العودة   منتديات الـــود > +:::::[ الأقسام الثقافية والأدبية ]:::::+ > منتدى القصص والروايات
موضوع مغلق
   
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-01-2009, 01:47 AM   رقم المشاركة : 1
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










6

خرجت لينا أخيرا ً، بعد اتصالين ودقائق انتظار، لم يكن مسموحا ً لي فيها استعمال جرس المنزل أو منبه السيارة حتى لا أوقظ والدها العجوز.

وضعت الأواني - التي عادت بها فارغة بعدما كانت متخمة في الصباح - في المقعد الخلفي، ثم ركبت:

- كيف كان يومك ِ؟ - بعدما تجاوزت الشارع المغبر، ورددت على سلامها -.

- آه... ممل، مع كل هؤلاء الأطفال، وكل هذه الضوضاء، وأكداس الأعمال المنزلية التي لم تنجز ووجدتها تنتظرني، أوف... كنت أنتظر اللحظة التي أغادر فيها المنزل.

- وكيف حال أمك؟ - بابتسامة مخبئة -.

- بخير... وتحملني سلاما ً لك.

- سلمك ِ الله وإياها.

- جاءت أختك ِ؟

- نعم... وجاءت ابنة عمي تهاني، بطنها بارز قليلا ً أظنها حامل.

- ألم تسأليها؟

- لا... لن تخبرني، هي من النوع المتكتم جدا ً.

- اها.

* * *

(( وكان ابن دهيش قد نزل البطين، الماء المعروف بالريلية برجال معه، فلما جاء الخبر إلى صالح بن علي، جمع أخوانه وأبناء عمه وخرج إليهم، فحصل بينهم قتال شديد، وقتل فيه ابن دهيش، رماه سليمان بن يحيى، فولوا منهزمين وأخذ سلاحهم وخيولهم))


من أخبار الجد ( صالح بن علي) التي وردت في مخطوط ( عبد الرحمن بن عثمان)

* * *

حللت الرباط عن ملفي إياه بسرعة كادت تنزعه من مكانه، ونثرت أوراقه المتزاحمة على سطح مكتبي فيما عدا خطة العمل التي أبقيتها في يدي، وتأملتها برضا وحنان قبل أن أمزقها إلى قطع صغيرة.

كانت قد استوفت أهدافها أخيرا ً، وصارت تلك الخطة التي بدأت صغيرة وبثلاثة أسطر، غابة من المراحل والسطور المتداخلة والمتفرعة، التي مضيت فيها رغم كل شيء.

والآن وأنا أتأمل الكومة غير المنتظمة من المزق، أستعيد كيف كانت يوما ً ما أهم ورقة في هذا الملف، وكيف توالدت منها كل هذه الأوراق التي تضم نظرية شبه مكتملة للكتابة التاريخية، اضطررت لبنائها ليأتي هذا الكتاب كما أريده أن يكون – كنت قد فكرت أن لا أدع هذا الجهد يتبدد، وذلك بأن أصدر الكتاب بشرح مفصل للنظرية، ولكني تراجعت عن هذا بسرعة، فغير ما قد يوحى هذا به من تعالي وذاتية شديدة في كتاب يفترض به أن يخصص للجد، ستلتهم هذه النظرية ثلث صفحات الكتاب، وستزيد من حجمه، وستمنح بعض الألسن مساحة للغو لا أريدها -، كما تضم أوراقي بضع ملاحظات هامة ومركزة عن الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية لذلك العصر – الذي لم تكن القراءة عنه، بكل تلك التفاصيل التي تعج بالمعارك، والدسائس، والأوبئة، سهلة ميسرة -، وأخيرا ً أوراق يغلب بياضها سوادها عن الجد، ما أعرفه عنه حتى الآن سماعا ً، أو قراءة من هنا أو هناك، وهذه الأوراق هي ما سيتصدر الآن الملف، وسيكون جهدي في الأيام القادمة ملئها وتخطيطها بمحطات حياة الجد الأساسية، صفاته، أفعاله، أقواله، قصائده.

في هذه اللحظة ستبدأ رحلتي التي أعددت لها جيدا ً لاكتشاف الجد، سأكون بنظرياتي وأوراقي المخربشة أول ابن من أبنائه يقترب منه إلى هذا الحد منذ تلك الليلة التي خط فيها ( عبد الرحمن بن عثمان) العبارة الختامية لكتابه ( تم بحول الله وقوته في ثلاث ليال بقين من شوال في عام خمس عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية الشريفة)، واتكئ براحة إلى الجدار الطيني لبيته في الريلية.

تنهدت بعمق عندما تخيلت هذا الاقتراب، وجمعت في يدي أجزاء الورقة الممزقة ورميتها في سلة المهملات، كان هذا يشير إلى عادة أفلحت في التخلص منها مؤخرا ً، عندما فاضت الملفات عندي بأكداس الأوراق التي انتهت حاجتي لها ولكني مازلت أحتفظ بها، ربما لأنه كان لدي وهم أو حلم غريب بأن هناك من سيقلب أوراقي يوما ً ما بعدما أموت، ربما ابن، ابنة، حفيد، أو حتى إنسان غريب لا يعرفني، ولكنه سيعرفني حتما ً بين كل هذه الأوراق، كنت أتخيله بملامح غائمة، وهو يقلب الأوراق المجعدة أو المصفرة، يتتبع الخطوط، يدون ملاحظاته هنا وهناك، يتساءل عني، بم َ كنت أفكر عندما كتبت هذه الورقة أو تلك؟ يضع نظريات يحاول أن يفسر بها ما خفي من سلوكي، وما يختفي وراء حروفي، ولكني تخليت عن هذا الحلم ذات ليلة، وفي الضوء الخافت المتسلل من الرواق، مررت على كل الأوراق الغافية بوداعة وانتزعتها من رقدتها لأكومها بلا تردد في سلة المهملات، عددها الكبير منعني من تمزيقها بقبضتين متقاطعتين، وبدا لي تمزيقها على مجموعات بلا أي إثارة، فاكتفيت بحشرها في السلة الصغيرة، في الصباح بدت لي الملفات التي فقدت انتفاخها إثر هجمة المساء كئيبة الملامح، بل إن بعضها بدت غير معتادة على كل تلك الرشاقة التي جاءت بلا انتظار، فلذا حافظت على انتفاخها الكاذب، ولكن هذا كله لم يجعلني أتراجع عن قراري، فمضت تلك الأوراق إلى مصيرها البائس.

