هو الحيض‏.‏
وقال ابن جرير‏:‏ أصل القرء في كلام العرب الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم، وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركاً بين هذا وهذا، وقد ذهب إليه بعض الأصوليين واللّه أعلم، وهذا قول الأصمعي‏:‏ إن القرء هو الوقت، وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ العرب تسمي الحيض قرءاً، وتسمي الطهر قرءاً وتسمي الطهر والحيض جميعا قرءاً وقال ابن عبد البر‏:‏ لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء أن القرء يراد به الحيض، ويراد به الطهر، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن‏}‏ أي من حبل أو حيض، قاله ابن عباس وابن عمر ومجاهد، وقوله‏:‏ ‏{‏إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ تهديد لهن على خلاف الحق، ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن، ويتعذر إقامة البينة غالباً على ذلك فرد الأمر إليهن، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق، إما استعجالاً منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد، فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا‏}‏ أي زوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها، إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير، وهذا في الرجعيات، فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن، وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلاق الثلاث، فأما حال نزول هذه الآية، فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات، صار للناس مطلقة بائن وغير بائن‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف‏}‏ أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما
ثبت عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع‏:‏ ‏(‏فاتقوا اللّه في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏)‏‏"‏رواه مسلم عن جابر مرفوعاً‏"‏وفي حديث عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال‏:‏ يا رسول اللّه ما حق زوجة أحدنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح ولا تهجر إلا في البيت‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن اللّه يقول‏:‏ ‏{‏ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف‏}‏"‏رواه ابن أبي حاتم وابن جرير‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏وللرجال عليهن درجة‏}‏ أي في الفضيلة في الخَلق والخُلق، والمنزلة وطاعة الأمر، والإنفاق والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة كما قال تعالى‏:{‏الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم‏}
‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله عزيز حكيم‏}‏ أي عزيز في انتقامه ممن

عصاه وخالف أمره، حكيم في أمره وشرعه وقدره‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رقم الآية ‏(‏229 ‏:‏ 230‏)‏
{‏ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ‏.‏ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ‏}‏
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة مادامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم اللّه إلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ قال أبو داود عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن‏}‏ الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً، فنسخ ذلك فقال‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ الآية‏.‏
وعن هشام بن عروة عن أبيه أن رجلاً قال لامرأته‏:‏ لا أطلقك أبداً ولا آويك أبداً، قالت‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك، فأتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان‏}
‏"‏رواه النسائي‏"‏‏.‏
وعن عائشة قالت‏:‏ لم يكن للطلاق وقت، يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس قال‏:‏ ‏(‏والله لأتركنك لا أيِّماً ولا ذات زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مراراً فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ فوقَّت الطلاق ثلاثاً لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره ‏"‏رواه ابن مردويه والحاكم‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك، وتطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقها شيئاً ولا تُضارَّ بها‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق اللّه في ذلك، أي في الثالثة فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرها بإحسان فلا يظلمها من حقها
شيئاً،
وعن أنَس ابن مالك قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ ذكر اللّه الطلاق مرتين فأين الثالثة‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}
‏"‏رواه ابن مردويه وأحمد وعبد بن حميد‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا‏}‏ أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه كما قال تعالى‏:‏
{‏ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏ فأما إن وهبته المرأة شيئاً عن طيب نفسٍ منها فقد قال تعالى {‏فإن طلبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً‏} وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج عليه في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك مها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهم شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألا يقيما حدود اللّه فال جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ الآية، فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الإفتداء منه فقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أيما امرأة سالت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة‏"‏وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏المختلعات هن المنافقات‏)‏ ‏"‏رواه الترمذي وقال‏:‏ غريب من هذا الوجه‏"‏‏"‏حديث آخر‏"‏وقال الإمام أحمد‏:‏ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏المختلعات والمنتزعات هن المنافقات‏)‏وعن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تسأل امرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً‏) ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموه شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله‏}‏، قالوا‏:‏ فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل، والأصل عدمه، وممن ذهب إلى هذا ابن عباس وعطاء والحسن والجمهور حتى قال مالك والأوزاعي‏:‏ لو أخذ منها شيئاً وهو مضار لها وجب رده إليها وكان الطلاق رجعياً، قال مالك‏:‏ وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه، وذهب الشافعي رحمه اللّه إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق وعند الإتفاق بطريق الأولى والأحرى، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة، وقد ذكر ابن جرير رحمه اللّه أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بان قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبد اللّه بن أبي بن سلول ‏.‏
قال البخاري‏:‏ عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أتردين عليه حديقته‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أقبل الحديقة وطلقها تطليقة‏)‏، وهكذا رواه البخاري أيضاً من طرقه عن عكرمة عن ابن عباس وفي بعضها أنها قالت‏:‏ لا أطيقه يعني بغضاً‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت‏:‏ واللّه ما أعتب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضاً، فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏تردِّين عليه حديقته‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم، فأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يأخذ ما ساق ولا يزداد‏.‏وقال ابن جرير‏:‏
عن عبد اللّه بن رباح عن جميلة بنت عبد اللّه بن أبي ابن سلول أنها كانت تحت ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏يا جميلة ما كرهت من ثابت‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ اللّه ما كرهت منه ديناً ولا خلقاً إلا أني كرهت دمامته، فقال لها‏:‏ ‏(‏أتردين عليه الحديقة‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم، فردت الحديقة وفرق بينهما‏.‏
وأول خلع كان في الإسلام في أخت عبد اللّه بن أُبي أنها أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداُ، إني رفعت جانت الخباء فرايته قد أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاُ، فقال زوجها‏:‏ يارسول اللّه، إني قد أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليَّ حديقتي، قال‏:‏ ‏(‏ماذا تقولين‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم وإن شاء زدته، قال‏:‏ ففرق بينهما‏.‏
وقد اختلف الأئمة رحمهم اللّه في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها‏؟‏ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى‏:
‏ ‏{‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}
وعن كثير مولى ابن سمرة أن عمر أتي بأمرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل، ثم دعا بها فقال‏:‏ كيف وجدت‏؟‏ فقالت‏:‏ ما وجدت راحةً منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني، فقال لزوجها‏:‏ اخلعها ولو من قرطها‏"‏رواه عبد الرزاق وابن جرير‏"‏وقال البخاري‏:‏ وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها لحديث الربيع بنت معوذ قالت‏:‏ كان لي زوج يُقلُّ عليَّ الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عني، قالت‏:‏ فكانت مني زلة يوما فقلت‏:‏ أختلع منك بكل شيء أملكه، قال‏:‏ نعم، قالت‏:‏ ففعلت فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه، أو قالت‏:‏ ما دون عقاص الرأس ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها، وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد وهذا مذهب مالك والشافعي واختاره ابن جرير‏.‏
وقال أصحاب أبي حنيفة‏:‏ إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها، ولا يجوز الزيادة عليه، فإن ازداد جاز في القضاء، وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئاً فإن أخذ جاز في القضاء، وقال الإمام أحمد‏:‏ لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء، وقال معمر‏:‏ كان علي يقول‏:‏ لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها‏.‏ قلت‏:‏ ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية ابن عباس في قصة ثابت بن قيس فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد، وبما روي
عن عطاء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة
، وحملوا معنى الآية على معنى ‏{‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ أي من الذي أعطاها لتقدم قوله‏:‏ ‏{‏ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً‏}‏ ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون‏}‏

فصل
قال الشافعي‏:‏ اختلف أصحابنا في الخلع، فعن عكرمة قال‏:‏ كل شيء أجازه المال فليس بطلاق، وروي عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال‏:‏ رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها‏؟‏ قال‏:‏ نعم ليس الخلع بطلاق، ذكر اللّه الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك فليس الخلع بشيء، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}، وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رواية عن عثمان وابن عمر وبه يقول أحمد وهو مذهب الشافعي في القديم، وهو ظاهر الآية الكريمة، والقول الثاني في الخلع إنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد، غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخلع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة، وإن نوى ثلاثاً فثلاث، وللشافعي قول آخر في الخلع وهو أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق وعري عن البينة فليس بشيء بالكلية‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 01-05-2014, 04:20 AM   رقم المشاركة : 52
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

مسألة
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، لأنه قد ملكت نفسها‏.‏ بما بذلت له من العطاء، وقال سفيان الثوري‏:‏ إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها‏؟‏ وإن كان يسمى طلاقاً فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة وبه يقول داود الظاهري، واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة، وحكى ابن عبد البر عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره، وهو قول شاذ مردود‏.‏


مسألة
وهل له أن يوقع عليها طلاقاً آخر في العدة‏؟‏ فيه ثلاثة أقول للعلماء‏.‏ أحدها‏:‏ ليس له ذلك لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه، وبه يقول الشافعي وأحمد بن حنبل‏.‏ والثاني‏:‏ قال مالك‏:‏ إن أتبع الخلع طلاقاً من غير سكوت بينهما وقع، وإن سكت بينهما لم يقع قال ابن عبد البر‏:‏ وهذا يشبه ما روي عن عثمان رضي اللّه عنه‏.‏ والثالث أنه يقع عليها الطلاق بكل حال مادامت في العدة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي‏.‏
وقوله تعالى‏:
{‏تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعد حدود اللّه فأولئك هم الظالمون‏}‏ أي هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده فلا تتجاوزوها كما ثبت في الحديث الصحيح‏:‏‏(‏إن اللّه حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان‏؟‏‏؟‏ فلا تسألو عنها‏)‏، وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة لقوله‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏تلك حدود الله فلا تعتدوها‏}‏ الآية‏.‏ أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان ثم قال‏:‏ ‏(‏أيلعب بكتاب اللّه وأنا بين أظهركم‏(‏ حتى قام رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه ألا أقتله‏؟‏
"‏رواه النسائي، قال ابن كثير‏:‏ وفيه انقطاع‏"‏
‏{‏ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏
وقوله تعالى‏:
{‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏ أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، أي حتى يطأها زوج آخر، في نكاح صحيح، فلو وطئها واطىء في غير نكاح ولو في ملك اليمين لم تحل للأول، لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول، لحديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع إلى الأول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها‏)‏عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثاً، فتزوجت بعده رجلاً فطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا، حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته‏.‏ قال مسلم في صحيحه عن عائشه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها فتتزوج رجلا آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول قال‏:‏‏(‏لا حتى يذوق عسيلتها‏)‏‏.‏ وعن عائشة أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها، فأتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، فقال‏:‏ ‏(‏لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك‏) ‏"‏تفرد به البخاري من هذا الوجه‏"‏وقال الإمام أحمد عن عائشة قالت‏:‏ دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت‏:‏ إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها - وخالد ابن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له - فقال‏:‏ يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول باللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏؟‏ فما زاد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم عن التبسم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك‏)‏‏
.‏
فصل والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحاً، فلو وطئها وهي مُحْرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء، أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف، لم تحل للأول بهذا الوطء، وكذا لو كان الزوج الثاني ذمياً لم تحل للمسلم بنكاحه، لأن أنكحة الكفار باطلة عنده، فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول، فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة‏.‏ ذكر


