تابع الحلقه الرابعه
--------------------------------------------------------------------------------
في عصر اليوم ذاته ، قرر والدي أخذنا لنزهة قصيرة إلى إحدى الملاهي ، حسب طلب و إلحاح دانة !
أنا لم أشأ الذهاب ، فأنا لم أعد طفلا و لا تثير الملاهي أي اهتمام لدي ، ألا أن والدتي أقنعتني بالذهاب من باب الترويح عن النفس لاستئناف الدراسة !
قضينا وقتا جيدا ...
وقفت رغد أمام إحدى الألعاب المخيفة و أصرت على تجربتها !
طبعا لم يوافق أحد على تركها تركب هذا القطار السريع المرعب ، و كما أخبرتكم
فإنها حين ترغب في شيء فإنها لن تهدأ حتى تحصل عليه !
و حين تبكي ، فإنها تتحول من رغد إلى رعد !
والدي زجرها من باب التأديب ، إذ أن عليها أن تطيع أمره حين يأمرها بشيء
توقفت رغد عن البكاء ، و سارت معنا على مضض ...
كانت تمشي و رأسها للأسفل و دموعها تسقط إلى الأرض !
أنا وليد لا أتحمّل رؤيتها هكذا مطلقا ... لا شيء يزلزلني كرؤيتها حزينة وسط الدموع !
" حسنا يا رغد ! فقط للمرة الأولى و الأخيرة سأركب معك هذا القطار ، لتري كم هو مخيف و مرعب ! "
أعترض والداي ، ألا أنني قلت :
" سأمسك بها جيدا فلا تقلقا "
اعتراضهما كان في الواقع على سماحي لرغد بنيل كل ما تريد
أنا أدرك أنني ادللها كثيرا جدا
لكن ...
ألا تستحق طفلة يتيمة الأبوين شيئا يعوضها و لو عن جزء من المائة مما فقدت ؟
تجاهلت اعتراض والدي ّ ، و انطلقت بها نحو القطار
ركبنا سوية ذلك القطار و لم تكن خائفة بل غاية في السعادة !
و عندما توقف و هممت بالنزول ، احزروا من صادفت !؟؟
عمّار اللئيم !
" من وليد ! مدهش جدا ! تتغيب عن المدرسة لتلهو مع الأطفال ! عظيم ! "
تجاهلته ، و انصرفت و الصغيرة مبتعدين ، ألا أنه عاد يلاحقني بكلام مستفز خبيث
لم أستطع تجاهله ، و بدأنا عراكا جديدا !
تدخل مجموعة من الناس و من بينهم والدي لفض نزاعنا بعد دقائق ...
عمار و بسبب لكمتي القوية إلى وجه سالت الدماء من أنفه
كان يردد :
" ستندم على هذا يا وليد ! ستدفع الثمن "
أما رغد ، و التي كانت تراني و لأول مرة في حياتها أتعارك مع أحدهم ، و أؤذيه ، فقد بدت مرعوبة و التصقت بوالدتي بذعر !
عندما عدنا للبيت وبخني أبي بشدة على تصرفي في الملاهي و عراكي ...
و قال :
( كنت أظنك أصبحت رجلا ! )
و هي كلمة آلمتني أكثر بكثير من لكمات عمّار
استأت كثيرا جدا ، و عندما دخلت غرفتي بعثرت الكتب و الدفاتر التي كانت فوق مكتبي بغضب
لا أدري لماذا أنا عصبي و متوتر هذا اليوم ...
بل و منذ فترة ليست بالقصيرة
أهذا بسبب الامتحانات المقبلة ؟؟
بعد قليل ، طرق الباب ، ثم فتح بهدوء ...
كانت رغد
" وليد ... "
ما أن نطقت باسمي حتى قاطعتها بحدة :
" عودي إلى غرفتك يا رغد فورا "
نظرت إلي و هي لا تزال واقفة عند الباب ، فرمقتها بنظرة غضب حادة و صرخت :
" قلت اذهبي ... ألا تسمعين ؟؟ ! "
أغلقت الصغيرة الباب بسرعة من الذعر !
لقد كانت المرة الأولى التي أقسو فيها على رغد ...