قلبت أوراق الجد – سيكون هذا اسمها من اليوم، أي ورقة تنتظم شيئا ً من سيرته، ستسمى باسمه – وأنا أضع هنا أو هناك ملاحظات عن الكيفية التي سأتعامل فيها مع النصوص التي ستدور منذ اليوم حوله، كيف سأتأكد منها؟ - ففي النهاية لا أرغب بأن يأتي كتابي كمجموعة متنافرة من الأخبار والروايات غير المحققة -، كيف سأرتبها؟ وكيف سأكون من هذا كله مزيجا ً متماسكا ً يصلح كسيرة افتراضية للجد – بما أني سأفترض الكثير لسد الثغرات هنا وهناك -.

* * *

كان لا يزال واقفا ً وسط الجسر، يتأمل بذراعين معقودتين الماء المدوم في النهر.

- مساء الخير – وأنا أقترب -.

- مساء النور، مع أن ضياء الشمس هنا يقول لي أن بيننا وبين المساء أمدا ً بعيدا ً.

- ههههههههههههه، أوه... لا تؤاخذني، أنا أعمل بتوقيتي أنا، وهو مسائي باقتدار.

حط صمت ثقيل بيننا، شتته هو عندما تحرك مبتعدا ً:

- هل فكرت بالموضوع؟

- آ... لا... للأسف، كان يوما ً طويلا ً، لم أحظ فيه بصفاء ذهن يكفي.

- اممممممم.

- اسمع... أنا وعدتك بالتفكير في الموضوع بعمق، فلذا لا تتعجل جوابي، لأنه إن جاء سريعا ً فلن يجيء كما تشتهي.

- أنا فقط أستغرب هذا التردد، ما الذي تخشاه بالضبط؟

- لا شيء محدد، ومن هنا تبدأ المشكلة، أنا لم أصل حتى الآن لفهم وتصور لوضعنا معا ً، هنا، فكيف إذا صرت ترافقني طوال اليوم من لحظته الأولى وحتى نهايته التي لا أدري متى تأتي !!!

- وما الذي تخشاه من مرافقتي لك طوال اليوم؟ ففي النهاية أنا لست إلا جزء ً منك.

- صحيح، ولكنك جزء مخبئ، ومخبئ جيدا ً، حتى أنك انتظرت كل هذه السنوات لتفاجئني وتبرز لي من بين السطور، أنا لا أدري من أنت بالضبط؟ لا أدري أي ( أنا) أنت !!! هل هي ( أنا) أحبها؟ أم ( أنا) أخشاها وأتركها فقط تتسلل بين السطور حتى لا تموت أو تشيخ، فلذا أحتاج إلى أن أفكر، وأن أفكر جيدا ً، عندما أقرر بأن هذه الـ ( أنا) ستكون رفيقتي طيلة اليوم.

- هل يبدو لك هذا مخبئ ً !!! – وهو يفتح يديه باتساعهما -، لقد اختلقت لي جبلا ً وغابة ونهرا ً ووقتا ً نلتقي به، أنا لم أعد مخبئ ً يا صاحبي، أنا موجود، وأنت لا تفعل في يومك شيئا ً سوى إدارة وجهك بعيدا ً عني وتجاهلي، وما أطلبه منك الآن، أن تتوقف عن هذا، وأن تتقبل وجودي.

سكت قليلا ً، ثم أكمل بلهجة أخف:

- اسمع... أنا أعرف أنني لم أكن ومنذ البداية إلا إزعاجا ً وهما ً متواصلا ً لك، وأنك ربما تفكر الآن بهل أخرجه من هنا ليسمم بقية يومي، ولكني أؤكد لك الآن بأنني لست بهذا المزاج النكد دوما ً، وأنني سأكون أفضل بكثير حالما أتخلص من هذا السجن الورقي، وأعيش معك يومك، أحاورك، أفكر معك، ومن يدري ربما أمازحك في الأوقات التي تحتاج فيها إلى الضحك، صدقني يمكن للحديث معي أن يكون ممتعا ً.

- حسنا ً... أعدك بأني سأفكر بهذا جيدا ً الليلة، وسأعود لك بجواب أكيد في المرة القادمة، والآن لنتحدث في أمر آخر، دعني أختبر هذا الحديث الممتع الذي تدعيه.

- حسنا ً... اختر ما شئت – ولوح بيديه بعدم رضا واضح -.

كنا قد وصلنا نهاية الجسر من الجهة الأخرى، وبدا أنه يفكر بالعودة، ولكني استمررت في اتجاهي ونزلت عن الجسر الخشبي إلى الأرض الترابية، حيث كان درب ممتد يخترق الغابة بالتفافة ساحرة – المكان جميل جدا ً، رغم انتقاداته في المرة الماضية -.

- طبيعة بكر... ها !!! كما يقول الكتاب عادة – قال بعدما عبرت إليه فكرتي عن جمال المكان -.

- نعم.

- ههههههههههههه، هذا يدل على أنهم هم فاشلون أيضا ً في الطبيعة، فالطبيعة البكر التي يتغنون بها ترفضهم، كل ما فيها يرفضهم، حشراتها، هوامها، أغصانها النافرة والمليئة بالشوك، حيواناتها التي لم يخضعها الإنسان، ما يستمتعون به عادة، طبيعة مشذبة، طبيعة تم إخضاعها بالمبيدات، بالتنسيق، وبالسياج الذي يبقي كل شيء بعيدا ً، فلذا ( الطبيعة البكر) ليست إلا تعبير مثير، ولا يمكن ملامستها حقا ً إلا بالتخلي عن قرون من المعرفة، ومن الهشاشة.

- هههههههههههههههه.