الأحاديث الواردة في ذلك
الحديث الأول‏:‏ عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلَّل والمحلَّل له، وآكل الربا وموكله"‏تفرد به البخاري من هذا الوجه‏"‏

الحديث الثاني‏:‏ عن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والواشمة والمستوشمة للحسن ومانع الصدقة والمحلل والمحلل له، وكان ينهى عن النوح ‏"‏رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة‏"‏
الحديث الثالث عن جابر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لعن اللّه المحلل والمحلل له‏)"‏رواه الترمذي‏"‏

الحديث الرابع‏:‏ عن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ألا أخبركم بالتيس المستعار‏)‏، قالوا‏:‏ بلى يا رسول اللّه، قال‏:‏‏(‏هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له‏)‏ ‏"‏تفرد به ابن ماجة‏"‏‏.‏
الحديث الخامس عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن نكاح المحلل قال‏:‏ ‏(‏لا، إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب اللّه، ثم يذوق عسيلتها‏)‏‏"‏رواه الجوزجاني السعدي‏"‏
الحديث السادس‏:‏ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المحلل والمحلل له ‏"‏رواه أحمد‏"‏

الحديث السابع‏:‏ عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول‏؟‏ فقال‏:‏ لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم"‏رواه الحاكم في المستدرك‏"‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن طلقها‏}‏ أي الزوج الثاني بعد الدخول بها ‏{‏فلا جناح عليهما أن يتراجعا‏}‏ أي المرأة والزوج الأول ‏{‏إن ظنا أن يقيما حدود الله‏}‏ أي يتعاشرا بالمعروف، قال مجاهد‏:‏ إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة ‏{‏وتلك حدود الله‏}‏ أي شرائعه وأحكامه ‏{‏يبينها‏}‏ أي يوضحها ‏{‏لقوم يعلمون‏}‏‏.‏
وقد اختلف الأئمة رحمهم اللّه فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها ثم تزوجها الأول هل تعود إليه بما بقي من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول طائفة من الصحابة رضي اللّه عنهم، أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم اللّه، حجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلا يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى، واللّه أعلم

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
رقم الآية ‏(‏231‏)‏
‏{‏ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ‏}‏
هذا أمر من اللّه عزّ وجلّ للرجال‏:‏ إذا طلق أحدهم المرأة طلاقاً له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها أي يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها أي يتركها حتى تنقضي عدتها ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضراراً لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها فتعتد فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة، فنهاهم اللّه عن ذلك وتوعدهم عليه فقال‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه‏}‏ أي بمخالفته أمر اللّه تعالى‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا آيات اللّه هزواً‏}‏ قال مسروق‏:‏ هو الذي يطلق في غير كنهه ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها لتطول عليها العدة، وقال الحسن وقتادة‏:‏ هو الرجل يطلق ويقول‏:‏ كنت لاعباً، أو يعتق أو ينكح ويقول‏:‏ كنت لاعباً، فأنزل اللّه‏:‏ ‏
{‏ولا تتخذوا آيات اللّه هزوا‏}‏، وعن ابن عباس قال‏:‏ طلق رجل امرأته وهو يلعب ولا يريد الطلاق، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا آيات اللّه هزوا‏}‏ فألزمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطلاق‏.‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد‏:‏ النكاح، والطلاق، والرجعة‏)
‏"‏رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم‏}‏ أي في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم ‏{‏وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة‏}‏ أي السنّة ‏{‏يعظكم به‏}‏ أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي فيما تأتون وفيما تذرون ‏{‏واعلموا أن الله بكل شيء عليمْ‏}‏ أي فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية وسيجازيكم على ذلك‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رقم الآية ‏(‏232‏)‏
‏{‏ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون ‏}‏
قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدوا له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى اللّه أن يمنعوها، والذي قاله ظاهر من الآية، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها، وأنه لا بد في النكاح من ولي، وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع، وقد قررنا ذلك في كتاب الأحكام وللّه الحمد والمنة‏.‏
وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني‏}‏ وأُخته‏.‏
روى الترمذي عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب، فقال له‏:‏ يا لكع ابن لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، واللّه لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك، قال فعلم اللّه حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏، فلما سمعها معقل قال‏:‏ سمع لربي وطاعة ثم دعاه فقال‏:‏ أزوجك وأكرمك
‏"‏رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة واللفظ للترمذي‏"‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر‏}‏ أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له ‏{‏من كان منكم‏}‏ أيها الناس ‏{‏يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ أي يؤمن بشرع اللّه ويخاف وعيد اللّه وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء ‏{‏ذلكم أزكى لكم وأطهر‏}‏ أي اتبعاكم شرع اللّه في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحَمِيَّة في ذلك ‏{‏أزكى لكم وأطهر‏}‏ لقلوبكم ‏{‏واللّه يعلم‏}‏ أي من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه ‏{‏وأنت لا تعلمون‏}‏ أي الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون‏.‏







التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 01-05-2014, 04:40 AM   رقم المشاركة : 53
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏234‏)
{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير
‏}‏
هذا أمر من اللّه للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال، وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها، فترددوا إليه مراراً في ذلك، فقال‏:‏ أقول فيها برأيي، فإن يك صواباً فمن اللّه، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، واللّه ورسوله بريئان منه‏:‏ لها الصداق كاملاً - وفي لفظ لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط - وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبد اللّه بذلك فرحاً شديداً
‏"‏أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي‏"‏‏.‏
ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل، فإن عدتها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله‏:
{‏وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهن‏}‏، وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين‏:‏ من الوضع، أو اربعة أشهر وعشر، للجمع بين الآيتين، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي، لولا ما ثبتت به السنّة في حديث سبيعة الأسلمية المخرج في الصحيحين من غير وجه، أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها‏:‏ مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح‏؟‏ واللّه ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة‏:‏ فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بإني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي‏.‏ قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة، يعني لما احتج عليه به، قال‏:‏ ويصحح ذلك عنه أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة، وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة على قول الجمهور، لأنها لما كانت على النصف من الحرة فكذلك في العدة، ومن العلماء من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الآية، ولأن العدة من باب الأمور الجِبِليَّة، التي تستوي فيه الخليقة‏.‏ وقد ذكر أن الحكمة في جعل عدة الوفاء أربعة أشهر وعشراً، احتمال اشتمال الرحم على حمل، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجوداً كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين‏:‏ ‏(‏إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح‏)
فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والإحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه، واللّه أعلم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف‏}‏ يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها مدة عدتها، لما
ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يحل لإمرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلى على زوج أربعة أشهر وعشراً‏)‏، وفي الصحيحين أيضاً عن أم سلمة أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول اللّه إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ كل ذلك يقول - لا - مرتين أو ثلاثاً، ثم قال‏:‏ ‏(‏إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة‏)‏ قالت زينب بنت أم سلمة‏:‏ كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً ولا شيئاً، حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تؤتي بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشي إلا مات أي من نتنها والإفتضاض مسح الفرج به ومن ههنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها وهي قوله‏: ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج‏}‏ الآية كما قاله ابن عباس وغيره، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره، والغرض من الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً، ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان‏:‏ ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، سواء في ذلك الصغيرة، والآيسة، والحرة والأمة والمسلمة، والكافرة لعموم الآية، وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا حداد على الكافرة، وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك، وحجة قائل هذه المقالة قوله صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلى على زوج أربعة أشهر وعشراً‏)