و كم ندمت بعدها
ألقيت نظرة على ( صندوق الأماني ) ثم أمسكت به و هممت بتمزيقه !
ثم أبعدته في آخر لحظة !
كنت أريد أن أفرغ غضبي في أي شيء أصادفه
إنني أعرف أنني يوم السبت المقبل سأقابل بتعليقات ساخرة من قبل عمّار و مجموعته
و كل هذا بسبب أنت أيتها الرغد المتدللة ...
لأجلك أنت أنا أفعل الكثير من الأشياء السخيفة التي لا معنى لها !
و الأشياء المهولة ... التي تعني أكثر من شيء ... و كل شيء ...
و التي يترتب عليها مصائر و مستقبل ...
كما سترون ...
و الصندوق في يدها ...
لم استطع النوم تلك الليلة
جعلت أتقلب على فراشي و الأمور الثلاثة : الدراسة ، الحرب ، و رغد تآمرت علي و سببت لي أرقا و صداعا شديدا
أوه يا إلهي ... أنا متعب ... متعب !
فلتذهب الدراسة للجحيم !
ولتذهب الحرب كذلك للجحيم !
و رغد ...
رغد ...
فلأذهب أنا إلى رغد !
قفزت من سريري في رغبة ملحة جدا لرؤية الصغيرة ...
لابد أنها غارقة في النوم الآن ... كم كنت قاسيا معها ! كم أنا نادم !
سرت ببطء حتى دخلت غرفة رغد ، و تعجبت إذ رأيت الظلام مخيما عليها !
صغيرتي تخاف النوم في الظلام الشديد و تصر على إضاءة النور الخافت
اقتربت من السرير و أنا أدقق النظر بحثا عن وجه الصغيرة ، ألا أنني لم أره
أشعلت المصباح الخافت المجاور لسريرها ، و أصبت بالفزع حين رأيت السرير خاليا ...
نهضت مذعورا ... و تلفت من حولي ... ثم أنرت المصباح القوي و دققت النظر في كل شيء ... لم تكن رغد في الغرفة ...
خرجت من الغرفة كالمجنون و ذهبت رأسا إلى غرفة دانة ، ثم سامر ، ثم جميع غرف المنزل و أنحائه و لم أبق منه مترا واحدا دون تفتيش ... عدا غرفة والديّ
سرت و أنا أترنح و متشبث بأملي الأخير بأن تكون رغد هناك ...
توقفت عند الباب ، و رفعت يدي استعدادا لطرقه فخانتني قواي
ماذا إن لم تكن رغد هنا ؟
أين يمكن أن تكون ؟
القلق بل الفزع و الخوف على رغد تملكاني و ألقيا جانبا أي تفكير سليم من رأسي
طرقت الباب طرقات متوالية تشعر أيا كان بالذعر !
ثوان ، و إذا بأمي تقف أمامي في فزع :
" وليد ؟ خير يا بني ؟ "
التقطت عدة أنفاس متلاحقة ثم قلت :
" هل رغد هنا ؟ "
كنت أحدق بعين والدتي و كأنني أريد أن أخترقها إلى دماغها لأعرف الجواب قبل أن تنطق به ...
قولي نعم أمي ... أرجوك !
" نعم ! نامت هنا "
كأن جبلا جليديا قد وقع فوق رأسي لدى سماعي إجابتها
ارتخت عضلاتي كلها فجأة ، فترنحت و أنا أعود خطا للوراء حتى جلست على أحد المقاعد
والدتي أقبلت نحوي ، و ألقت نظرة سريعة على ساعة الحائط ، ثم عادت تنظر إلي بقلق ...
" وليد ؟ ما بك عزيزي ؟ "
أغمضت عيني لثوان ، و أنا عاجز عن تحريك أي عضلة من جسمي ...
ثم نظرت إليها و قلت بصعوبة :
" قلقت حين لم أجدها في غرفتها ... بل كدت أموت قلقا ... "
اقتربت مني والدتي ، و مسحت على رأسي و قالت :
" هوّ ن عليك يا بني ...
جاءتني تبكي البارحة و تقول أنك غاضب منها و أخرجتها من غرفتك !