- ما الذي يضحكك؟

- تبدو لي بحماسك هذا كخطيب جمعة، هههههههههههههه، أتدري؟ ربما كان هذا هو الدور الذي كنت سأعطيك إياه في قصتي التي أفسدتها بثورتك.

- أنت من يجعلني كذلك، بعباراتك المنتقاة، تحدث... ثرثر قليلا ً، لا يمكن للحديث أن يكون ممتعا ً إذا جاء موزونا ً.

- أنا لا أنتقي عباراتي، اممممممممممم، أو لأقل - حتى أكون دقيقا ً - بأني توقفت عن الشعور بذلك، مر زمن طويل منذ كنت أتحدث على سجيتي، منذ كنت أتكلم بلا مسودة في روحي، فتأتي الكلمات طرية، سهلة التشكيل.

- وما الذي تغير؟

- صرت أعرف أكثر، فصار علي أن أسكت أكثر، هل تعرف ما الفارق بين الصمت والسكوت؟ تصمت عندما لا تجد ما تقوله، ولكنك تسكت عندما لا تحب ما يجب أن تقوله.

عادت لحظات الصمت الثقيلة، عندما انشغل فهد بملامسة أوراق عريضة لشجرة عتيقة تكاد تعترض الدرب، وتمنحه انحناءة جميلة:

- هل تعرف ما نوعها؟ – وهو يشير للشجرة برأسه –.

- لا.

- هذه من الأشياء التي تنبهت إلى جهلي بها مؤخرا ً عندما بدأت بكتابة القصص – أكملت عندما عاد لصمته -، وهو مشروع أشكر لك إفساده علي – ابتسم وأفلت الورقة -، يمكنني الحديث عن الكثير من الأفكار والأشياء، ولكن عندما يأتي دور الوصف، أجدني عاجز عن تحديد نوع الأشجار التي تزين طريقا ً شق في حكايتي، أو الأخشاب التي صنع منها مكتب اختلقته، أو الألحان التي يرددها بطلي وهو يسير إلى نهايته، تلك التفاصيل التي تجدها بيسر في مؤلفات الآخرين، فالبطل يمشي في ظلال أشجار الأكاسيا، ويكتب على مكتب من خشب الماهوجني، والبطلة تستمع إلى ياني أو تومي لي، حسنا ً... ماذا عن بطلي أنا؟ أي شجرة ستظله؟ إن اعتمدت على معارفي فلن يحظى إلا بنخل أو أثل، فكرت بأن هذا نقص لابد من تداركه، فبدأت في تجميع أسماء الأشجار، الورود، الأخشاب، المشروبات، المأكولات، فمن المعيب أن يذهب بطلي إلى مطعم ويطلب أوصال لحم أو بيتزا، لابد أن يطلب باستا، أو فيليه، حتى جاء اليوم الذي توقفت فيه، كانت القوائم التي ربت بين يدي مجرد أسماء لأشياء خارج حواسي، أشياء لم أجربها، لم أذقها، لم أستظل يوما ً بشجرة أكاسيا، ولا أدري كيف سيكون ذاك الشعور، لم أذق البلودي ميري، ولم أتناول البيوريه، فلذا عندما أكتب عن هذه الأشياء وأضعها في حكاياتي، هل كنت فقط أستجيب للرغبة بالظهور بمظهر العارف لما يعرفه الآخرون؟ أرعبتني طفولية الفكرة، ثم جرتني إلى سؤال خبيث، هل جرب الكتاب كل ما هو موجود في كتبهم؟ بدا لي هذا مروعا ً، كل الأشياء التي تحدثوا عنها، كل الأشياء التي أوهمونا بأنهم عايشوها، هل هي مجرد خدعة جماعية تواطؤا عليها؟ وهذا لا يشمل فقط أسماء لأشياء أو توصيف لتجارب، وإنما يمكن أن ندرج فيه أيضا ً، أفكارا ً أساسية ومهمة في الحياة، صار هناك تساؤل كبير يؤرقني، الأدب، القصة، الرواية، القصيدة، كلها مبنية على الاختلاق الفني والأدبي، هذا جزء كبير من فتنتها وجمالها، ولكن ما حجم هذا الاختلاق؟!! أين يبدأ؟ أين ينتهي؟ هل يحق للكاتب اختلاق مشاعر لم يعشها حقيقة، كالحب، الألم، الحزن، لنتفق هنا أولا ً... نعم، جزء من عظمة الكاتب أو الشاعر قدرته على الاختلاق، فلذا من حق الأديب أو المبدع أن يختلق أشياء غير حقيقية أو غير موجودة، وأن يوظفها لصالحه، ولصالح فنه، فالأدب ليس علما ً، بالمعنى الحديث لكلمة علم، إذن أين المشكلة؟ المشكلة بنا نحن، عندما لا ندرك هذا، وعندما نسمح لقصة أو قصيدة بأن تشكل حياتنا وقناعاتنا حول الأشياء من حولنا، تلك السهولة التي نتلقف فيها بيتا ً أو مثلا ً ونصيره شعارا ً لنا في الحياة، من دون أن ندرك أن الأدب لا يفترض به أن يمنحنا الأجوبة عن الحياة، بقدر ما يستثير فينا الأسئلة عنها، عندما يقول أبو تمام مثلا ً ( نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول ِ)، يمكننا أن نتذوق كل الأفكار والمشاعر التي يستثيرها بيت رائع كهذا عن الحب، وعن المشاعر الأولى التي لا تزول، ولكننا سنكون مخطئين تماما ً إن تركنا هذا البيت يستولي علينا، ويمنعنا من الحب من جديد، يمنعنا من التساؤل ما الذي يجعل الحب الأول حبا ً غير منسي؟ هل هي الذكريات؟ هل هو الحنين للماضي؟ من هنا يمكننا أن نجد الطريق الذي يجعلنا نشعر بلحظتنا الحالية، ونتخلص من إسار مشاعرنا القديمة، لنبدأ مشاعر جديدة.