‏، قالوا‏:‏ فجعله تعبداً، وألحق أبو حنيفة وأصحابه الصغيرة بها لعدم التكليف، وألحق أبو حنيفة الأمة المسلمة لنقصها، ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع واللّه الموفق للصواب‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا بلغن أجلهن‏}‏ أي انقضت عدتهن ‏{‏فال جناح عليكم‏}‏، قال الزهري‏:‏ أي على أوليائها ‏{‏فيما فعلن‏}‏ يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن قال ابن عباس‏:‏ إذا طُلقت المرأة أو مات عنها زوجها فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف‏.‏ وقد روي عن مقاتل، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ النكاح الحلال الطيب، وهو قول الحسن والزهري، واللّه أعلم‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏235‏)
{‏ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم ‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم‏}‏ أن تعرّضوا بخطبة النساء في عدتهن، من وفاة أزواجهن من غير تصريح، قال ابن عباس‏:‏ التعريض أن يقول إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها - يُعرِّض لها بالقول بالمعروف - وفي رواية وودت أن اللّه رزقني امرأة‏.‏ وعن مجاهد عن ابن عباس هو أن يقول‏:‏ إني أريد التزويج وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة ‏"‏رواه البخاري تعليقاً‏"‏من غير تصريح لها بالخطبة، وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لفاطمة بنت قيس، حين طلقها زوجها أو عمرو بن حفص، آخر ثلاث تطليقات، فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال لها‏:‏ فإذا حللت فآذنيني، فلما حلت خطب عليها أسامة بن زيد مولاه فزوجها إياه، فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها، واللّه أعلم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو أكننتم في أنفسكم‏}‏ أي أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن، وهذا كقوله تعالى‏:
{‏وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون‏}وكقوله‏:‏{‏وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم‏}
‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏علم اللّه أنكم ستذكرونهن‏}‏ أي في أنفسكم فرفع الحرج عنكم في ذلك، ثم قال‏:‏ ‏{‏ولكن لا تواعدوهنّ سرا‏}‏ واختاره ابن جرير، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ولكن لا تواعدوهن سراً‏}‏ لا تقل لها‏:‏ إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، ونحو هذا‏.‏ وكذا روي عن سعيد بن جبير والضحاك، وعن مجاهد هو قول الرجل للمرأة‏:‏ لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك، فنهى اللّه عن ذلك وشدَّد فيه وأحل الخطبة والقول بالمعروف، وقال ابن زيد‏:‏ ‏{‏ولكن لا تواعدوهنّ سراً‏}‏ هو أن يتزوجها في العدة سراً فإذا حلت أظهر ذلك، وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إلا أن تقولوا قولاً معروفاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني به ما تقدم من إباحة التعريض كقوله‏:‏ إني فيك لراغب ونحو ذلك‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله‏}‏ يعني ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏حتى يبلغ الكتاب أجله‏}‏ يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة، وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة، واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها فإنه يفرق بينهما وهل تحرم عليه أبداً‏؟‏ على قولين‏:‏ الجمهور على أنها لا تحرم عليه بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها، وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد، ومأخذ هذا أن الزوج لما استعجل ما أحل اللّه، عوقب بنقيض قصده فحرمت عليه على التأبيد كالقاتل يحرم الميراث‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أن اللّه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه‏}‏ توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يُؤَيِّسْهم من رحمته ولم يقنطهم من عائدته فقال‏:‏ ‏
{‏واعلموا أن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏236‏)‏
‏{‏لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ‏}‏
أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها، قال ابن عباس‏:‏ المس النكاح، ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها والفرض لها إن كانت مفوضة، وإن كان في هذا انكسار لقلبها، ولهذا أمر تعالى بإمتاعها وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها، بحسب حاله على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، وقال ابن عباس‏:‏ متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة، وقال الشعبي‏:‏ أوسط ذلك درع وخمار وملحفة وجلباب، ومتَّع الحسن بن علي بعشرة آلاف، ويروى أن المرأة قالت‏:‏ متاع قليل من حبيب مفارق سبب فراقه لها أنه لما أصيب عليُّ وبويع الحسن بالخلافة قالت له زوجته‏:‏ لتَهْنَك الخلافة، فقال‏:‏ يقتل عليّ وتظهرين الشماتة‏؟‏ اذهبي فأنتِ طالق ثلاثاً، ثم بعث إليها بالمتعة عشرة آلاف درهم فقالت ذلك‏.[1]‏ وانظر الجزء الأول من كتابنا ‏"‏تفسير آيات الأحكام‏"‏ص 376‏"‏، وذهب أبو حنيفة إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها، وقال الشافعي‏:‏ لا يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة، وأحب ذلك إليّ أن يكون أقله ما تجزىء فيه الصلاة، وقال في القديم‏:‏ لا أعرف في المتعة قدراً إلا أني أستحسن ثلاثين درهماً كما روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما، وقد اختلف العلماء أيضا‏:‏
هل تجب المتعة لكل مطلقة، أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي
لم يفرض لها على أقوال‏:‏
أحدها‏:‏ أنها تجب المتعة لكل مطلقة لعموم قوله تعالى‏:
‏ ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين‏} ولقوله تعالى‏:‏ {‏فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا‏}
وقد كن مفروضاً لهن ومدخولاً بهن، وهذا قول سعيد ابن جبير وهو أحد قولي الشافعي‏.‏
والقول الثاني‏:‏ أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضاً لها لقوله تعالى‏:‏
{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا‏}
قال سعيد بن المسيب‏:‏ نسخت الآية التي في الأحزاب، الآية التي في البقرة، وقد
روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد وأبي أسيد أنهما قالا‏:‏ تزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أُميمة بنت شرحبيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين
القول الثالث‏:‏ أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة، وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقر الجميع وكان ذلك عوضاً لها عن المتعة، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها وهذا قول ابن عمر ومجاهد، ومن العلماء من استحبها لكل مطلقة، ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول وهذا ليس بمنكور وعليه تحمل آية التخيير في الأحزاب، ولهذا قال تعالى‏:
‏{‏على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقاً على المحسنين‏}
‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين‏}‏ ومن العلماء من يقول إنها مستحبة مطلقاً‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 01-05-2014, 04:53 AM   رقم المشاركة : 54
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏237‏)‏
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير ‏}‏
هذه الآية الكريمة تدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى، حيث أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض إذا طلق الزوج قبل الدخول، فإنه لو كان ثَمَّ واجب آخر من متعة لبيّنها، لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الآية، وتشطير الصداق - والحالة هذه - أمر مجمع عليه بين العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك فإنه متى كان قد سمى لها صداقاً ثم فارقها قبل دخوله بها، فإنه يجب لها نصف ما سمي من الصداق، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج وإن لم يدخل بها، وهو مذهب الشافعي في القديم وبه حكم الخلفاء الراشدون، لكن قال ابن عباس‏:‏ في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها، ليس لها إلا نصف الصداق، لأن اللّه يقول‏:‏ ‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم‏}‏ قال الشافعي‏:‏ بهذا أقول وهو ظاهر الكتاب‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يعفون‏}‏ أي النساء عما وجب لها على زوجها فلا يجب لها عليه شيء، قال ابن عباس في قوله ‏{‏إلا أن يعفون‏}‏‏:‏ إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏}‏ المراد به الزوج عن عيسى بن عاصم قال‏:‏ سمعت شريحاً يقول‏:‏ سألني علي بن أبي طالب عن ‏{‏الذي بيده عقدة النكاح‏}‏ فقلت له‏:‏ هو ولي المرأة، فقال علي‏:‏ لا، بل هو الزوج، وهذا هو الجديد من قول الشافعي، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه واختاره ابن جرير، ومأخذ هذا القول أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوجُ فإن بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها، وكما أنه لا يجوز للولي أن يهب شيئاً من مال المولية للغير، فكذلك في الصداق‏.‏ الوجه الثاني أنه أبوها أو أخوها أو من لا تنكح إلا بإذنه وروي عن الحسن وعطاء وطاووس‏:‏ أنه الولي وهذا مذهب مالك وقول الشافعي في القديم، ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه، فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها، وقال عكرمة‏:‏ أذن اللّه في العفو وأمر به، فأي امرأة عفت جاز عفوها‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تعفو أقرب للتقوى‏}‏ خوطب به الرجال والنساء، قال ابن عباس‏:‏ أقربهما للتقوى الذي يعفو، ‏{‏ولا تنسوا الفضل بينكم‏}‏ المعروف يعني لا تهملوه بل استعملوه بينكم،
عن علي بن أبي طالب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليأتين على الناس زمان عضوض يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنسوا الفضل بينكم‏}‏ ‏(‏شرار يبايعون كل مضطر‏)‏ ‏
"‏رواه أحمد وأبو داود والترمذي‏"‏وقد نهى رسول باللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بيع المضطر وعن بيع الغرر فإن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكاً إلى هلاكه، فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه، ‏{‏إن الله بما تعملون بصير‏}‏ أي لا يخفى عليه شيء من أموركم وأحوالكم وسيجزي كل عامل بعمله‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏238 ‏:‏ 239‏)‏
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ‏.‏ فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ‏}

يأمر تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها، وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها، كما
ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أي العمل أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الصلاة في وقتها‏)‏، قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ الجهاد في سبيل اللّه‏)‏، قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بر الوالدين‏:‏‏)‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن أحب الإعمال إلى اللّه تعجيل الصلاة لأول وقتها‏)‏‏"‏رواه أحمد وأبو داود والترمذي‏"‏وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلاة الوسطى وقد اختلف السلف والخلف فيها أي صلاة هي‏؟‏ فقيل‏:‏ الصبح حكاه مالك لما روي عن ابن عباس أنه صلى الغداة في مسجد البصرة فقنت قبل الركوع وقال‏:‏ هذه الصلاة الوسطى التي ذكرها اللّه في كتابه فقال‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا للّه قانتين‏}‏، وهو الذي نص عليه الشافعي رحمه اللّه محتجاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقوموا للّه قانتين‏}‏ والقنوت عنده في صلاة الصبح، ومنهم من قال‏:‏ هي وسطى باعتبار أنها لا تقصر وهي بين صلاتين رباعيتين مقصورتين وقيل‏:‏ إنها صلاة الظهر روي عن زيد بن ثابت قال‏:‏ كان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منها فنزلت‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا للّه قانتين‏}
وقيل‏:‏ إنها صلاة العصر وهو قول أكثر علماء الصحابة وجمهور التابعين‏.‏
قال الإمام أحمد بسنده عن علي قال‏:‏ قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يوم الأحزاب‏:‏ ‏(‏شغلونا عن الصلاة الوسطة صلاة العصر ملأ اللّه قلوبهم وبيوتهام ناراً‏)‏ ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء ‏"‏رواه أحمد وأخرجه الشيخان وأبو داود اوالترمذي‏"‏ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها قوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله‏)‏، وفي الصحيح أيضاً عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏بكروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله‏)‏‏.‏ وعن أبي يونس مولى عائشة قال‏:‏ أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً قالت‏:‏ إذا بلغت هذه الآية ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ فآذنّي، فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليَّ‏:‏ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا للّه قانتين قالت‏:‏ سمعتها من رسول الله صلى اللّه عليه وسلم
‏"‏رواه أحمد واللفظ له وأخرجه مسلم في صحيحه‏"‏وقيل‏:‏ إن الصلاة الوسطى هي صلاة المغرب‏.‏
وقيل‏:‏ بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها وقد ثبتت السنة بأنها العصر فتعيَّن المصير إليها‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقوموا للّه قانتين‏}‏ أي خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه، وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها، ولهذا لما
امتنع النبي صلى اللّه عليه وسلم من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه وهو في الصلاة قال‏:‏ ‏(‏إن في الصلاة لشغلاً‏)‏، وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وذكر اللّه‏)‏وقال الإمام أحمد بن حنبل عن زيد بن أرقم قال‏:‏ كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وقوموا للّه قانتين‏}‏ فأمرنا بالسكوت
"‏رواه الجماعة سوى ابن ماجة‏"‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً فإذا أمنتم فاذكروا اللّه كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون‏}‏ لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها، وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال الذي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل، وهي حال القتال والتحام الحرب فقال‏:‏ ‏
{‏فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً‏}
أي فصلُّوا على أي حال كان رجالاً أو ركباناً يعني مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، كما قال مالك عن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال‏:‏ فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها‏.‏ قال نافع‏:‏ لا أرى أبن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهذا من رخص اللّه التي رخص لعباده ووضعه الآصار والأغلال عنهم، وقد روي عن ابن عباس قال‏:‏ في هذه الآية يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه‏.‏ وقد ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه إلى أن صلاة الخوف تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان، وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس قال‏:‏ فرض اللّه الصلاة على لسان نبيكم صلى اللّه عليه وسلم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، واختار هذا القول ابن جرير، وقال البخاري‏:‏ باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو وقال الأوزاعي‏:‏ إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرىء لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلُّوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبر ويؤخرونها حتى يأمنوا، وقال أنَس ابن مالك‏:‏ حضرت مناهضة حصن تسترعند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا، قال أنَس‏:‏ وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها‏.‏ وهذا يدل على اختيار البخاري لهذا القول، والجمهور على خلافه ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏
{‏فإذا أمنتم فاذكروا الله‏}‏ أي أقيموا صلاتكم كما أمرتم فأتموا ركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها ‏{‏كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون‏}‏ أي مثل ما أنعم عليكم وهداكم للإيمان، وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقابلوه بالشكر والذكر، كقوله بعد ذكر صلاة الخوف‏:‏{‏فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا‏}‏ وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى‏:‏
{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏} الآية إن شاء اللّه تعالى‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏240 ‏:‏ 242‏)‏
{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم ‏.‏ وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ‏.‏ كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ‏}‏
قال الأكثرون‏:‏ هذه الآية منسوخة بالتي قبلها، وهي قوله‏:‏ ‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً‏}‏ قال البخاري، قال ابن الزبير‏:‏ قلت لعثمان بن عفان‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً‏}‏ قد نسختها الآية الأخرى فلم نكتبها أو تدعها‏؟‏ قال‏:‏ يا ابن أخي لا أغيِّر شيئاً منه من مكانه، ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها‏؟‏ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها‏.‏
وروي عن ابن عباس قال‏:‏ كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل اللّه بعد‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏}‏ فهذه عدة المتوفى عنها زوجها إلا أن تكون حاملاً فعدتها أن تضع ما في بطنها، وقال‏:‏
{‏ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم‏}
‏، فبيّن ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة‏.‏
وقال عطاء، قال ابن عباس‏:‏ نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏غير إخراج‏}‏، قال عطاء‏:‏ إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقول اللّه‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليكم فيما فعلن‏}‏، قال عطاء‏:‏ ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها، ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه بهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر وعشر وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يُمكَنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً إن اخترن ذلك ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وصية لأزواجهم‏}‏ أي يوصيكم اللّه بهن وصية كقوله‏:
‏{‏يوصيكم اللّه في أولادكم‏}
الآية‏.‏ ‏{‏غير إخراج‏}‏ فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر أو بوضع الحمل واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله‏:‏ ‏{‏فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف‏}‏، وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له وقد اختاره جماعة منهم الإمام ابن تيمية،، ورده آخرون منهم الشيخ ابن عبد البر، وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلَّم، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت، فهذا محل خلاف بين الأئمة وهما قولان للشافعي رحمه اللّه‏.‏
وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج
بما رواه مالك في موطئه أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتها أنها جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أَعبْدٍ له أَبَقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت‏:‏ فسألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، قالت‏:‏ فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو أمر بي فنوديت له، فقال‏:‏ ‏(‏كيف قلت‏؟‏‏)‏ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال‏:‏ ‏(‏أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله‏)‏، قالت‏:‏ فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت‏:‏ فلما كان
عثمان بن عفّان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به
‏"‏رواه مالك وأبو
داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏"‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين‏}‏، لما نزل قوله تعالى‏:‏
‏{‏متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين‏}‏ قال رجل‏:‏ إن شئت أحسنت ففعلت وإن شئت لم أفعل فأنزل اللّه هذه الآية‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين‏}‏ وقد استدل بهذه الأية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء كانت مفوضة أو مفروضاً لها، أو مطلقة قبل المسيس، أو مدخولاً بها، وهو قول عن الشافعي رحمه الله، واختاره ابن جرير ومن لم يوجبها مطلقاً يخصص من هذا العموم مفهوم قوله تعالى‏:‏{‏لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة ومتعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين‏}‏‏
.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يبين اللّه لكم آياته‏}‏ أي في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه، بيَّنه ووضحه وفسَّره، ولم يتركه مجملاً في وقت احتياجكم إليه، ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ أي تفهمون وتتدبرون‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 01-05-2014, 05:14 AM   رقم المشاركة : 55
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏243 ‏:‏ 245‏)‏
‏{‏ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ‏.‏ وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ‏.‏ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ‏}‏
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه كانوا ثمانية آلاف، وقال وهب بن منبه‏:‏ كانوا بضعة وثلاثين ألفاً، قال ابن عباس‏:‏ كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا‏:‏ نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال اللّه لهم‏:‏ ‏{‏موتوا‏}‏ فماتوا، فمرّ عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم فذلك قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت‏}‏ الآية، وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم، وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فراراً من الموت هاربين إلى البريّة، فنزلوا وادياً أفيح فملأوا ما بين عدوتيه، فأرسل اللّه إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي، والآخر من أعلاه، فصاحا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران، وفنوا وتمزقوا وتفرقوا، فلما كان بعد دهر مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقيل فسأله اللّه أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول‏:‏ أيتها العظام البالية إن اللّه يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى‏:‏ أيتها العظام إن اللّه يأمرك أن تكتسي لحماً وعصباً وجلداً، فكان ذلك وهو يشاهد، ثم أمره فنادى‏:‏ أيتها الأرواح إن اللّه يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فقاموا أحياء ينظرون، قد أحياهم اللّه بعد رقدتهم الطويلة وهم يقولون‏:‏ سبحانك لا إله إلا أنت وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن الله لذو فضل على الناس‏}‏ أي فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏ أي لا يقومون بشكر ما أنعم اللّه به عليهم في دينهم ودنياهم‏.‏
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من اللّه إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فراراً من الوباء طلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد، وقوله
{‏وقاتلوا في سبيل اللّه واعلموا أن اللّه سميع عليم‏}‏أي كما أن الحذرلا يغني من القدر، كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلا ولا يبعده، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين‏}‏، قال تعالى‏:‏‏{‏أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة‏}
‏، وروينا عن أمير الجيوش وسيف اللّه المسلول على أعدائه خالد بن الوليد رضي اللّه عنه أنه قال وهو في سياق الموت‏:‏ لقد شهدت كذا وكذا موقفاً وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلاً في الحرب، ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه‏.‏
وقوله تعالى‏:‏
‏{‏من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافاً كثيرة‏}‏ يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيل اللّه، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع، وفي حديث النزول أنه يقول تعالى‏:‏ ‏(‏من يقرض غير عديم ولا ظلوم‏)‏، وعن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له‏}‏ قال أبو الدحداح الأنصاري‏:‏ يا رسول اللّه وإن اللّه عزّ وجلّ ليريد منا القرض‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم يا أبا الدحداح‏)‏ قال‏:‏ أرني يدك يا رسول اللّه‏!‏ قال، فناوله يده قال‏:‏ فإني قد أقرضت ربي عزّ وجلّ حائطي - قال‏:‏ وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها - قال‏:‏ فجاء أبو الدحداح فناداها‏:‏ يا أم الدحداح، قالت‏:‏ لبيك، قال‏:‏ اخرجي فقد أقرضته ربي عزّ وجلّ ‏"‏رواه أبن أبي حاتم وأخرجه ابن مردويه عن عمر مرفوعا بنحوه‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏قرضاً حسناً‏}‏ روي عن عمر وغيره من السلف هو النفقة في سبيل اللّه، وقيل‏:‏ هو النفقة على العيال، وقيل‏:‏ هو التسبيح والتقديس وقوله‏:‏ ‏{‏فيضاعفه له أضعافاً كثيرة‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة واللّه يضاعف لمن يشاء‏}‏ الآية، وسيأتي الكلام عليها‏.‏
وعن ابن عمر قال لما نزلت‏:‏ ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل‏}‏ إلى آخرها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏رب زد أمتي‏)‏ فنزلت‏:‏{‏من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة‏}‏، قال‏:‏ ‏(‏رب زد أمتي‏)‏، فنزلت‏:‏ ‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏}
"‏رواه ابن أبي حاتم عن نافع عن ابن عمر‏"‏فالكثير من اللّه لا يحصى، وقوله‏:‏ ‏{‏واللّه يقبض ويبسط‏}‏ أي أنفقوا ولا تبالوا فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين، له الحكمة والبالغة في ذلك ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ أي يوم القيامة‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏246‏)‏
‏{‏ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ‏}‏
قال وهب بن منبه وغيره‏:‏ كان بنوا إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط اللّه عليهم أعداءهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا خلقاً كثيراً وأخذوا منهم بلاداً كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه، وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان، وكان ذلك موروثاً لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام، فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب، وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلى القليل، وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها، وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل اللّه يرزقها غلاماً يكون نبياً لهم، ولم تزل المرأة تدعوا الله عزّ وجلّ أن يرزقها غلاماً فسمع اللّه لها ووهبها غلاماً فسمته شمويل أي سمع اللّه دعائي ومنهم من يقول شمعون روي عن قتادة أن النبي هو يوشع بن نون قال ابن كثير‏:‏ هو بعيد لأن هذا كان بعد موسى بزمن طويل، وكان ذلك في زمن داود عليه السلام، وقد كان بين داود و موسىما يزيد على ألف سنة، وروي عن السدي أنه شمويل ، وقال مجاهد‏:‏ هو شمعون واللّه أعلم‏.‏ وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته اللّه نباتاً حسناً، فلما بلغ سن الأنبياء أوحى اللّه إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكاً يقاتلون معه أعداءهم، وكان الملك أيضاً قد باد فيهم فقال لهم النبي‏:‏ فهل عسيتم إن أقام اللّه لكم ملكاً ألا تقاتلوا وتفوا بما التزمتم من القتال معه‏؟‏ ‏{‏قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل اللّه وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا‏}‏ أي وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد‏!‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم واللّه عليم بالظالمين‏}‏ أي ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم واللّه عليم بهم‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(
‏247‏)‏
‏{‏وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ‏}‏
أي لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكاً منهم فعين لهم طالوت وكان رجلاً من أجنادهم ولم يكن من بيت الملك فيهم لأن الملك كان في سبط يهوذا ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا قالوا‏:‏ ‏{‏أنى يكون له الملك علينا‏}‏‏؟‏ أي كيف يكون ملكاً علينا ‏{‏ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال‏}‏ أي هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء، وقيل‏:‏ دباغاً وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت، وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف، ثم قد أجابهم النبي قائلاً‏:‏ ‏{‏إن اللّه اصطفاه عليكم‏}‏ أي اختاره لكم من بينكم واللّه أعلم به منكم، يقول‏:‏ لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل اللّه أمرني به لما طلبتم مني ذلك ‏{‏وزاده بسطة في العلم والجسم‏}‏ أي وهو مع هذا أعلم منكم وأنبل وأشكل منكم، وأشد قوة وصبراً في الحرب ومعرفة بها، أي أتم علماً وقامة منكم، ومن ههنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه ثم قال‏:‏ ‏{‏واللّه يؤتي ملكه من يشاء‏}‏ أي هو الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يسأل عما فعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه ولهذا قال‏:‏ ‏{‏واللّه واسع عليم‏}‏ أي هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء، عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏248‏)‏
‏{‏وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ‏}‏
يقول لهم نبيهم‏:‏ إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد اللّه عليكم التابوت الذي أخذ منكم ‏{‏فيه سكينة من ربكم‏}‏، قيل‏:‏ معناه فيه وقار وجلالة، وقال الربيع‏:‏ رحمة، وقال ابن جريج‏:‏ سألت عطاء عن قوله‏:‏ ‏{‏فيه سكينة من ربكم‏}‏ قال‏:‏ ما تعرفون من آيات اللّه فتسكنون إليه وكذا قال الحسن البصري‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون‏}‏، عن ابن عباس قال‏:‏ عصاه ورضاض الألواح، وكذا قال قتادة والسدي، وقال عطية بن سعد‏:‏ عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض الألواح، وقال عبد الرزاق‏:‏ سألت الثوري عن قوله‏:‏ ‏{‏وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون‏}‏ فقال‏:‏ منهم من يقول قفيز من منّ ورضاض الألواح، ومنهم من يقول العصا والنعلان‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تحمله الملائكة‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون، وقال السدي‏:‏ أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية لكم‏}‏ أي على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي باللّه واليوم الآخر‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏249‏)‏
‏{‏فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ‏}

