وأما الزعيم القومي:
فإنَّ كثيرًا مِن شُعُوب المسلمين لا يزالون أسرى عند حكَّام ظلمة، لا يقيمون عدلاً، ولا يحاربون باطلاً، ولا ينصفون شعوبهم، فشعوبهم لا تزال تلعنهم ليلاً ونهارًا، وتنتظر الفرج صبحًا وعشيًّا، وتستبشر بأدنى لمحة خاطفة للعدل والمساواة، والقضاء على الظُّلم والاستعباد، وهذا مشاهد معروف لا ينكره عاقل، فلنصنع لهم زعيمًا قوميًّا، يحب العدل والمساواة، ويُحارِب الظلم، ويُلبِّي حاجة الشعب، ولنبقه على مرأى منهم ومسمع بلا قيادة له ولا رياسة، فينظرون له نظر الظمآن للسراب يراه ولا يلامسه، حتى إذا اقتربَ منه لم يجدْ ماء ولا سقاء، فإذا صنعنا ذلك فإن الناس تراه أملها الوحيد، تَتَعَلَّق به وتأخذ بتلابيبه، فهو القشة الوحيدة التي يتمسَّك بها الغريق، فإذا قبلوه وأرادوه وهتفوا له وانتظروا أيامه، فقد حان الأوانُ أن نصنعَ له من حوله من يسير الأمور من أتباعنا ومريدينا، وهم - لعمر الله - كثير.
فإذا وصلنا لذلك فقد وجب أن ننتقلَ إلى الخطوة الأخرى، لنسقط الزعيم الذي قبله بأية طريقة كانت، أو على الأقل نتحين وننتظر فرصة ترجُّله عن مملكته، ولنقم صنيعنا هذا مكانه، وستفرح الجموع المظلومة، وستهتف الأفواه المكظومة، وتستبشر بالخير الرغيد، والأمن والعدْل والتطور والتجديد، ولنحقق لهم كل ذلك، حتى ينصهروا فيه، ويغفلوا عما سواه، فإذا سكروا بذلك وغرقوا في بحْر الشهوات والملذات والغنى وسائر الآفات، هدمنا الدِّين كم نحب، وكيف نريد، وأخفينا معالمه وقواعده، فإن كان هذا الحاكم غافلاً غبيًّا، فهو أسهل علينا من غيره، وإن أدرك بفطنته ما نصبو إليه، ولم تجز عليه حيلتنا، فرفض أمرنا وخرج عن طاعتنا، أريناه الحقيقة.
وقلنا له بكل صراحة: نحن الذين نصبناك ووضعناك، فإن أردتَ أن تبقى على ما نريد وما نشاء، فبها ونعمت، وإن أبَيْتَ إلا العصيان، فالسقوط لك، إما بتشويه صورتك، فتسقط من قلوب الناس، أو بإسقاط جسدك، واستبدال غيرك بك، وكل ذلك بأيدينا.
وأما العلماني الناجح:
فإن شعوب المسلمين على اختلاف مشاربهم، وإن وقعوا في الشهوات، وتاهوا في ظلمات الملذات، إلا أنهم رغم كل هذا يحبون الدِّين وأهل الدِّين، ويبغضون أهل التحلُّل والفساد، فلا قبول للعلمانيين عندهم، مهما أغروهم وأوهموهم بحُسْن منهجهم، وسلامة قصدهم؛ وذلك لأنَّ من طبيعة الإنسان السوي قبوله للشرع لموافقة الفطرة، وحبه لأيِّ شيء يربطه بأمجاده وتاريخه، ويحافظ على هُويته، وبغضه واحتقاره لمن يتخلَّى عن أصْله وتاريخه، وهؤلاء العلمانيون جزء من فاقدي الهُوية، ومحبي التبعية، فلا مكان لهم في قلوب الناس، فكيف نستطيع إذًا أن نستفيدَ ممن انتكستْ فطرتهم فيما نريد تحقيقه؟
إننا إنْ نَصَّبْناهم، فإن الناس لا تحبهم، ولا تسمع لهم، ولا يرضيها أن يتولى أمرها مثلهم، وإن أفسحنا المجال للضفة الأخرى - ضفة الإسلاميين - خسرنا ما نريد فعله، وفاتنا ما نخطط له، فما هو السبيل؟
إن الإدارة وتنظيم الأعمال، والمؤسسات والوزارات في البلدان الإسلامية - تعيش حالة متردِّية من الفساد والسقوط، والهمجية والعشوائية والمحسوبية، يتضح ذلك في تخلُّف تلك البلاد، وفي معاناة الناس عند أية مشكلة تحدث أو ضائقة تطرأ، فلنأتِ للناس من هذا الطريق إذًا.
لنجعل أهل الدين يأخذون وقتهم أولاً في تلك الإدارات والوزارات، ولنجعل فترتهم أسوأ الفترات وأرداها، وأشدها سقوطًا وفشلاً، ويتحقق لنا ذلك بأمرين:
أولهما: لنوهم هذا المسؤول صاحب التوجه الإسلامي أن هذا العمل الإداري لا يحتاج له كبير عناء، ولا كثير وقت، ولنلقي في روعه أن عملَه سيقوم به غيرُه، وأنه لا يليق أن تستنفذَ فيه الطاقات والأوقات؛ بل هناك أمور أهم ينبغي الاشتغال بها؛ كالدعوة، وطلب العلم، وإلقاء الدروس، وحضور الاجتماعات، وأنه مع هذا لا خوف على إدارته؛ بل ستنجح وتسير في طريقها المرسوم.