- أظن أني ابتعدت عن الفكرة الأساسية – أكملت بعد صمت لحظات -، وهي أنني قررت أن لا أكتب إلا انطلاقا ً من تجاربي أنا، ومعارفي أنا، وهذا يجعل من أبطالي يأكلون مما آكل، ويشربون مما أشرب، ويزورون المدن التي أزورها، وقد سمعت أن أحد الأدباء كتب رواية كاملة، تدور أحداثها في مدينة لم يزرها في حياته، بل إن هناك من الأدباء من يختلقون مدنا ً غير موجودة، يرسمون طرقها وميادينها في خيالهم، ولا يمكن لأحد لومهم، فما يكتبونه رواية، وليس كتابا ً علميا ً، تخضع الحقائق فيه للتمحيص والتدقيق، لم َ إذن اتخذت هذا القرار؟ لأني أرغب بأن أودع نفسي كما هي بين السطور، لا أريد زخرفتها، لا أرغب بتلميعها، أهم قارئ لي هو أنا، ولا أريد أن أفقد اهتمام واحترام هذا القارئ الثمين، أريد أن استمتع بالكتابة، ومن ثم أن استمتع بقراءة ما كتبته من حين إلى حين، وعندما أقرأ أشياء في نصي لا أعرفها، ولم أجربها، أعرف بأن خطرة ساخرة ستمر في كياني، هذه الخطرة هي ما أفر منه، فهي ليست ما يقوم به بعض الكتاب من السخرية من أنفسهم، لا... تلك سخرية ظاهرية، مملوءة بتبجيل داخلي، أنا أخشى السخرية التي لا تبجلني، السخرية التي تقول لي فيها نفسي، ما هذه السخافة التي كتبت؟ يمكنك أن تخدع ألف قارئ، ولكنك لن تخدعني، أذكر أني كتبت ذات يوم – تحت التأثير المباشر لفيلم ( العراب) - قصة قصيرة، عن عائلة سعودية ضخمة، ممتدة، بأب كهل حرصت على أن أحشد له كل تلك القوة والإثارة التي أحاطت بشخصية فيتو كارليون، عندما انتصفت القصة، شعرت بسخافة ما أقوم به، ظهور شخصية بكل تلك المميزات تستدعي ظروفا ً معينة، لم أستطع توفيرها في حكايتي، كان علي حتى أحصل على قوة كبيرة تعمل بقوانينها الخاصة أن أعود بالزمن قرنا ً، وأن أختار للكهل قبيلة أو عشيرة يقودها، ولكن هذا سيفقدني أناقة الشخصية والعصر، لذا ودعت عندها بطلي، وتركته هائما ً في خيالي، نصف حكاية منسية بين أوراقي، كما ترى مصيرك خير من مصيره، وربما... في يوم ما، أتنازل عن نصف مواصفاتي، واستكمل حكايته كما يمكن أن تكون، لا كما أشتهيها أن تكون.










قديم 23-01-2009, 01:48 AM   رقم المشاركة : 2
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










7

اجتماع جديد، ولكنه حاشد هذه المرة، بحيث وجدنا أنفسنا محشورين حول طاولة الاجتماعات التي التف حولها رؤساء الأقسام، وموظفي الإدارة – بالطبع من لم يحتل منهم بحيلة يشتري بها صباحه -.

كان هذا اجتماعا ً تربويا ً – التسمية من سليمان طبعا ً، رغم أنها لا تحتوي، ويا للغرابة على شتائم – من الاجتماعات التي يعقدها ( أبو نايف) كلما شعر بأن الأوضاع تأزمت في الإدارة، وأن الصراع بين رؤساء الأقسام ومن ورائهم الموظفين صار علنيا ً.

وهذه الاجتماعات مملة بما لا يقاس، بحيث أن البعض يفر من الإدارة بأي حجة في اليوم الذي تعقد فيه، فغير أسلوب ( أبو نايف) الرتيب، وطريقته المتلكئة في الحديث، المليئة بـ ( صالح العمل)، و( روح الفريق)، و( التعاون المثمر)، كانت حقيقة أن ( أبو نايف) لم يصل إلى مركزه هذا إلا عن طريق ترشيح رؤساء الأقسام له كبديل هزلي للمدير السابق – الصارم وسيء الذكر – حاتم، تجعل رؤساء الأقسام يتقبلون كلماته بصمت لا مكترث، ويخرجون من عنده ليواصلوا مخططاتهم وأساليبهم في العمل – غير المثمر لسوء حظ ( أبو نايف) -.

كنت أميد نعاسا ً والاجتماع التربوي لا يزال في بدايته، وسليمان إلى جواري ينخسني في جنبي كلما قال ( أبو نايف) كلمة تدعو للسخرية، وكانت أفكاري تروح وتجيء، بحيث ألتقط جملة وسط عشرات أخرى تبدو لي كهمهمة بلا معنى.

( .......... وهذا ليس صعبا ً يا إخوان، صدقوني أنه ليس صعب .......... هم هم هم هم هم هم .......... بالتعاون المثمر والجهد البناء – نخسة من سليمان - .......... هم هم هم هم هم .......... أظن أننا كلنا مخلصون لعملنا، وهي أمانة يا إخوان، أليس كذلك؟ .......... هم هم هم هم – نخسة أخرى من سليمان، ماذا قال؟ - .......... وأنا أولكم، كلنا مقصرون، والتقصير من شيم الإنسان – نخسة قوية مع ابتسامة جانبية هذه المرة - .......... أتمنى يا إخوان أن تفكروا بهذا جيدا ً، وأن تتذكروا دائما ً أنكم مؤتمنون في أعمالكم، وعلى كل منكم أن لا يفكر بما هو صالحه، وإنما بما هو صالح العمل، ومعا ً يمكننا أن نبني مستقبلا ً أجمل لهذه الإدارة... خخخخخ – ضحكة أنفية من سليمان بالكاد حولها إلى عطسة وهمية -)

* * *

انتهى الاجتماع التربوي فعدت إلى مكتبي لأصنع كوبا ً من الشاي وأتفرغ للأوراق المتراكمة.