يخبر اللّه تعالى عن طالوت ملك بني إسرائيل، حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل، وكان جيشه يومئذ - فيما ذكره السدي - ثمانين ألفاً فاللّه أعلم أنه قال‏:‏ ‏{‏إن اللّه مبتليكم‏}‏ أي مختبركم بنهر، وهو نهر بين الأردن وفلسطين، يعني نهر الشريعة المشهور ‏{‏فمن شرب منه فليس مني‏}‏ أي فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه، ‏{‏ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده‏}‏ أي فلا بأس عليه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فشربوا منه إلا قليلاً منهم‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ من اغترف منه بيده روي، ومن شرب منه لم يرو، فشرب منه ستة وسبعون ألفاً وتبقى معه أربعة آلاف هذا قول السدي وروى البراء بن عازب قال‏:‏ كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر وما جازه معه إلا مؤمن، ورواه البخاري عن عبد اللّه بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن جده عن البراء بنحوه ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاوزه هو الذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده‏}‏ أي استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوّهم لكثرتهم، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن عد اللّه حق، فإن النصر من عند اللّه ليس عن كثرة عدد ولا عدد، ولهذا قالوا‏:‏
‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه واللّه مع الصابرين‏}‏‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏250 ‏:‏ 252‏)‏
{‏ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ‏.‏ فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ‏.‏ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين ‏}‏
أي لما واجه حزب الإيمان - وهم قليل من أصحاب طالوت - لعدوهم أصحاب جالوت وهم عدد كثير ‏{‏قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً‏}‏ أي أنزل علينا صبراً من عندك، ‏{‏وثبت أقدامنا‏}‏ أي في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار والعجز ‏{‏وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏‏.‏
قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فهزموهم بإذن اللّه‏}‏ أي غلبوهم وقهروهم بنصر اللّه لهم وقتل داود جالوت‏}‏ وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته، ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفى له ثم آل الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه اللّه به من النبوة العظيمة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآتاه الله الملك‏}‏ الذي كان بد طالوت، ‏{‏والحكمة‏}‏ أي النبوة بعد شمويل، ‏{‏وعلمه مما يشاء‏}‏ أي مما يشاء اللّه من العلم الذي اختصه به صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا دفع اللّه بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏}‏، أي لولا أن اللّه يدفع عن قوم بآخرين، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا، كما قال تعالى‏:
‏{‏ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيرا‏}الآية‏. وعن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن اللّه ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت جيرانه البلاء‏)‏، ثم قرأ ابن عمر‏:‏ ‏{‏ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير وقال ابن كثير‏:‏ إسناده ضغف‏"‏وعن عبادة بن الصامت قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الأبدال في أمتي ثلاثون‏:‏ بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم تنصورن‏)‏
"‏أخرجه ابن مردويه عن عبادة بن الصامت مرفوعا‏"‏قال قتادة‏:‏ إني لارجوا أن يكون الحسن منهم‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنَّ اللّه ذو فضل على العالمين‏}‏ أي ذو منّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضاً وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله‏.‏
ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏تلك آيات اللّه نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين‏}‏ أي هذه آيات اللّه التي قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق، أي بالواقع الذي كان عليه الأمر المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق، الذي يعلمه علماء بني إسرائيل ‏{‏وإنك‏}‏ يا محمد ‏{‏لمن المرسلين‏}‏ وهذا توكيد وتوطئة للقسم‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 01-05-2014, 05:39 AM   رقم المشاركة : 56
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏253‏)
‏{‏تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ‏}‏
يخبر تعالى أنه فضّل بعض الرسل على بعض كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا‏}‏، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم اللّه‏}‏ يعني موى ومحمداً صلى اللّه عليهما وكذلك آدم كما ورد به حديث الإسراء حين رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عزّ وجلّ فإن قيل فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين‏:‏ ‏(‏لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور‏؟‏ فلا تفضلوني على الأنبياء‏)‏
‏"‏الحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة بلفظ‏:‏ استبَّ رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي‏:‏ لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي‏.‏‏.‏‏.‏الخ‏"‏وفي رواية‏:‏ ‏(‏لا تفضلوا بين الأنبياء‏(‏، فالجواب من وجوه، أحدها‏:‏ أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر، الثاني‏:‏ أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع، الثالث‏:‏ أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم التشاجر، الرابع‏:‏ لا تفضلوا بمجرد الأراء والعصبية، الخامس‏:‏ ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى اللّه عزّ وجلّ وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البينات‏}‏ أي الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به من أنه عبد اللّه ورسوله إليهم ‏{‏وأيدناه بروح القدس‏}‏ يعني أن الله أيده بجبريل عليه السلام، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء اللّه ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء اللّه ما اقتتلوا‏}‏ أي كل ذلك عن قضاء اللّه وقدره، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولكن اللّه يفعل ما يريد‏}‏‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏254‏)‏
‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة
ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون ‏}‏
يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير، ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم، وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا ‏{‏من قبل أن يأتي يوم‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة‏}‏ أي لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال ولو بذله، ولو جاء بملء الأرض ذهباً، ولا تنفعه خلة أحد يعني صداقته بل ولا نسابته كما قال‏:‏ ‏{‏فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون‏}‏ ولا شفاعة‏:‏ أي ولا تنفعهم شفاعة الشافعين‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والكافرون هم الظالمون‏}‏ مبتدأ محصور في خبره، أي ولا ظالم أظلم ممن وافى اللّه يومئذ كافراً‏.‏ وقد روي عن عطاء بن دينار أنه قال‏:‏ الحمد للّه الذي قال‏:‏ ‏{‏والكافرون هم الظالمون‏}‏ ولم يقل ‏{‏والظالمون هم الكافرون‏}‏ ‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏255‏)
‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم ‏}‏
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم، وقد صح الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب اللّه‏.‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ عن أبي بن كعب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سأله‏:‏ ‏(‏أي آية في كتاب اللّه أعظم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، فرددها مراراً، ثم قال‏:‏ آية الكرسي قال‏:‏ ‏(‏ليهنك العلم يا أبا المنذر‏!‏ والذي نفسي بيده إن لها لسانا وشفتين، تقدس الملك عن ساق العرش‏)
‏‏.‏
حديث آخر‏:
عن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأل رجلاً من صحابته فقال‏:‏ ‏(‏أي فلان هل تزوجت‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا، وليس عندي ما أتزوج به، قال‏:‏ ‏(‏أوليس معك‏:‏ قل هو اللّه أحد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏(‏ربع القرآن‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏أليس معك‏:‏ قل أيها الكافرون‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏(‏ربع القرآن‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏أليس معك‏:‏ إذا زلزلت‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏(‏ربع القرآن‏)‏، قال‏:‏ ‏(‏أليس معك‏:‏ إذا جاء نصر اللّه‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏)‏ربع القرآن‏(‏قال‏:‏ ‏)‏أليس معك آية الكرسي‏:‏ اللّه لا إله إلى هو‏؟‏‏(‏قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏)‏ربع القرآن‏)
‏ ‏"‏رواه أحمد عن انَس بن مالك‏"‏‏.‏
حديث آخر‏:‏
عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال‏:‏ أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر هل صلّيت‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏(‏قم فصل‏)‏، قال‏:‏ فقمت فصليت ثم جلست فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر تعوذ باللّه من شر شياطين الإنس والجن‏)‏ قال، قلت‏:‏ يا رسول اللّه أو للإنس شياطين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، قال، قلت‏:‏ يا رسول اللّه الصلاة‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏خير موضوع من شاء أقلَّ ومن شاء أكثر‏)‏ قال، قلت‏:‏ يا رسول اللّه فالصوم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فرض مجزي وعند اللّه مزيد‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول اللّه فالصدقة، قال‏:‏ ‏(‏أضعاف مضاعفة‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول اللّه فأيها أفضل، قال‏:‏ ‏(‏جهد من مقل، أو سرٌّ إلى فقير‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول اللّه أي الأنبياء كان أول، قال‏:‏ ‏(‏آدم‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول اللّه ونبي كان، قال‏:‏ ‏(‏نعم نبي مكلم‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول اللّه كم المرسولن، قال‏:‏ ‏(‏ثلثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً‏)‏ وقال مرة‏:‏ ‏(‏وخمسة عشر‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول اللّه أي ما أنزل عليك أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏آية الكرسي‏:‏ ‏{‏اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم‏} ‏"‏رواه أحمد والنسائي عن أبي ذر الغفاري‏"‏‏.‏
حديث آخر‏:‏ وقد
ذكر البخاري في فضل آية الكرسي بسنده عن أبي هريرة، قال‏:‏ وكلني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت‏:‏ لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏ دعني فإني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة، قال‏:‏ فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا ابا هريرة ما فعل أسيرك البارحة‏)‏‏؟‏ قال، قلت‏:‏ يا رسول اللّه شكا حاجة شديدةٌ وعيالاً فرحمته وخليت سبيله، قال‏:‏ ‏(‏أما إنه قد كذبك وسيعود‏)‏، فعرفت أنه سيعود لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏إنه سيعود‏)‏ فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت‏:‏ لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة‏)‏‏؟‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه شكا حاجة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال‏:‏ ‏؟‏‏(‏أما إنه قد كذبك وسيعود‏)‏، فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود‏.‏ فقال‏:‏ دعني أعلمك كلمات ينفعك اللّه بها، قلت‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي‏:‏ ‏{‏اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من اللّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏ما فعل أسيرك البارحة‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني اللّه بها فخليت سبيله، قال‏:‏ ‏(‏ما هي‏؟‏‏)‏ قال قال لي‏:‏ إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية‏:‏ ‏{‏اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ وقال لي‏:‏ لن يزال عليك من اللّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أما إنه صدقك وهو كذوب‏.‏ تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏(‏ذاك شيطان‏)‏‏.‏
حديث آخر‏:‏
عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏سورة البقرة فيها آيةٌ سيدةُ آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه‏:‏ آية الكرسي‏)‏ ‏"‏رواه الحاكم‏"‏وقد رواه الترمذي ولفظه‏:‏ ‏(‏لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن‏:‏ آية الكرسي‏)‏‏
.‏
حديث آخر‏:‏
عن عمر بن الخطاب أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال‏:‏ أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن‏؟‏ فقال ابن مسعود‏:‏ على الخبير سقطت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏أعظم آية في القرآن ‏{‏اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم‏}
‏"‏رواه ابن مردويه‏"‏‏)‏
حديث آخر‏:‏
في اشتماله على اسم اللّه الأعظم، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين‏:‏ ‏{‏اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ و ‏{‏الم اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏‏:‏‏(‏إن فيهما اسم اللّه الأعظم‏)
‏ ‏
"‏رواه أحمد‏"‏
حديث آخر‏:‏ عن أبي أمامة يرفعه قال‏:
‏ ‏(‏اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث‏:‏ سورة القرة وآل عمران وطه‏)‏، وقال هشام أما البقرة ف ‏{‏أللّه لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ وفي آل عمران ‏{‏الم* اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم‏} وفي طه{‏وعنت الوجوه للحي القيوم‏}‏‏
.‏
حديث آخر‏:
عن أبي أمامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من قرا دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت‏)‏
‏"‏رواه ابن مردويه والنسائي‏"‏
حديث
آخرعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من قرا حم المؤمن‏؟‏‏؟‏ إلى ‏{‏إليه المصير‏}‏ وآية الكرسي حين يصبح حُفِظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حُفِظَ بهما حتى يصبح‏)
‏"‏رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث غريب‏"‏وقد ورد في فضلها أحاديث أخر تركناها اختصاراً لعدم صحتها وضعف أسانيدها‏.‏
‏(‏وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة‏)‏
فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللّه لا إله إلا هو‏}‏ إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، ‏{‏الحي القيوم‏}‏ أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره‏.‏ وكان عمر يقرأ القيَّام فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره، كقوله‏:‏
‏{‏ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ أي لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلْقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سِنة ولا نوم‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏لا تأخذه‏}‏ أي لا تغلبه ‏{‏سِنَةُ‏}‏ وهي الوسن والنعاس، ولهذا قال ‏{‏ولا نوم‏}‏ لأنه أقوى من السِّنة‏.‏ وفي الصحيح عن أبي موسى قال‏:‏ قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأربع كلمات فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرْفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه‏)‏‏.‏ وعن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا‏:‏ يا موسى هل ينام ربك‏؟‏ قال‏:‏اتقوا اللّه، فناداه ربه عزّ وجلّ‏:‏ يا موسى سألوك هل ينام ربك‏؟‏ خذ زجاجتين في يديك فقم الليلة، ففعل موسى، فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا، فقال‏:‏ يا موسى لو كنت أنا لسقطت السماوات والأرض فهلكت، كما هلكت الزجاجتان في يديك، فأنزل اللّه عزّ وجلّ على نبيّه صلى اللّه عليه وسلم آية الكرسي
"‏رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهر وسلطانه كقوله‏:‏
{‏إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً‏}‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنه إلا بإذنه‏}‏، كقوله‏:
‏{‏وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏} وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عزّ وجلّ، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة‏:‏ ‏(‏آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء اللّه أن يدعني، ثم يقال‏:‏ ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفع - قال - فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة‏)‏‏
.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كقوله إخباراً عن الملائكة‏:‏
{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسياً‏}‏‏
.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏}‏ أي لا يطلع أحد من علم اللّه على شيء إلا بما أعلمه اللّه عزّ وجلّ وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم اللّه عليه كقوله‏:‏ ‏{‏ولا يحيطون به علماً‏}‏‏.
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏، عن ابن عباس قال‏:‏ علمه، وقال آخرون‏:‏ الكرسي موضع القدين‏.
عن ابن عباس قال‏:‏ سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قول اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره إلا اللّه عزّ وجلّ‏)‏ وقال السدي‏:‏ الكرسي تحت العرش قال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة‏.‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس‏)‏ قال، قال أبو ذر‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض‏)‏"‏روى هذه الآثار ابن جرير رحمه اللّه تعالى‏"‏
وعن أبي ذر الغفاري أنه سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الكرسي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة‏)‏، وعن عمر رضي اللّه عنه قال‏:‏ أتت امرأة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت‏:‏ ادع اللّه أن يدخلني الجنة‏.‏ قال‏:‏ فعظم الرب تبارك وتعالى، وقال‏:‏ ‏(‏إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من ثقله‏)
‏، وعن الحسن البصري، أنه كان يقول‏:‏ الكرسي هو العرش، والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يؤوده حفظهما‏}‏ أي لا يثقله ولا يُعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة، وهو الغني الحميد، الفعّال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسالون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وهو العلي العظيم‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏وهو الكبير المتعال‏}
وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح أمرارها كما جاءت من غير تكيف ولا تشبيه‏.‏







التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 01-05-2014, 05:40 AM   رقم المشاركة : 57
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور


الآية رقم ‏(‏256‏)‏
‏{‏لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ‏}‏
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏لا إكراه في الدين‏}‏ أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى اللّه قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسوراً، وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار وإن كان حكمها عاماً‏.‏ وقال ابن جرير عن ابن عباس، قال‏:‏ كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا‏:‏ لا ندع أبناءنا، فأنزل اللّه عز وجلّ‏:‏ ‏{‏لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي‏}‏ ‏"‏أخرجه أبو داود والنسائي‏"‏وعن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏لا إكراه في الدين‏}‏ قال‏:‏ نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏ألا أستكرههما، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية، فأنزل اللّه فيه ذلك
"‏رواه ابن جرير والسدي‏"‏وقال ابن أبي حاتم عن أبي هلالا عن أسبق، قال‏:‏ كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لعمر بن الخطاب، فكان يعرض عليَّ الإسلام فآبى، فيقول ‏{‏لا إكراه في الدين‏}‏، ويقول‏:‏ يا اسبق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين‏.‏
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل هي منسوخة بآية القتال، وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام، فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له، أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل، وهذا معنى الإكراه‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏
‏{‏ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ {‏يا ايها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم‏}‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏‏.‏ وفي الصحيح‏:‏(‏عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل‏)‏، يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثاق والأغلال والقيود والأكبال، ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لرجل‏:‏ ‏(‏اسلم‏)‏، قال‏:‏ إني أجدني كارهاً، قال‏:‏ ‏(‏وإن كنت كارها‏)
‏، فإنه ثلاثي صحيح، لكن ليس من هذا القبيل، فإنه لم يكرهه النبي صلى اللّه عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة، فقال له أسلم وإن كنت كارها، فإن اللّه سيرزقك حسن النية والإخلاص‏.‏
وقوله تعالى‏:‏
‏{‏فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميع عليم‏}‏ أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون اللّه، ووحَّد اللّه فعبده وحده، وشهد أن لا إله إلا هو ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}
‏، أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم‏.‏ قال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ إن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وإن كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه وإن كان فارسياً أو نبطياً، ومعنى قوله في الطاغوت إنه الشيطان، قوي جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية‏:‏ من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها‏}‏، أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم هي في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي شديد، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها‏}‏ الآية، قال مجاهد‏:‏ العروة الوثقى يعني الإيمان، وقال السدي‏:‏ هو الإسلام، وقال سعيد بن جبير والضحاك‏:‏ يعني ‏{‏لا إله إلا الله‏}‏ وعن أنَس بن مالك‏:‏ العروة الوثقى القرآن، وعن سالم ابن أبي الجعد قال‏:‏ هو الحب في اللّه والبغض في اللّه، وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها‏.‏
وقال الإمام أحمد عن محمد بن قيس بن عبادة قال‏:‏ كنت في المسجد، فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فصلى ركعتين أوجز فيهما، فقال القوم‏:‏ هذا رجل من أهل الجنة، فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته، فلما استأنس قلت له‏:‏ إن القوم لما دخلت المسجد قالوا كذا وكذا، قال سبحان اللّه ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لمَ‏؟‏ إني رأيت رؤيا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقصصتها عليه‏:‏ رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون فذكر من خضرتها وسعتها - وفي وسطها عمود حديد أسفله في الارض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي‏:‏ اصعد عليه، فقلت لا أستطيع، فجاءني منصف - قال ابن عون هو الوصيف - فرفع ثيابي من خلفي، فقال‏:‏ اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة، فقال‏:‏ استمسك بالعروة، فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقصصتها عليه فقال‏:‏ ‏(‏أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى أنت على الإسلام حتى تموت‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأخرجاه في الصحيحين، وأخرجه البخاري من وجه آخر‏"‏قال‏:‏ وهو عبد اللّه ابن سلام‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 02-05-2014, 04:18 AM   رقم المشاركة : 58
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏257‏)‏
‏{‏الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ‏}‏
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الوضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشيطان يزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات ويخرجونهم، ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك {‏أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏،ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال‏:‏ ‏{‏وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتقرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل الظلمات والنور‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏عن اليمين وعن الشمال‏}‏إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏258‏)‏
{‏ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ‏}‏
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه هو ملك بابل نمرود بن كنعان ، قال مجاهد‏:‏ ملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة‏:‏ مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان بن داود و ذو القرنين الكافران نمرود و بختنصر ، واللّه أعلم‏.‏
ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي بقلبك يا محمد ‏{‏إلى الذي حاج إبراهيم في ربه‏}‏ أي وجود ربه، وذلك أنه أنكر أن يكون ثَمَّ إله غيره، كما قال بعده فرعون لملئه‏:
‏ ‏
{‏ما علمت لكم من إله غيري‏}
‏، وما حمله على هذا الطغيان والكفر والغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره وطول مدته في الملك، وذلك أنه يقال إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه، قال‏:‏ ‏{‏أن آتاه اللّه الملك‏}‏، وكان طلب من إبراهيم دليلاً على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم‏:‏ ‏{‏ربي الذي يحيي ويميت‏}‏ أي إنما الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها وعدمها بعد وجودها، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار، ضرورة لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها، وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له‏.‏
فعند ذلك قال المحاج - وهو النمرود - ‏:‏ ‏{‏أنا أحيي وأميت‏}‏، قال قتادة‏:‏ وذلك أني أوتى بالرجلين استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء والإماتة، والظاهر - واللّه أعلم - أنه ما أراد هذا لأنه ليس جواباً لما قال إبراهيم ولا في معناه لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت كما اقتدى به فرعون في قوله‏:‏
‏{‏ما علمت لكم من إله غيري‏}‏، ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة‏:‏ ‏{‏فإن اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأتب بها من المغرب‏}‏ أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويمت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته تسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدوا كل يوم من المشرق فإن كانت إلهاً كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب‏؟‏ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت، أي أخرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ أي لا يلهمهم حجة ولا برهاناً بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد‏.‏
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة، وروي زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس، بل خرج وليس معه شيء من الطعام، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه، وقال‏:‏ أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم، فلما قدم وضع رحاله وجاء فأتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاماً طيباً، فعملت طعاماً، فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال‏:‏ أنى لكم هذا‏؟‏ قالت‏:‏ من الذي جئت به، فعلم أنه رزق رزقهم اللّه عزّ وجلّ‏.‏ قال زيد بن أسلم‏:‏ وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكاً يأمره بالإيمان باللّه فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى، ثم الثالثة فأبى وقال‏:‏ اجمع جموعك وأجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس وأرسل اللّه عليهم باباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظاماً بادية، دخلت واحدة منها في منخري الملك، فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة عذبه اللّه بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب في المدة حتى أهلكه اللّه بها‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏259‏)‏
{‏ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ‏}‏
تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه‏}‏ وهو في قوة قوله هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه ولهذا عطف عليه بقوله‏:‏ ‏{‏أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها‏}‏ اختلفوا في هذا المار من هو‏؟‏ فروي عن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ هو عزيز، ورواه ابن جرير عن ابن عباس والحسن وقتادة وهذا القول هو المشهور، وقيل‏:‏ اسمه حزقيل بن بوار وقال مجاهد‏:‏ هو رجل من بني إسرائيل، وأما القرية فالمشهور أنها ‏"‏بيت المقدس‏"‏مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها ‏{‏وهي خاوية‏}‏ أي ليس فيها أحد من قولهم خوت الدار تخوي خوياً‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على عروشها‏}‏ أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكراً فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة، وقال‏:‏ ‏{‏أنَّى يحي هذه اللّه بعد موتها‏}‏‏؟‏ وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها، وبعدها عن العود إلى ما كنت عليه‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ فأماته الله مائة عام ثم بعثه‏}‏‏.‏ قال‏:‏ وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته، وتكامل ساكنوها، وتراجع بنوا إسرائيل إليها‏.‏ فلما بعثه الله عزّ وجلّ بعد موته، كان أول شيء أحيا اللّه فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه، كيف يحيي بدنه‏.‏ فلما استقل سوياً ‏{‏قال‏}‏ الله له، أي بواسطة الملك‏:‏ ‏{‏كم لبثت‏؟‏ قال لبثت يوماً أو بعض يوم‏}‏‏.‏ قال‏:‏ وذلك أنه مات أول النهار، ثم بعثه اللّه في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال‏:‏ ‏{‏أو بعض يوم‏.‏ قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه‏}‏، وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما تقدم لم يغير منه شيء، لا العصير استحال، ولا التين حمض ولا أنتن، ولا العنب نقص‏:‏ ‏{‏وانظر إلى حمارك‏}‏ أي كيف يحييه الله عزّ وجلّ وأنت تنظر، ‏{‏ولنجعلك آية للناس‏}‏ أي دليلاً على المعاد ‏{‏ونظر إلى العظام كيف ننشزها‏}‏ أي نرفعها فيركب بعضها على بعض، وقرىء ‏{‏ننشرها‏}‏ أي نحييها قاله مجاهد،
‏{‏ثم نكسوها لحماً‏}‏‏.‏
قال السدي‏:‏ تفرقت عظام حماره حوله يميناً ويساراً، فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حماراً قائماً من عظام لا لحم عليها، ثم كساها اللّه لحماً وعصباً وعروقاً وجلداً، وبعث اللّه ملكاً فنفخ في منخري الحمار فنهق بإذن الله عز وجلّ، وذلك كله بمرأى من العزير‏.‏ فعند ذلك لما تبيّن له هذا كله‏:‏ ‏{‏قال أعلم أن اللّه على كل شيء قدير‏}‏ أي أنا أعلم بهذا، وقد رأيته عياناً فأنا أعلم أهل زماني بذلك، وقرأ آخرون‏:‏ ‏)‏قال إعْلَم‏(‏ على أنه أمر له بالعلم‏.‏
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏260‏)‏
‏{‏ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم ‏}

ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام أسباباً، منها أنه لما قال لنمرود‏:‏‏{‏ربي الذي يحيي ويميت‏}‏ أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك إلى عين اليقين وأن يرى ذلك مشاهدة، فقال‏:‏ ‏{‏رب أرني كيف تحيي الموتى‏!‏ قال أولم تؤمن‏!‏ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ فأما الحديث الذي رواه البخاري
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال‏:‏ رب أرني كيف تحيي الموتى، قال‏:‏ أو لم تؤمن‏؟‏ قال‏:‏ بلى، ولكن ليطمئن قلبي‏)‏
"‏أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري‏"‏فليس المراد ههنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده، بلا خلاف‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك‏}‏ اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي‏؟‏ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن، فروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أخذ وزاً ورألاً وهو فرخ النعام وديكاً وطاووساً، وقال مجاهد‏:‏ كانت حمامة وديكاً وطاووساً وغراباً، وقوله‏:‏ ‏{‏فصرهن إليك‏}‏ أي وقطعهن‏.‏ وعن ابن عباس ‏{‏فصرهن إليك‏}‏ أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن ثم جعل على كل جبل منهن جزءأً، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض، ثم جزأهن أجزاء وجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم أمره اللّه عزّ وجل أن يدعوهن فدعاهن كما أمره اللّه عزّ وجلّ، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض حتى قام كل طائر على حدته وأتينه يمشين، سعياً ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها‏.‏
ولهذا قال‏:‏ ‏{‏واعلم أن اللّه عزيز حكيم‏}‏ أي عزيز لا يغلبه شيء ولا يمتنع من شيء، وما شاء كان بلا ممانع لأنه القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 02-05-2014, 04:32 AM   رقم المشاركة : 59
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏261‏)‏
‏{‏ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ‏}

هذا مثل ضربه اللّه تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فقال‏:‏ ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه‏}‏ يعني في طاعة الله، وقال مكحول يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل، وإعداد السلاح وغير ذلك، وقال ابن عباس‏:‏ الجهاد والحج يضعَّف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة‏}‏، وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها اللّه عزّ وجلّ لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الارض الطيبة، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف‏.‏
كما
روي الإمام أحمد عن عياض بن غطيف قال‏:‏ دخلنا على ابي عبيدة نعوده من شكوى أصابه بجنبه، وأمرأته قاعدة عند رأسه قلنا‏:‏ كيف بات أبو عبيدة‏؟‏ قالت‏:‏ واللّه لقد بات بأجر، قال أبو عبيدة‏:‏ ما بت بأجر، وكان مقبلاً بوجهه على الحائط فأقبل على القوم بوجهه، وقال ألا تسألوني عما قلت‏!‏ قالوا‏:‏ ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه، قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من أنفق نفقة فاضلة في سبيل اللّه فسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضاً أو أماط أذى فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنة مالم يخرقها، ومن ابتلاه اللّه عزّ وجلّ ببلاء في جسده فهو له حِطَّة‏)‏
أي كفارة لذنوبه‏.‏
حديث آخر‏:‏
عن ابن مسعود أن رجلاُ تصدق بناقة مخطومة في سبيل اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأخرجه مسلم بلفظ‏:‏ جاء رجل بناقة مخطومة فقال‏:‏ يا رسول اللّه هذه في سبيل اللّه، فقال‏:‏ ‏(‏لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة‏)‏‏"‏‏.‏حديث آخر‏:عن ابن عبد الله ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف خلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان‏:‏ فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك‏)‏
‏.‏‏"‏رواه الإمام أحمد عن عبد الله ابن مسعود‏"‏‏.‏
حديث آخر‏:‏
عن ابن عمر لما نزلت هذه الآية ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏}‏ قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏رب زد أمتي‏)‏، قال‏:‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏رب زد أمتي‏)‏، فقال، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب"‏أخرجه ابن مردويه ورواه أبو حاتم وابن حبان‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏واللّه يضاعف لم يشاء‏}‏ أي بحسب إخلاصه في عمله ‏{‏واللّه واسع عليم‏}‏ أي فضله واسع كثير أكثر من خلقه، عليم بمن يستحق ومن لا يستحق سبحانه وبحمده‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏262 ‏:‏ 264‏)‏
‏{‏ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ‏.‏ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ‏.‏ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ‏}

يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات مَنَّا على من أعطوه فلا يمنُّون به على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا أذى‏}‏ أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهاً يحبطون به ما سلف من الإحسان ثم وعدهم اللّه تعالى الجزاء الجزيل على ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏لهم أجرهم عند ربهم‏}‏ أي ثوابهم على اللّه لا على أحد سواه، ‏{‏ولا خوف عليهم‏}‏ أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة، ‏{‏ولاهم يحزنون‏}‏ أي على ما خلفوه من الأولاد، ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها، لا يأسفون عليها لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك‏.‏
ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قول معروف‏}‏ أي من كلمة طيبة ودعاء لمسلم، ‏{‏ومغفرة‏}‏ أي عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي، ‏{‏خير من صدقة يتبعها أذى‏}‏،{‏واللّه غني‏}‏ عن خلقه، ‏{‏حليم‏}‏ أي يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم، وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة، ففي صحيح مسلم
عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا يكلمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم‏:‏ المنّان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب‏)‏وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر‏)‏
"‏رواه ابن مردويه وأخرجه أحمد وابن ماجة‏"‏ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏، فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة يخطيئة المن والأذى، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كالذي ينفق ماله رئاء الناس‏}‏، أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن الأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه اللّه وإنما قصده مدح الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس، أو يقال إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة اللّه تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر‏}‏‏.‏
ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه، فقال‏:‏ ‏{‏فمثل كمثل صفوان‏}‏ وهو الصخر الأملس ‏{‏عليه تراب فأصابه وابل‏}‏ وهو المطر الشديد، ‏{‏فتركه صلداً‏}‏ أي فترك الوابلُ ذلك الصفوانَ صلداً‏:‏ أي أملس يابساً، أي لا شيء عليه من ذلك التراب، بل قد ذهب كله، أي وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند اللّه، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ولهذا قال‏:‏
‏{‏لا يقدرون على شيء مما كسبوا واللّه لا يهدي القوم الكافرين‏}‏‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏265‏)‏
‏{‏ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير ‏}‏
وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضات اللّه عنهم في ذلك ‏{‏وتثبيتا من أنفسهم‏}‏، أي وهم متحققون ومتثبتون أن اللّه سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء‏.‏ ونظير هذا في معنى قوله عليه السلام في الحديث الصحيح المتفق على صحته‏:‏ ‏(‏من صام رمضان إيمانا واحتساباً‏)‏
الحديث أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند اللّه وثوابه، قال الشعبي‏:‏ ‏{‏وتثبيتاً من أنفسهم‏}‏ أي تصديقاً ويقيناً‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل جنة بربوة‏}‏ أي كمثل بستان بربوة، وهو عند الجمهور المكان المرتفع من الأرض وزاد ابن عباس والضحاك‏:‏ وتجري فيه الأنهار‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أصابها وابل‏}‏ وهو المطر الشديد كما تقدم، فآتت ‏{‏أكلها‏}‏ أي ثمرتها، ‏{‏ضعفين‏}‏ أي بالنسبة إلى غيرها من الجنان، ‏{‏فإن لم يصبها وابل فطل‏}‏ قال الضحاك‏:‏ هو الرذاذ وهو اللين من المطر، أي هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبداً لأنها إن لم يصبها وابل فطل، وأياً ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبداً بل يتقبله اللّه ويكثره وينميِّه، كل عامل بحسبه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏واللّه بما تعملون بصير‏}‏ أي لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة
الآية رقم ‏(‏266‏)‏
‏{‏ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ‏}‏
قال البخاري عند تفسير هذه الآية‏:‏ قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فيمن ترون هذه الآية نزلت ‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب‏}‏‏؟‏ قالوا‏:‏ اللّه أعلم، فغضب عمر، فقال‏:‏ قولوا‏:‏ نعلم أولا نعلم، فقال ابن عباس‏:‏ في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر‏:‏ يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما‏:‏ ضربت مثلاُ بعمل، قال عمر‏:‏ أي عمل‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ لرجل غني يعمل بسعة‏؟‏‏؟‏ اللّه، ثم بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله‏
.‏ وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولاً، بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات، عياذاً باللّه من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال فلم يحصل منه شيء، وخانه أحوج ما كان إليه‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار‏}‏ وهو الريح الشديد ‏{‏فيه نار فاحترقت‏}‏ أي أحرق ثمارها واباد أشجارها فأي حال يكون حاله‏؟‏‏.‏
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ ضرب اللّه مثلاُ حسناً - وكل أمثاله حسن - قال‏:‏ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات‏}‏، يقول‏:‏ صنعه في شيبته، ‏{‏وأصابه الكبر‏}‏ وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه، وكذلك الكافر يكون يوم القيامة إذا رُدَّ إلى اللّه عزّ وجلّ ليس له خير فسيعتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيراً يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عندما كان أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته‏.‏
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في دعائه‏:‏ ‏(‏اللهم اجعل أوسع رزقك عليَّ عند كبر سني وانقضاء عمري‏)‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يبين اللّه لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏}‏ أي تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني وتنزلونها المراد منها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون‏}‏‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏267 ‏:‏ 269‏)‏
‏{‏ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد ‏.‏ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ‏.‏ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ‏}