وثانيهما: نسعى جهدنا من خَلْف الكواليس، وبعيدًا عن عين الرقيب، أن نفسد كل عمل ناجح لهذه الإدارة، وأن نسقط كل مبادرة طيبة، أو قرار ناجح، حتى تفوحَ رائحة الفساد والفشل في كلِّ مكان، ولا ننسى آلة الإعلام ودورها في ذلك، وعند هذا فإن أعين الناس ستتَّجه لذلك المسؤول، وتنظر في مذْهبه ومنهجِه، ولن يشفع له دينه ولا إسلاميته؛ بل تزيد الناس بغضًا له وريبة في مدى نجاح أهل الدين في الإدارة والوزارة، وستقتنع أنفسهم بالمقولة التي تقول: إنَّ أهل الدين لا يصلحون إلا في المسجد، والزهد في الدنيا، فإذا وصل الأمر لهذا فقد تهيأتْ عقول الناس لقبول أي شخص ناجح، يخرجهم من التِّيه، بعيدًا عن توجهه وميوله وانتماءاته، فقد ملَّ الناس من الفساد، ويريدون الحل بأي شكل من الأشكال، ومن أية طريق.
فإذا وصلْنا لهذه النقطة أتينا بصاحبنا الذي صنعناه وعلَّمْناه، فنصبناه في الإدارات والوزارات، وسيكون في بداية أمره تحت اختبار الناس وتقييمهم، فلنصنع له نجاحات وإبداعات، وليكن أول المحاربين للفساد، فإذا رأى الناس ذلك وارتاحت قلوبهم إليه، استطَعْنا أن نُمضي ما نريد، فنوهمهم تارة أنه لن يستوي هذا الأمر الفلاني إلا بالاختلاط مثلاً، ولن ينجحَ هذا القرار إلا بخروج المرأة، أو سنبقى في ظلمات الجهل والفساد والجمود، وهلم جرًّا، فإذا زارت الريبة قلوبهم.
قلنا لهم: إن كل ذلك وفق الشريعة الإسلامية، وعلى فتاوى أهل العلم، والأمر فيه سعة وخلاف، وبهذا يتم لنا ما نريد، بلا حروب ولا عداوات ولا كراهية.
اصنعوا لنا هؤلاء الثلاثة، وسترون المسلمين يسيرون على خطاكم، وأنتم مرتاحو البال، قريرو الأعين.
وجرَّب العدو هذه الحيلة، ونجحت نجاحًا باهرًا، تراه العين حينًا وتقرأ خبره ممن مضى حينًا، وتسمعه أحيانًا، والتاريخ يشهد، والواقع يشهد، والأمة الغافلة تشهد.
وخرج لنا كمال أتاتورك، وسعد زغلول، وطه حسين، ومحمد عبده، والطاهر الحداد , وقاسم أمين وغيرهم غيرهم كثير على اختلاف بينهم، ولو أن هذه الحيلة جازت على الجَهَلَةِ من المسلمين لهانَ الأمر، ولكن العجيب أنها جازتْ على كبار المثقفين والعلماء والمصلحين ومحبي الدين، فهذا أحمد شوقي على حبِّه للإسلام ومكانته من الشعر الأصيل، يصدح في مدح كمال أتاتورك على غفلة منه، ويقول:
اللهُ أَكْبَرُ كَمْ فِي الفَتْحِ مِنْ عَجَبٍ يَا خَالِدَ التُّرْكِ جَدِّدْ خَالِدَ العَربِ
وكما جاز أمرُ كمال على أمير الشعراء، فقد جاز أمرُ غيره على أناس أعظم من شوقي وأشد نباهة، ولا زالت المشاهد تَتَكَرَّر، والناس في نومهم سادرون، يستيقظون بين فينة وأخرى على ضحك الزمان، فلا يبصرون أين موطن الخلل.!
وبعدُ، فهذه ليست أولى الحيل ولا آخرها، فمِن حق كل فطين أن يتحايَل ليروج أمره، ولكن ليس من حَقِّنا أن نتغابى ويضحك علينا، وصدق الشاعر: مَكَائِدٌ أُفْعِمَـتْ مَكْـرًا لِأُمَّتِنَـا تَكَادُ مِنْهَا الصُّخُورُ الصُّمُّ تَنْفَطِـرُ
لَيْسَ العَجِيبُ الَّذِي بَانَتْ عَدَاوَتُهُ لَنَا وَمِنْهُ أَتَانَا الضَّيْـمُ وَالضَّـرَرُ
بَلِ العَجِيبُ الَّذِي مِنْ صُلْبِ أُمَّتِنَا يَكُونُ عَوْنًا لِمَنْ خَانُوا وَمَنْ كَفَرُوا