كنت بين ورقتين ورشفة عندما دخل صلاح – المسئول عن متابعة المشاريع - المكتب، واقترب بطريقته الهادئة:

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

- أتسمح أن آخذ القليل من وقتك؟

- تفضل – بملل وأنا أشير له بأن يجلس -.

- المشاريع التي تخصك يا أستاذي الكريم – وهو يقلب أوراقه المليئة بالجداول والرسوم البيانية -، مشروع المالية، لم تحدث خطته حتى الآن وآخر خطة أرسلتها لي مر عليها أسبوعين.

- لأنه لا يوجد جديد، المشروع الآن في مرحلة التطبيق، وأعمالنا في هذه الفترة تتلخص في استقبال ملاحظات المستخدمين، وحل مشاكلهم.

- يعني الخطة كما هي ولم يتغير فيها شيء.

- نعم.

- و... – سقطت ورقة فنهض من الكرسي ليحضرها، ولكنها نفذت إلى أسفل مكتبي، فالتقطتها وأعدتها إليه – مشروع ( التنظيم الإداري)؟

- هذا مشروع جديد ولم نضع له خطة بعد.

- متى ستضعونها؟

- بعدين – كانت هذه من سليمان الذي دخل المكتب قبل قليل -.

- ولكن أي مشروع جديد لابد أن تسلم خطة مبدئية له خلال أسبوع.

- نحن مشغولون الآن يا صلاح – استمر سليمان بأسلوبه الجاف فيما تراجعت أنا في مقعدي، وتركت لهما الساحة -، فلذا ليس لدينا الوقت لخطة مبدئية أو نهائية.

- ولكن يا أستاذ سليمان، نحن نرفع في نهاية كل أسبوع لمدير الإدارة، قائمة بالمشاريع وخططها، حتى يمكنه متابعتها، والأسبوع الماضي كان المدير يسأل عن خطة مشروعكم.

- مشروعنا لم يبدأ حتى الآن، لم نستلمه إلا الأسبوع الماضي، وإذا سأل المدير عن الخطة قل له هذا.

- هناك خطة عامة يا أستاذ سليمان للمشاريع، وضعتها أنا في الملف الرئيسي على الشبكة باسم (Master Project)، تتضمن كل الخطوات التي تتبعها المشاريع عادة، من التحليل وجمع البيانات، إلى التنفيذ، إلى الاختبار والتدريب، يمكنكم استخدامها مع إضافة التاريخ فقط لكل مرحلة.

- طيب... سنطلع عليها إن شاء الله.

- هناك أيضا ً – وعاد إلى أوراقه، فأشار لي سليمان إشارة متململة وخرج من المكتب -، مشروع المستودعات.

- مشروع المستودعات خطته جاهزة – عدت للحديث -، وأرسلتها لزيد ليعدل عليها، وحالما يعيدها لي سأرسلها لك بإذن الله.

- يعطيك العافية – قلب بين أوراقه، ولما لم يجد شيئا ً يضيفه، ودعني وانصرف -.

عدت إلى كوبي – الذي صار فاترا ً الآن –، وبعد لحظات دخل سليمان وهو يبتسم:

- أعانك الله يا عبد الله – زميل لنا في الغرفة المجاورة، يبدو أن قد صلاح وصل إليه – على ثقيل الدم هذا.

- وما يضرك أنت !!! أنا من يعاني من أسئلته في كل مرة.

- ههههههههههههههههه، ذق قليلا ً مما ذقته أنا لسنوات، بل بالعكس أسئلته الآن لا شيء مقارنة بتلك الأسئلة وذلك الإلحاح في أيام حاتم، عندما كانت متابعة المشاريع في عزها، وكان تأخير الخطة يعني أن يتصل بك حاتم بنفسه، هل اتصل بك ( أبو نايف) ولو لمرة واحدة يسألك عن شيء ما؟

سكت وعدت لأوراقي حتى لا يعيد سليمان ككل مرة روايته حول عهد المدير السابق حاتم، والمحملة كالعادة بكم من الكلاب والثياب.

لم يكن ذكر حاتم هذا سيئا ً – لا أعرفه، ولم ألتق به أبدا ً، وإن كنت قد رأيت صورة غائمة لملامحه، التقطها أحد الزملاء بكاميرا جواله في أحد الاجتماعات الأخيرة قبل انتقاله – عند سليمان فقط، بل وجدت الجميع هنا، من ماجد – الذي لا يشتم إلا عند الضرورة -، إلى عبد الله – الطيب، المتدين والذي كان يشفع انتقاداته لصرامة حاتم وتشدده بعبارة ( الله يذكره بالخير) -، وإلى زيد – والذي تجاوز كل كلماته الأنيقة والحذرة، ووافق الجميع على أن حاتم كان ( علة باطنية) -.

كان حاتم حسب ما نقل لي، صارما ً ومدققا ً في المشاريع التي تتولاها إدارته، وحسب ما فهمته كانت لديه تلك الرغبة المجنونة في تتبع التفاصيل، والقدرة الغريبة على تذكرها لاحقا ً والمحاسبة عليها، وكان الموظفون ورؤسائهم معرضين في أي لحظة إلى الاتصال الرهيب من سكرتير حاتم الشهير – والذي رحل معه إلى الإدارة الرئيسية -، ليحدد لهم موعدا ً لاجتماع مفاجئ – غير الاجتماعات الاعتيادية الأسبوعية -، وكان هذا الاجتماع يعني أسئلة متتالية، يجيب عليها الموظف متوجسا ً، ليكتشف في النهاية أنها تقوده إلى ثغرة أو خطأ في تنفيذ المشروع، اكتشفه حاتم في إحدى تأملاته، وكان هذا يقود إلى تعديل في الخطط، وربما إعادة تنفيذ بعض الأعمال، ويعني عملا ً إضافيا ً بالكاد يرضي تطلب وتصلب حاتم.

الحسنة الوحيدة – كما يقول سليمان، ففي النهاية للكلاب حسنات – هي أن قوة حاتم كمدير للإدارة، حجمت رؤساء الأقسام في عهده، ولم يصبحوا فراعنة كما هم الآن – والوصف لازال لسليمان -، في ظل الضعف الواضح، والطيبة الشديدة لأبي نايف.

وكان الجميع يشيرون للتدليل على قوة حاتم وتعقيده الشديد إلى أن أغلب الأنظمة – كالاجتماعات الدورية، ومتابعة المشاريع، وعرض مشاريع الإدارة السنوي، وإنشاء ملف رئيسي للأنظمة والإجراءات على الشبكة الداخلية كمرجع للجميع ( الذي ذكره صلاح، ووضع عليه ملفه (Master Project)) – كلها صيغت في عهده، وظلت بعد رحيله ولكن كطقوس متبعة فقط، من دون ذلك الاهتمام الكبير.

وتحت تأثير كل هذه الأحاديث عنه صغت مزحة – توقفت عنها فيما بعد عندما سخر منها سليمان -، أقول فيها بأني من مواليد ما بعد الكارثة الحاتمية.

* * *

(( ثم إن صالح بن علي سار إلى المدحمية، وأميرها عبد الله الذي يقال له المدحمي، فلما أقبلوا عليها خرج عليهم الكمين، فتقاتلوا وانهزم المدحمي بمن معه إلى القصر وتحصنوا فيه، فسار صالح بن علي إلى النخل والزرع فدمره وانقلبوا راجعين))


من أخبار الجد ( صالح بن علي) التي وردت في مخطوط ( عبد الرحمن بن عثمان)

* * *

أوراق الجد المتوالدة صارت الآن تغطي كل المساحة الصغيرة لسطح مكتبي، تندس بين الكتب، تعتلي الملفات المضمومة، وصارت كل ورقة منها تحمل رقما ً صغيرا ً يميزها عن الأخريات.

كنت أدور بين الأوراق، أضيف لإحداها سطرا ً، وأشطب من أخرى سطورا ً لازالت تحتفظ برائحة الحبر، وأملأ ثالثة بعلامات استفهام وأسئلة صغيرة تلوذ بزاوية الورقة، ثم أغادر الأوراق لأغوص في المخطوطة وأعلق بين حروفها المتشابكة، والتي أنقلها حالما تفقد تشابكها إلى صفحة من الصفحات البيضاء، ثم أترك هذا كله وأقفز من كرسيي لأقلب في موسوعة ( المعارك والغارات النجدية) والتي تعيدني مرة أخرى إلى ورقة لأشطبها أو أضيف إليها أو أحشر بين سطورها الوادعة استفهاما ً مقلقا ً.

كانت الأحداث تنثال بين يدي ككومة من الرمال الناعمة، كلما انفردت بالمخطوطة، ولكنها ما تلبث أن تتشتت لتصير غبارا ً حالما أقلب كتابا ً آخر، حتى صارت بعض أحداث حياة الجد مختلطة، لا يمكن الجزم حولها بشيء.

* * *

كان في الليل بقية لم تتداعى، عندما ضممت أوراقي، وغادرت مكتبي.

بعد طقوس ما قبل النوم المختصرة، استلقيت في الفراش، كانت لينا توليني ظهرها، ولكني كنت أعرف أنها لم تنم بعد، كانت هناك إشارات ظلت تبثها طيلة اليوم، إشارات تقول أن ليلها لن يكتمل ولن ينتهي من دوني، آخرها هذه الرائحة العطرية الغامضة – فضلت الإبقاء على غموضها، بأن لا اسأل من أين تأتي - التي طوقت الغرفة، والتي ترتبط في ذهني بأمثال هذه الليالي.

مغمضة العينين، تنتظر.

وأعرف – كميثاق غير مكتوب - أني من يجب أن يخطو الخطوة الأولى.

لا يهم من كان يرسل إشاراته طيلة اليوم، لا يهم من كان يرغب بهذا ومن كان يعد له، عندما يأتي دور الخطوة الأولى كانت لينا تنتظر، وبصبر عجيب.

ستفتح عينيها عندما أقترب كأنها فوجئت، وكأني استللتها من حلم جميل، ولكنها ستستجيب بلا لحظة تردد.

كنت لا أتساءل في أيامنا الأولى، عن كنه استسلامها، لا أتساءل أين تبدأ الرغبة عندها، ولا أين تنتهي؟ كنت أقدر أن خجلها وحياءها يحول الأمر كله إلى واجب ثقيل.

حتى جاء اليوم الذي تساءلت فيه، هل لازال الأمر في حسابها واجبا ً؟

وكان علي أن أكون خبيثا ً حتى أحصل على إجاباتي، كان علي أن أمنحها جزءا ً، وأتركها تفتش عن الأجزاء الأخرى بنفسها، ومترددة فعلت، وأرضاني هذا قليلا ً.

هذا كله يتم في صمت عميق، لا يبدده إلا صرير السرير الخافت، أو أنفاسنا المتسارعة، لم نكن نتحدث عن هذه النشاطات الليلية أبدا ً في النهار، بل لم نكن نتحدث عنها حتى في لحظاتها المديدة.

ولذا كان علي أن أتحسس ما تريده وما لا تريده في ظلام وصمت، وكان علي أن أنمي خبراتي ببطء، وبلا إجابات أكيدة.

انفصلنا الآن.

تتداعى أشياء كثيرة في داخلي في هذه اللحظة، يدهمني دوار وحزن رهيب لا أفهمه، وأنا أزحف إلى الطرف الآخر من الفراش، فيما ترتجف هي، أو تبكي أحيانا ً.

أغمض عيني وأترك نفسي لأمواجها المروعة.

أسئلة بلا إجابات.

هل هذا ما أريده؟ هل هذا ما أردته؟ ومن أين يأتي هذا الحزن؟

في كل مرة أصطاد فيها الرغبة في غروبها، أتساءل عن كنه هذا الشيء الذي يمنح الجسد مذاقا ً لا يدوم، مذاقا ً لحظيا ً، سرعان ما أفقده، سرعان ما يفلت مني، ويتركني مشتت الروح، مفكك البدن.

وصرت أتساءل كيف يمكنني تمديد اللذة وتأجيل الحزن؟ كيف يمكنني إطالة اللحظات التي أفقد فيها ذاتي، وأغوص في الفراغ المخيف؟

ولكن الصمت لا يمنحني الأجوبة.