كانت حزينة جدا ! "
ربما تريد أمي معاتبتي لتصرفي مع رغد
أرجوك أمي يكفي فأنا قد نلت من تأنيب الضمير ما يكفي و يزيد ...
ألا ترين أنني لم أنم حتى هذه الساعة بسبب ذلك ...؟؟
" آسف لإزعاجك أماه ، تصبحين على خير "
رغد !
ما الذي تفعلينه بي !؟
نهضت متأخرا في الصباح التالي ، و حينما ذهبت إلى المطبخ وجدت أمي مشغولة في إعداد الطعام فيما تلعب رغد ببعض الدمى إلى جوارها
عندما رأتني رغد ، ابتسمت لها ، ألا أنها قامت و التصقت بأمي ، كأنها تطلب الحماية !
تضايقت كثيرا من هذا ... هل أصبحت طفلتي الحبيبة تخاف مني ؟؟
" رغد ! تعالي إلي ... "
لم تتحرك بل تشبثت بوالدتي أكثر ، الأمر الذي أشعرني بضيق شديد جدا فغادرت المطبخ فورا
ستنسى بعد قليل ... إنها مجرد طفلة و الأطفال ينسون بسرعة !
بل من الأفضل ألا تنسى حتى تبقى بعيدة عني و أتخلص من أحد همومي !
في المساء ، حضرت أم حسام بطفليها حسام و نهلة لزيارتنا
أم حسام هي خالة رغد الوحيدة و التي كانت ترعاها في السابق ، بعد وفاة والديها
حسام هو ابنها الأكبر و البالغ من العمر سبع سنوات على ما أظن ، أما نهلة فتصغر رغد ببضعة أشهر
و يبدو أن ( أخا جديدا ) على وشك الانضمام لهذه العائلة !
رغد تحب خالتها هذه كثيرا ، و الخالة تتردد علينا من حين لآخر للاطمئنان على رغد
تحوّل بيتنا إلى ملعب أطفال ... لعب ، ضحك، بكاء ، شجار ، عراك ، هتاف ، صراخ !
كانوا جميعا سعداء ، أما أنا فقد لزمت غرفتي عكفت على الدراسة .
اختفت الأصوات تماما فيما بعد ، فاستنتجت أن الضيوف قد رحلوا .
في وقت العشاء ، كنت أول الجالسين حول المائدة فقد كنت جائعا ، و لم أكن قد تناولت أي وجبة رئيسية لهذا اليوم .
الكرسي المجاور لي هو الكرسي الذي تجلس عليه صغيرتي رغد عادة
و كنت أساعدها في تناول الطعام دائما
اجتمع أفراد أسرتي حول المائدة ، ألا أن الكرسي المجاور ظل شاغرا !
" أين رغد ؟؟ "
وجهت سؤالي إلى والدتي ، فأجابت :
" أصرت على الذهاب مع خالتها و بما أن الغد هو يوم جمة تركتها تذهب لتبات عندهم ! "
اندهشت ، فهي المرة الأولى التي يحدث فيها شيء كهذا ... لطالما كانت الخالة تزورنا فلماذا تصر على الذهاب معها اليوم و اليوم فقط ؟؟
لقد فقد شهيتي للطعام ، و لم أتناول منه إلا اليسير ...
مساء الجمعة ذهبت مع أبي لإحضار رغد من بيت خالتها
دخلت أنا للمنزل فيما ظل والدي ينتظر في السيارة
لقد كان الأطفال ، رغد و نهلة و حسام ، يلعبون ببعض الألعاب في إحدى الغرف
عندما رأوني توقفوا عن اللعب ، و اخذوا يحدقون بي !
هل أبدو مرعبا ؟؟
ربما لأنني طويل و ضخم البنية نوعا ما !
ابتسمت لهذه المخلوقات الصغيرة ثم قلت :
" مرحبا أعزائي ! ألم تكتفوا من اللعب ! "
لم يبتسم أي منهم أو يحرك ساكنا !
وجهت نظري إلى صغيرتي رغد ، و قلت أخاطبها :
" صغيرتي الحلوة ! حان وقت العودة إلى البيت "
" لا أريد "
كانت أول جملة تنطق بها رغد ! إنها لا تريد العودة للبيت !