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق والمراد به الصدقة ههنا من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها، يعني التجارة بتيسيره إياها لهم، وقال علي والسدي‏:‏ ‏{‏من طيبات ما كسبتم‏}‏ يعني الذهب والفضة، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض، قال ابن عباس‏:‏ أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه فإن اللّه طيب لا يقبل إلا طيباً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا تيمموا الخبيث‏}‏ أي تقصدوا الخبيث، ‏{‏منه تنفقون ولستم بآخذيه‏}‏‏:‏ أي لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه، فاللّه أغنى منكم فلا تجعلوا للّه ما تكرهون، وقيل معناه‏:‏ لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه‏.
‏ وعن عبد اللّه بن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن اللّه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه اللّه الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يُسْلم عبد حتى يسلم قلبُه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا‏:‏ وما بوائقه يا نبي اللّه‏؟‏ قال‏:‏ غشه وظلمه - ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن اللّه لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث‏)
"‏رواه الإمام أحمد عن عبد اللّه بن مسعود مرفوعاً‏"‏قال ابن كثير‏:‏ والصحيح القول الأول‏.‏
قال ابن جرير رحمه اللّه‏:‏ عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه في قول اللّه‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم‏}‏ الآية، قال نزلت في الأنصار، كات الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر يظن أن ذلك جائز، فانزل اللّه فيمن فعل ذلك‏:‏ ‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن ماجة والحاكم وقال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين‏"‏وقال ابن ابي حاتم‏:‏
عن البراء رضي الله عنه ‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏}‏ قال‏:‏ نزلت فينا؛ كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفّة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر، فياكل وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه فنزلت‏:‏ ‏{‏ولا تَيَمَّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏}‏ قال‏:‏ لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذ إلا على إغماض وحياء، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده
‏"‏رواه ابن أبي حاتم والترمذي، وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب‏"‏
وعن عبد اللّه بن مغفل في هذه الآية ‏{‏ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏}‏ قال‏:‏ كسب المسلم لا يكون خبيثاً، ولكن لا يصَّدق بالحشف والدرهم الزيف وما لا خير فيه‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن مغفل‏"‏، وقال الإمام أحمد
عن عائشة قالت‏:‏ أتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه قلت‏:‏ يا رسول اللّه نطعمه المساكين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا تطعموهم مما لا تأكلون‏)‏‏.‏ وعن البراء ‏{‏ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏}‏ يقول‏:‏ لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه‏؟‏
‏"‏رواه ابن جرير عن البراء بن عازب‏"‏، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه‏}‏ يقول‏:‏ لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفَسه‏؟‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أن اللّه غني حميد‏}‏ أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها، وما ذاك إلا أن يساوي الغني الفقير، كقوله‏:‏ ‏{‏لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم‏}
وهو غني عن جميع خلقه، وجميع خلقه فقراء إليه‏.‏ وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن اللّه غني واسع العطاء كريم؛ جواد، وسيجزيه بها ويضاعفها له أضعافاً كثيرة، من يقرض غير عديم ولا ظلوم، وهو الحميد‏:‏ أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلا هو ولا رب سواه
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرة منه وفضلاً واللّه واسع عليم‏}‏،
قال ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن للشيطان لمة بابن آدم وللمَلك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من اللّه فليحمد اللّه، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان‏)‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرة منه وفضلاً‏}
"‏رواه ابن ابي حاتم والترمذي والنسائي وابن حبان‏"‏الآية‏.‏ ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشيطان يعدكم الفقر‏}‏ أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة اللّه، ‏{‏ويأمركم بالفحشاء‏}‏‏:‏ أي مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلّاق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والّه يعدكم مغفرة منه‏}‏ أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء، ‏{‏وفضلاً‏}‏ أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر ‏{‏واللّه واسع عليم‏}‏‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ يعني المعرفة بالقرآن ناسخة ومنسوخة ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخرة وحلاله وحرامه وأمثاله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏الحكمة‏}‏ ليست بالنبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن، وقال أبو العالية‏:‏ الحكمة خشية اللّه، فإن خشية اللّه رأس كل حكمة، وقد روى ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً‏:‏ ‏(‏رأس الحكمة مخافة اللّه‏)‏، وقال أبو مالك‏:‏ الحكمة السنّة‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ الحكمة العقل‏.‏ قال مالك‏:‏ وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين اللّه، وأمر يدخله في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبيّن ذلك أنك تجد الرجل عاقلاً في أمر الدنيا إذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفاً في أمر دنياه عالماً بأمر دينه بصيراً به، يؤتيه اللّه إياه ويحرمه هذا، فالحكمة‏:‏ الفقه في دين اللّه‏.‏ وقال السُّدي‏:‏ الحكمة النبوة‏.‏ والصحيح أن الحكمة لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع، كما جاء في بعض الأحاديث‏:‏
(‏من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه‏)‏ ‏"‏رواه وكيع بن الجراح في تفسيره عن عبد اللّه بن عمر‏"‏وقال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه اللّه مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه اللّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها‏)‏
"‏رواه البخاري ومسلم والنسائي‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يذكر إلا أولو الألباب‏}‏ أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل، يعي به الخطاب ومعنى
الكلام‏.‏






التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
قديم 02-05-2014, 04:50 AM   رقم المشاركة : 60
قلب الزهـــور
( مشرفة الاستراحه والقصص والروايات)
 
الصورة الرمزية قلب الزهـــور

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏270 ‏:‏ 271‏)‏
‏{‏ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار ‏.‏ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ‏}‏
يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده‏.‏ وتوعد من لا يعمل بطاعته بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره، فقال‏:‏ ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏ أي يوم القيامة ينقذونهم من عذاب اللّه ونقمته‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي‏}‏ أي إن أظهرتموها فنعم شيء هي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم‏}‏ فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية‏.
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسرُّ بالقرآن كالمسر بالصدقة‏)‏‏.‏ والأصل‏:‏ أن الإسرار أفضل لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله‏:‏ إمام عادل، وشاب نشا في عبادة اللّه، ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر اللّه خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال‏:‏ إني أخاف اللّه رب العالمين ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه‏)‏‏.

وفي الحديث المروي‏:‏
‏(‏صدقة السر تطفىء غضب الرب عزّ وجلّ‏)‏، وقال ابن أبي حاتم في قوله‏:‏ ‏{‏إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم‏}‏ قال‏:‏ أنزلت في أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما، أما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما خلَّفت وراءك لأهلك يا عمر‏؟‏‏(‏ قال‏:‏ خلَّفتُ لهم نصف مالي، وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ عدة اللّه وعدة رسوله، فبكى عمر رضي اللّه عنه وقال‏:‏ بأبي أنت وأمي يا أبا بكر واللّه ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقاً ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل سواء كانت مفروضة أو مندوبة‏
.‏ لكن روى ابن جرير عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال‏:‏ جعل اللّه صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفاً‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويكفر عنكم من سيئاتكم‏}‏ أي بدل الصدقات ولا سيما إذا كانت سراً يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات، وقوله‏:‏ ‏{‏واللّه بما تعملون خبير‏}‏ أي لا يخفى عليه من ذلك شيء وسيجزيكم عليه‏.‏

اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

الآية رقم ‏(‏272 ‏:‏ 274‏)‏
‏{‏ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ‏.‏ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ‏.‏ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ‏}

عن ابن عباس قال‏:‏ كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فرخص لهم فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليس عليك هداهم ولكن اللّه يهدي من يشاء‏}‏ ‏"‏رواه النسائي‏"‏الآية‏
.‏ وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية ‏{‏ليس عليك هداهم‏}‏ إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين
‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير فلأنفسكم‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه‏}‏ ونظائرها في القرآن كثيرة وقوله‏:‏ ‏{‏وما تنفقون إلا ابتغاء وجه اللّه‏}‏ قال الحسن البصري‏:‏ نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه اللّه، وقال عطاء الخراساني‏:‏ يعني إذا أعطيت لوجه اللّه فلا عليك ما كان من عمله، وهذا معنى حسن، وحاصله‏:‏ أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه اللّه فقد وقع أجره على اللّه، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب‏:‏ أَلِبر أو فاجرٍ، أو مستحق أو غيره، وهو مثاب على قصده، ومستند هذا تمام الآية‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏}‏، والحديث المخرج
في الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏قال رحل لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون‏:‏ تُصُدِّق على زانية، فقال‏:‏ اللهم لك الحمد على زانية‏!‏ لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها في يد غني، فاصبحوا يتحدثون‏:‏ تُصُدِّق على غني، قال‏:‏ اللهم لك الحمد على غني‏!‏ لأتصدقن الليلة فخرج فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون‏:‏ تصدق الليلة على سارق فقال‏:‏ اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق، فأتي فقيل له‏:‏ أما صدقتك فقد قُبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زنا، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته‏)‏
‏"‏أخرجه الشيخان عن أبي هريرة‏"‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه‏}‏ يعني المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى اللّه وإلى رسوله وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم، و ‏{‏لا يستطيعون ضرباً في الأرض‏}‏ يعني سفراً للتسبب في طلب المعاش‏.‏ والضرب في الارض‏:‏ هو السفر‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏
{‏وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏، وقال تعالى‏:‏{‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه‏}
‏ الآية‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف‏}‏ أي الجاهل بأمرهم وحالهم، يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم، وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته
عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ليس المسكين بهذا الطّواف التي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً‏)‏‏
.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تعرفهم بسيماهم‏}‏‏:‏ أي بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم، كما قال تعالى‏:‏
{‏سيماهم في وجوههم‏}‏، وقال‏:‏ {‏ولتعرفنَّهم في لحن القول‏}‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏اتقو فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه‏)‏، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات للمتوسمين‏}
‏"‏رواه أصحاب السنن‏"‏‏.‏
وقوله تعالى‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏ أي لا يلِّحون في المسألة، ويكلفون الناس مال لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة‏
.‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف‏.‏ اقرأوا إن شئتم‏:‏ يعني قوله‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافا‏} ‏"‏رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري‏"‏وقال الإمام أحمد عن رجل من مزينة، أنه قالت له أمه‏:‏ ألا تنطلق فتسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما يسأله الناس، فانطلقت أسأله فوجدته قائما يخطب، وهو يقول‏:‏ ‏(‏ومن استعف أعفه اللّه، ومن استغنى أغناه اللّه، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سال الناس إلحافاً‏)‏، فقلت بيني وبين نفسي لنا ناقة لهي خير من خمس أواق، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق، فرجعت ولم أسال‏.‏ وعن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو كدوحاً في وجهه‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه وما غناه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏خمسون درهماً أو حسابها من الذهب‏) ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير فإن اللّه به عليم‏}‏ أي لا يخفى عليه شيء منه، وسيُجزى عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏، هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته، في جميع الأوقات من ليل أو نهار، والأحوال من سر وجهر، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضاً كما
ثبت في الصحيحين، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص حين عاده مريضاً عام الفتح، وفي رواية عام حجة الوداع‏:‏ ‏(‏وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى ما تجعل في فيّ امرأتك‏)‏‏.‏ وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والشيخان‏"‏وقال ابن جبير عن أبيه‏:‏ كان لعلي أربعة دراهم فأنفق درهماً ليلاً ودرهما نهاراً، ودرهماً سراً ودرهماً علانية، فنزلت‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً علانية‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي وابن مردويه‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏فلهم أجرهم عند ربهم‏}‏ أي يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات، ‏{‏ولا خوف عليهم لا هم يحزنون‏}‏ تقدم تفسيره‏







التوقيع :
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)
   


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:52 PM.




 


    مجمموعة ترايدنت العربية