لا يمكنني فهم جسد صامت، لا تنطق لي أعضاءه بما تريد إلا لماما ً، لا تمنحني إلا شذرات مما تريد، إشارات ربما أخطئ في فهمها أحيانا ً، وربما لا أنتبه لها أحيانا ً أخرى.

نهضت الآن – مما تعلمته أن لينا لن تنهض قبلي مهما حدث، ستبقى هكذا مدثرة بخجلها وصمتها، حتى أغادر الغرفة، وعندما أعود بعد دقائق، سيصير ما حدث قبل قليل فجوة زمنية سقطت منا، لها ما قبلها ولها ما بعدها، ولكن لا وجود لها، سنستلقي قليلا ً، ربما نتحدث في مواضيع مختلفة من هنا وهناك، وربما نواصل الصمت، حتى يأتي المنام، ويمنحنا الخلاص من السير في الظلال -.

فارقني الدوار تحت دفق الماء الدافئ.

استعدت بعض أعضائي.

وعندما عدت إلى الغرفة، كان الظلام مخيما ً، والفراش خاليا ً، وبرأس لازال يحتفظ برطوبته، وجدت سبيلي إلى النوم مهيئا ً.










قديم 23-01-2009, 01:49 AM   رقم المشاركة : 3
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










8

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

- جاء سليمان؟

- لا... أخذ اليوم إجازة مرضية.

- طيب... تعال لي إذا تكرمت.

كان هذا ناصر، وكان هذا يعني أن الصباح فقد جماله البسيط.

عندما دخلت مكتبه، كان في ذات الفوضى التي تميزه، مخاضة من الأوراق على المكتب، والمقاعد، وعلى الأرض من خلفه، أوراق صفراء تتشبث بالكاد بشاشة كمبيوتره، هاتفه الجوال يرن، ويومض مدفونا ً تحت أحد الملفات فوق المكتب، فيما هو مشغول بمكالمة على هاتفه الثابت.

من دون حتى أن يشير لي، جلست على مقعد نجا من هجمة الأوراق، لأني أعرف أن انتظاري سيطول.

أنهى مكالمته، وبحث عن جواله، ومن ثم انصرف ليتم عملا ً ما كان قد بدأه على جهازه، هذا عندما عاد جواله للرنين، فتناوله وهو لا يزال يحدق في شاشته، وقال لمن يكلمه على الطرف الآخر ( هلا... عبد الرحمن، سأتصل بك بعد قليل)، تحركت أصابعه برشاقة على لوحة المفاتيح حالما تخلص من الجوال، وتناول ورقة يبدو أنه كان يحدق بها ليتأكد من شيء ما، ومن ثم عادت أصابعه إلى رقصتها الناعمة، لحظات ومن ثم دفع شاشته للأسفل كأنما يريد التأكد من وضوح أمر ما، قبل أن يلتفت إلي ويضع رجلا ً على رجل ليقول:

- لم يأتي سليمان؟

- أخذ اليوم إجازة مرضية.

- اها... طيب، آ... لدينا مشكلة صغيرة، بالأمس اتصل بي مدير المستودعات، بخصوص المشروع عندهم، أنتم الآن في أي مرحلة منه؟

- التحليل.

- طيب... كيف تكونون في مرحلة التحليل ولم تلتقوا حتى الآن بأي مستخدم هناك؟ لا مدير المستودعات نفسه، ولا أي من موظفيه !!! كيف ستحللون النظام؟

- حاليا ً... نحن نأخذ المعلومات من زيد وهو أحد الموظفين هناك، كما أنه عضو في الفريق.

- لا يمكنكم الاعتماد على معلومات شخص واحد من الإدارة، يمكن لمدير الإدارة بكل بساطة أن يرفض التحليل في النهاية، وتضطرون إلى دراسة النظام من جديد، ما الذي يمنعكم من زيارة الموقع نفسه، والاجتماع بمدير الإدارة؟

- نحن لا نعتمد على معلومات شخص واحد، نحن سنقوم بالتحليل بالاعتماد على معلومات زيد، ومن ثم سنرسل التحليل إلى مدير الإدارة للإطلاع عليه والتعديل عليه.

- لا... لابد من زيارة الإدارة والاجتماع بالمدير نفسه.

- ولكن عندي أعمال كثيرة تحتاج إلى متابعة، والذهاب إلى المستودعات لا داعي له ما دام زيد موجود ويمكنه القيام بجمع المعلومات من هناك وتزويدنا بها.

- زيد ليس من إدارتنا، زيد أحد المستخدمين في تلك الإدارة، لذا لابد أن يذهب أحدكما سليمان أو أنت للاجتماع بالمدير.

- حسنا ً... سأرى إن كان يمكن لسليمان أن يذهب إلى هناك غدا ً.

- لا... أذهب أنت اليوم، لا أريد تأجيل هذا إلى الغد.

- عندي اليوم أعمال تخص مشاريع أخرى.

- لا بأس... أجلها إلى الغد، وأذهب اليوم إلى المستودعات.

- خير إن شاء الله.

* * *

في المساء وجدت رسالة تنتظر في بريدي، كنت قد تناولت عشائي للتو، واصطحبت كوب الشاي إلى مكتبي، لأستكمل الخوض بين الأوراق، عندما وجدت رسالة من حسن على غير انتظار – لم يكن حسن من محبي التقنية الحديثة -.

فتحت الرسالة التي عنونها بـ " لا تنتظر".

* * *

(

السلام عليكم

آسف لأني لم انتظر موعدنا الأسبوعي لأضع هذه بين يديك، شعرت بأنك يجب أن تشاركني لحظة الخلق.

