مسألة
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، لأنه قد ملكت نفسها. بما بذلت له من العطاء، وقال سفيان الثوري: إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها؟ وإن كان يسمى طلاقاً فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة وبه يقول داود الظاهري، واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة، وحكى ابن عبد البر عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره، وهو قول شاذ مردود.
مسألة
وهل له أن يوقع عليها طلاقاً آخر في العدة؟ فيه ثلاثة أقول للعلماء. أحدها: ليس له ذلك لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه، وبه يقول الشافعي وأحمد بن حنبل. والثاني: قال مالك: إن أتبع الخلع طلاقاً من غير سكوت بينهما وقع، وإن سكت بينهما لم يقع قال ابن عبد البر: وهذا يشبه ما روي عن عثمان رضي اللّه عنه. والثالث أنه يقع عليها الطلاق بكل حال مادامت في العدة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي.
وقوله تعالى: {تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعد حدود اللّه فأولئك هم الظالمون} أي هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده فلا تتجاوزوها كما ثبت في الحديث الصحيح:(إن اللّه حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان؟؟ فلا تسألو عنها)، وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة لقوله: {الطلاق مرتان} ثم قال: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} الآية. أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان ثم قال: (أيلعب بكتاب اللّه وأنا بين أظهركم( حتى قام رجل فقال: يا رسول اللّه ألا أقتله؟ "رواه النسائي، قال ابن كثير: وفيه انقطاع"
{ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن ...}
وقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، أي حتى يطأها زوج آخر، في نكاح صحيح، فلو وطئها واطىء في غير نكاح ولو في ملك اليمين لم تحل للأول، لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول، لحديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع إلى الأول؟ قال: (لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها)عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثاً، فتزوجت بعده رجلاً فطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته. قال مسلم في صحيحه عن عائشه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها فتتزوج رجلا آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول قال:(لا حتى يذوق عسيلتها). وعن عائشة أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها، فأتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، فقال: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) "تفرد به البخاري من هذا الوجه"وقال الإمام أحمد عن عائشة قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها - وخالد ابن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له - فقال: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول باللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ فما زاد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم عن التبسم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).
فصل والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحاً، فلو وطئها وهي مُحْرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء، أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف، لم تحل للأول بهذا الوطء، وكذا لو كان الزوج الثاني ذمياً لم تحل للمسلم بنكاحه، لأن أنكحة الكفار باطلة عنده، فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول، فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة. ذكر
الأحاديث الواردة في ذلك
الحديث الأول: عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلَّل والمحلَّل له، وآكل الربا وموكله "تفرد به البخاري من هذا الوجه"
الحديث الثاني: عن علي رضي اللّه عنه قال: لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والواشمة والمستوشمة للحسن ومانع الصدقة والمحلل والمحلل له، وكان ينهى عن النوح "رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة"
الحديث الثالث عن جابر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لعن اللّه المحلل والمحلل له) "رواه الترمذي"
الحديث الرابع: عن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ألا أخبركم بالتيس المستعار)، قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال:(هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له) "تفرد به ابن ماجة".
الحديث الخامس عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن نكاح المحلل قال: (لا، إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب اللّه، ثم يذوق عسيلتها)"رواه الجوزجاني السعدي"
الحديث السادس: عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المحلل والمحلل له "رواه أحمد"
الحديث السابع: عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول؟ فقال: لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم "رواه الحاكم في المستدرك".
وقوله تعالى: {فإن طلقها} أي الزوج الثاني بعد الدخول بها {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} أي المرأة والزوج الأول {إن ظنا أن يقيما حدود الله} أي يتعاشرا بالمعروف، قال مجاهد: إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة {وتلك حدود الله} أي شرائعه وأحكامه {يبينها} أي يوضحها {لقوم يعلمون}.
وقد اختلف الأئمة رحمهم اللّه فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها ثم تزوجها الأول هل تعود إليه بما بقي من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول طائفة من الصحابة رضي اللّه عنهم، أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم اللّه، حجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلا يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى، واللّه أعلم
رقم الآية (231)
{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم }
هذا أمر من اللّه عزّ وجلّ للرجال: إذا طلق أحدهم المرأة طلاقاً له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها أي يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها أي يتركها حتى تنقضي عدتها ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح، قال اللّه تعالى: {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا} قال ابن عباس ومجاهد: كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضراراً لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها فتعتد فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة، فنهاهم اللّه عن ذلك وتوعدهم عليه فقال: {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} أي بمخالفته أمر اللّه تعالى.
وقوله تعالى: {ولا تتخذوا آيات اللّه هزواً} قال مسروق: هو الذي يطلق في غير كنهه ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها لتطول عليها العدة، وقال الحسن وقتادة: هو الرجل يطلق ويقول: كنت لاعباً، أو يعتق أو ينكح ويقول: كنت لاعباً، فأنزل اللّه: {ولا تتخذوا آيات اللّه هزوا}، وعن ابن عباس قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب ولا يريد الطلاق، فأنزل اللّه: {ولا تتخذوا آيات اللّه هزوا} فألزمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطلاق. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة) "رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن غريب"
وقوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم} أي في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} أي السنّة {يعظكم به} أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم {واتقوا الله} أي فيما تأتون وفيما تذرون {واعلموا أن الله بكل شيء عليمْ} أي فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية وسيجازيكم على ذلك.
رقم الآية (232)
{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون }
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدوا له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى اللّه أن يمنعوها، والذي قاله ظاهر من الآية، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها، وأنه لا بد في النكاح من ولي، وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع، وقد قررنا ذلك في كتاب الأحكام وللّه الحمد والمنة.
وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني} وأُخته. روى الترمذي عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع ابن لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، واللّه لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك، قال فعلم اللّه حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل اللّه: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن}، إلى قوله: {وأنتم لا تعلمون}، فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك "رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة واللفظ للترمذي".
وقوله تعالى: {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر} أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له {من كان منكم} أيها الناس {يؤمن بالله واليوم الآخر} أي يؤمن بشرع اللّه ويخاف وعيد اللّه وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء {ذلكم أزكى لكم وأطهر} أي اتبعاكم شرع اللّه في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحَمِيَّة في ذلك {أزكى لكم وأطهر} لقلوبكم {واللّه يعلم} أي من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه {وأنت لا تعلمون} أي الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون.