حَمَلَتْهَا إِلَيْك مِنْ زَوْجَة عَمّك فَلَمْ
تَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَتْ وَمَاذَا يَكُون مَصِير هَذَا اَلْبَائِس اَلْمِسْكِين إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَنْ
أَمْره وَلَا مِنْ أَمْرِي شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَجْرِ ذِكْرك بَعْد ذَلِكَ عَلَى لِسَانهَا بِخَيْر وَلَا بَشَر
كَأَنَّمَا كَانَتْ تُعَالِج فِي نَفْسهَا أَلَمًا ممضا وَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّام قَلَائِل حَتَّى سَرَى دَاء
نَفْسهَا إِلَى جِسْمهَا فَاسْتَحَالَتْ حَالهَا وَغَاضَ مَاء جَمَالهَا وَانْطَفَأَتْ تِلْكَ اَلِابْتِسَامَات
اَلْعَذْبَة اَلَّتِي كَانَتْ لَا تُفَارِق ثَغْرهَا ثُمَّ سَقَطَتْ عَلَى فِرَاشهَا مَرِيضَة لَا تَبُلّ يَوْمًا
حَتَّى تَنْتَكِس أَيَّامًا فَرَاعَ أُمّهَا أَمَرَهَا وَوَرَدَ عَلَيْهَا مَا قَطَعَهَا عَنْ ذِكْر اَلْعُرْس
وَالْعَرُوس وَالْخُطْبَة وَالْخَطِيب وَكَانَتْ لَا تَزَال تَهْتِف بِذَلِكَ نَهَارهَا وَلَيْلهَا فَلَمْ تَدَع
طَبِيبًا وَلَا عَائِدًا إِلَّا فَزِعَتْ إِلَيْهِ أَمْرهَا فَمَا أُغْنِي اَلْعَائِد وَلَا اَلطَّبِيب
وَأَصْبَحَتْ اَلْفَتَاة تَدْنُو مِنْ اَلْقَبْر رُوَيْدًا رُوَيْدًا فَبَيِّنًا أَنَا سَاهِرَة بِجَانِب فِرَاشهَا
مُنْذُ لَيَالٍ إِذْ شَعَرَتْ بِهَا تَتَحَرَّك فِي مَضْجَعهَا فَدَنَوْت مِنْهَا فَأَشَارَتْ إِلَى أَنَّ آخِذ
بِيَدِهَا فَفَعَلَتْ فَاسْتَوَتْ جَالِسَة وَقَالَتْ فِي أَيّ سَاعَة نَحْنُ مِنْ اَللَّيْل قُلْت فِي اَلْهَزِيع
اَلْأَخِير مِنْهُ قَالَتْ أأنت وَحْدك هُنَا قَلَّتْ نِعَم فَقَدْ هَجَعَ أَهْل اَلْبَيْت جَمِيعًا قَالَتْ
أَلَّا تَعْلَمِينَ أَيْنَ مَكَان اِبْن عَمِّي اَلْآن فَعَجِبَتْ لِكَلِمَة لَمْ أَسْمَعهَا مِنْهَا قَبْل اَلْيَوْم
وَقُلْت بَلَى يَا سَيِّدِي أَعْلَم مَكَانه وَمَا كُنْت أَعْلَم شَيْئًا وَلَكِنِّي أَشْفَقْت عَلَى هَذَا
اَلْخَيْط اَلرَّقِيق اَلْبَاقِي فِي يَدهَا مِنْ اَلْأَمَل أَنْ يَنْقَطِع بِانْقِطَاعِهِ آخَر خَيْط مِنْ خُيُوط
أَجْلهَا فَقَالَتْ أَلَّا تَسْتَطِيعِينَ أَنْ تَحْمِلِي إِلَيْهِ رِسَالَة مِنِّي مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَم أَحَد
بِشَأْنِي قُلْت لَا أُحِبّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ يَا سَيِّدَتِي . .
فَأَشَارَتْ أَنَّ آيَتهَا بِمَحْبَرَتِهَا فَجِئْتهَا بِهَا فَكَتَبَتْ إِلَيْك هَذَا اَلْكِتَاب اَلَّذِي تَرَاهُ
فَلَمَّا أَصْبَحَ اَلصَّبَاح خَرَجَتْ أُسَائِل اَلنَّاس عَنْك فِي كُلّ مَكَان وَأَتَصَفَّح وَجَوّه الغادين
والرائحين عَلَنِي أَرَاك وَأَرَى مَنْ يَهْدِينِي إِلَيْك فَلَمْ أَظْفَر بِطَائِل حَتَّى اِنْحَدَرَتْ
اَلشَّمْس إِلَى مَغْرِبهَا فَعُدْت إِلَى اَلْمَنْزِل وَقَدْ مَضَى شَطْر مِنْ اَللَّيْل فَمَا بَلَغَتْهُ حَتَّى
سَمِعَتْ اَلنَّاعِيَة فَعَلِمَتْ أَنَّ اَلسَّهْم قَدْ بَلَّغَ اَلْمَقْتَل وَأَنَّ تِلْكَ اَلْوَرْدَة اَلنَّاضِرَة اَلَّتِي
كَانَتْ تَمْلَأ اَلدُّنْيَا جَمَالًا وَبَهَاء قَدْ سَقَطَتْ آخَر وَرَقَة مِنْ وَرَقَاتهَا فَحَزِنَتْ عَلَيْهَا
حُزْن الثاكل عَلَى وَحِيدهَا وَمَا رئي مِثْل يَوْمهَا يَوْم كَانَ أَكْثَر بَاكِيَة وَبَاكِيًا .
وَكَانَ أَكْبَر مَا أَهَمَّنِي مَا أَمَرَّهَا أَنَّ كُلّ مَا كَانَتْ تَرْجُوهُ فِي اَلسَّاعَة اَلْأَخِيرَة مِنْ
سَاعَات حَيَاتهَا أَنْ تَرَاك فَفَاتَهَا ذَلِكَ وَسَقَطَتْ دُون أُمْنِيَتهَا فَلَمْ أَزَلْ كَاتِمَة أَمْر
اَلرِّسَالَة فِي نَفَسِي وَلَمْ أَزَلْ أَتَطَلَّب اَلسَّبِيل إِلَيْك حَتَّى وَجَدْتُك فَشَكَرَتْ لَهَا صَنِيعهَا
وأذنتها بِالِانْصِرَافِ فَانْصَرَفَتْ فَمَا اِنْفَرَدَتْ بِنَفْسِي حَتَّى شَعَرَتْ أَنَّ سَحَابَة سَوْدَاء
تَهْبِط فَوْق عَيْنِي شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى أَحْتَجِب عَنْ نَاظِرَيْ كُلّ شَيْء ثُمَّ لَا أَعْلَم مَاذَا
تَمَّ بَعْد ذَلِكَ حَتَّى رَأَيْتُك .
وَمَا وَصَلَ مِنْ حَدِيثه إِلَى هَذَا اَلْحَدّ حَتَّى زفر زَفْرَة خِلْت أَنَّ كَبِده قَدْ وَأَنَّ
هَذِهِ أفلاذها فَدَنَوْت مِنْهُ وَقُلْت مَا بِك يَا سَيِّدِي قَالَ بِي أَنِّي أَطْلُب دَمْعَة وَاحِدَة
أَتَفَرَّج بِهَا مِمَّا أَنَا فِيهِ فَلَا أَجِدهَا .
ثُمَّ صَمَتَ سَاعَة طَوِيلَة فَشَعَرَتْ أَنَّهُ يُهِمّهُمْ بِبَعْض كَلِمَات فَأَصْغَيْت إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ يَقُول
:
اَللَّهُمَّ إِنَّك تَعْلَم أَنِّي غَرِيب فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَا سَنَد لِي فِيهَا وَلَا عَضُد وَأَنِّي فَقِير
لَا أُمَلِّك مِنْ مَتَاع اَلْحَيَاة مَا أَعُود بِة عَلَى نَفْسِي وَأَنِّي عَاجِز مستشعف لَا أُعَرِّف
اَلسَّبِيل إِلَى بَاب مِنْ أَبْوَاب اَلرِّزْق بِوَجْه وَلَا حِيلَة وَأَنَّ اَلضَّرْبَة اَلَّتِي أَصَابَتْ قَلْبِي
قَدْ سَحَقْته سَحْقًا فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ حَتَّى الذماء وَإِنِّي أستحييك أَنْ أَمُدّ يَدَيْ إِلَى هَذِهِ
اَلنَّفْس اَلَّتِي أَوْدَعَتْهَا بِيَدِك بَيْن جَنْبِي فَأَنْتَزِعهَا مِنْ مَكَانهَا وَأُلْقِي بِهَا فِي وَجْهك
سَاخِطًا نَاقِمًا فَتَوَلَّ أَنْتَ أَمَرَهَا بِيَدِك وَاسْتَرَدَّ وَدِيعَتك إِلَيْك وَانْقُلْهَا إِلَى دَار
كَرَامَتك فَنِعَم اَلدَّار دَارك وَنِعَم اَلْجِوَار جِوَارك .
ثُمَّ أَمَسّك رَأْسه بِيَدِهِ كَأَنَّمَا يُحَاوِل أَنْ يُحِسّهُ عَنْ اَلْفِرَار وَقَالَ بِصَوْت ضَعِيف خَافِت
أَشْعُر بِرَأْسِي يَحْتَرِق اِحْتِرَاقًا وَقَلْبِي يَذُوب ذَوَّبَا لَا أحسبني بَاقِيًا عَلَى هَذَا
فَهَلْ تَعِدنِي أَنْ تَدْفِننِي مَعَهَا فِي قَبْرهَا وَتَدْفِن مَعِي كُتَّابهَا إِنْ قَضَى اَللَّه فِي
قَضَاءَهُ قَلَتْ نَعَمْ وَأَسْأَل اَللَّه لَك اَلسَّلَامَة قَالَ اَلْآن أَمُوت طَيِّب اَلنَّفْس عَنْ كُلّ شَيْء
ثُمَّ اِنْتَفَضَ اِنْتِفَاضَة نَفْسه فِيهَا .
لَقَدْ هَوَّنَ وَجْدِيّ عَلَى ذَا اَلْبَائِس اَلْمِسْكِين أَنِّي اِسْتَطَعْت إِمْضَاء وَصِيته كَمَا أَرَادَ
فَسَعَيْت فِي دَفْنه مَعَ اِبْنَة عَمّه وَدُفِنَتْ مَعَهُ تِلْكَ اَلرِّسَالَة اَلَّتِي دَعَتْهُ فِيهَا أَنْ
يُوَافِيهَا فَعَجَزَ عَنْ أَنْ يُلَبِّي نِدَاءَهَا حَيًّا فَلَبَّاهَا مَيِّتًا .
وَهَكَذَا اِجْتَمَعَ تَحْت سَقْف وَاحِد ذانك اَلصَّدِيقَانِ اَلْوَفِيَّانِ اَللَّذَانِ ضَاقَ بِهِمَا فِي
حَيَاتهمَا فَضَاء اَلْقَصْر فَوَسِعَتْهُمَا بَعْد مَوْتهمَا حُفْرَة اَلْقَبْر .