" ماذا رغد ؟ يجب أن نعود الآن فغدا ستذهبين إلى المدرسة ! "
" سأبقى هنا "
" رغد ! سوف نأتي بك إلى هنا لتلعبي كل يوم إن أردت ! هيا فوالدنا ينتظر في السيارة "
لم يبد أنها عازمة على النهوض .
و الآن ؟؟ ماذا افعل مع هذه الصغيرة ؟؟
كيف يجب ان يكون التصرف السليم ؟؟
تدخلت أم حسام قائلة :
" بنيتي رغد ، غدا سيحضرك وليد إلى هنا من جديد . و كل يوم إذا أردت اللعب مع نهلة فتعالي و أحضري ألعابك أيضا "
" لا أريد "
ثم بدأت بالبكاء ...
ربما تظن خالتها أننا نسيء إليها بشكل ما !
ماذا جرى لهذه الصغيرة ؟ لماذا أصبحت لا تريد الاقتراب مني ؟ أكل هذا لأنني
أخرجتها من غرفتي بقسوة تلك الليلة ؟
أم حسام أخذت تمسح على رأس الصغيرة و تهدئها و تكرر
" غدا سيحضرك وليد إلى هنا عزيزتي "
قلت ، محاولا إغراءها بالحضور بأي طريقة :
" سنمر بمحل البوضا و نشتري لك النوع الذي تحبين ! "
يبدو أن الفكرة أعجبتها ، فتوقفت عن البكاء و آخذت تنظر إلي ...
قالت خالتها مشجعة :
" هيا بنيتي ، و عندما تأتين غدا سنشتري لك و لنهلة و حسام المزيد من البوضا و الألعاب "
و أخذت تقربها نحوي حتى صارت أمامي مباشرة
رفعت رغد رأسها الصغير و نظرت إلي
إنها نظرة لا أستطيع نسيانها ما حييت ...
كأنها تعاتبني على قسوتي معها ... و تقول ... خذلتني !
مددت يدي و رفعت الصغيرة عن الأرض و ضممتها إلى صدري و قبلت جبينها
كيف لي أن أعتذر ؟
إنها اليتيمة التي و لو بذلت الدنيا كلها لأجلها ، ما عوضتها عن لحظة واحدة تقضيها في حضن أمها أو أبيها ...
قلت :
" ماذا تودين بعد ؟ لعبة جديدة أم دفتر تلوين جديد ؟ "
قالت :
" أريد لعبة و أريد دفترا "
قلت :
" يا لك من سيدة طماعة ! حاضر ! كما تأمرين سيدتي ! "
فابتسمت لي أخيرا ...
شعرت بشيء ما يحرك بنطالي ...
نظرت إلى الأسفل فإذا بها نهلة تمسك ببنطالي و تهزه ، ثم تقول :
" احملني ! "
نظرت إليها بدهشة و استغراب !
" رغد تقول أنك قوي جدا و كنت تحملها مع دانة سوية "
ربّاه !!
في تلك الليلة ، جعلت رغد تنام على سريري للمرة الأخيرة ... و لونت معها كثيرا و قرأت لها أكثر من قصة ، و طبعا اشتريت لها أكثر من لعبة و أكثر من دفتر تلوين إضافة إلى البوضا !
ربما كانت هذه طريقتي في الاعتذار !
إن كنت أدلل صغيرتي كثيرا فهذا لأنني أحبها كثيرا ...
و هي نائمة على سريري بسلام ، أخذت أتأملها بعطف و محبة ...
كم هي رائعة !
و كم أنا متعلق بها !
كم يبدو هذا جنونا !
ذهبت إلى حيث وضعت صندوق الأماني ، فأخذته و جعلت أنظر إليه بحدة
كم تمنيت لو أن بصري يخترق الصندوق إلى ما بداخله !
ليتني أعرف ... الاسم الذي تلا هذه الجملة
( عندما أكبر سوف أتزوج .... ؟ )
عندما تكبرين يا رغد ...
فقط عندما تكبرين ....
فإنني ...
تاااااااااااااااااااابع