لا تنتظر

1

لا تنتظر
لا تنتظر أن يفهموك
أن يعرفوا في أي تيه صرت أنت
لا ريب أنهم ملوا وقوفك
ملوا انتظارك
ملوا البقاء في جوارك
ملوا صليل السيوف
وخطوات حصانك الذي لا يذهب إلى الأمام

2

وفي المعبد حطوا لك تمثال
أعطوه وجهك
كقناع من صلصال
ولكنه لم يكن أنت
فاليدان اللتان صنعتاه تجيدان تزوير القسمات
تجيدان تحويل البكاء إلى بسمات
وتأويل الحكايات وأنصاف الكلام

3

ماذا أردت؟
سوى أن تعيش كأي صبي
وتشقى قليلا
يصفعك الكبار ويشتمونك
فلا تبالي
لأنك إذا غاب النهار
ستأوي إلى فراشك وتنام طويلا
وستنسى في الصباح

4

وجاءوا
بورع عجيب
بحكايات المعجزات
وأقاصيص الملوك
وأخبروك
عن الأرواح التي ستلف روحك
عن الأيدي التي كانت تقطع الرؤوس
وستحمل اليوم رأسك وتابوتك !!!

حكاية لا تنسى

أحببتك ِ منذ البداية
بخفوت
بسكوت
وبامتنان...

وكنا اثنان
لا يعلمان
تكفيهما الكتابة والشكوى للورق
وكنت أصنع قصائد
يغيبها ليل أو يحييها أرق
وكنت أنت ِ القافية
منذ البداية...

فلم َ كان للحب ثمن؟
متى كان للحب ثمن؟
متى كان للحب دفاتر ومحاضر
وأسئلة منها لا نفيق
ولم َ كنا منذ البداية
نكتب النهاية
بأصابع لا ترى

ولم َ لم أكن مستعدا ً
عندما جاءت النهاية...
لم َ كنت
في نصف ثيابي
وكتابي
في نصف جملة
وبداية قصيدة
ونهاية عمر
ُكتِب أن يكون قصيرا ً...
منذ البداية

عفن

قالت...
عفن تسلل إلى روحي ذات ليلة
في ثياب الشتاء
كندفة الثلج أو قطرة المطر
وكنت صغيرة
براحتين وبهجة بلهاء

وكان عصيا ً لا يزول
يقصف الأصابع
ويغرق الروح في الوحول

عفن
صار يغرق روحي
عفن
صارت ثيابي
كل شيء صار عفنا ً عندما حل الربيع

ثم قالت...
سأتعلم الفرار من غواية الشتاء
من المطر
وزرقة السماء
سأتعلم الفرار من الضحكة البيضاء
فقط... أتمنى لهذا العفن أن يزول
وكان يوم الأمنيات
فزال

* * *

كان يوما ً طويلا ً، ولذا بدا لي النهر المدوم خيارا ً جاهزا ً، رغم توقعي لسخرية فهد من هذه الغابة التي صارت سجنا ً لا يتغير.

كان واقفا ً يتأمل ملامحه في بركة صغيرة تخلفت من مطر مر غزيرا ً وغسل الأشجار والأرض ومنحها رائحته ولكنه لم يمس فهد، لم يغرق ملابسه ولا أفسد ثورة خصلاته اللامعة.

- تبدو متعبا ً – قالها وهو يتراجع ليتكئ على شجرة -.

- كان يوما ً كئيبا ً.

- يمكنك أن تتخفف من كآبتك هنا.

- لا... سأشاهد فيلما ً أو برنامجا ً سخيفا ً، حتى أسقط في نوم بلا أفكار.

- إذن – وقد اعتدل في وقوفه – جئت لتخبرني بشيء.

- فكرت بما طلبته مني، ليس بعمق كما كنت آمل، ولكن بما يكفي لأقول، حسنا ً... لنجرب هذا من الغد.










قديم 23-01-2009, 01:50 AM   رقم المشاركة : 4
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










9

- آآآآآه... جميل هذا الصباح، بعد كل تلك الأيام في الغابة.

- أنا أدفع أي شيء الآن لأكون في غابة.

- لا... لا تقل هذا، لا تنزع من الصباح طراوته.

- أي طراوة !!! هذا صباح حار، وأنا لازلت مهدهدا ً بالنوم والخدر، ولم يفلح استحمامي السريع، ولا كوب الشاي في تبديدهما، وأمامي الآن عشرة طرق غاصة، وألف سيارة يقودها ألف رجل مهدهد، لأصل إلى مكتب طافح بالعمل، ورؤساء لا يدركهم السأم، وزملاء لا ينزعون من أي شيء ملالته، لا يوجد طراوة هنا، ليس في هذا اليوم على الأقل.

- ههههههههههههه، اسمع... لديك مكيف بارد ينسيك حرارة النهار، ويمكنني أن أبدد خدرك، وأن ألهيك عن بؤس الطريق بثرثرتي وأحاديثي، أما العمل فلا داعي لأن تفسد يومك مبكرا ً بالتفكير فيه، دع كل شيء لوقته، استمتع بهذه اللحظة الآن بين يديك، وعندما نصل إلى هناك سنتوقف دقائق نرتب فيها ما سنقوم به بقية اليوم.

- حسنا ً... – ويدي تخفض درجة الحرارة داخل السيارة -، تفضل، حدثني.

- كنت أفكر بكيف ستكون العلاقة بيننا بما أني سأكون رفيقك طيلة اليوم، فيما مضى كنت بالنسبة لك محطة شبه يومية، تأتي إلي عندما يحلو لك، وتحدثني عما تريد فقط، وتتجاهل أي شيء آخر في يومك، قد يكون يومك ثريا ً، قد يكون فقيرا ً، ولكني في كلتا الحالتين، لا أعرف إلا ما تريد إخباري به، الآن... تغيرت الحال، وما عاد بإمكانك إخفاء أي شيء عني، كل التفاصيل الصغيرة التي تكون يومك، العمل، البيت، قراءاتك، كتاباتك، من تلتقي بهم، من تتصل بهم، من يتصلون بك، من تضحك معهم، من تغضبهم، من يغضبونك، الأشياء الرائعة التي تفعلها، والسخيفة، كل شيء صار متاحا ً لي الآن، ويمكنني النفاذ إليه، هل كنت تدري أني لم أكن أعلم عنك إلا الأشياء التي كنت تقولها لي، أو تفكر بها؟

- كيف؟

- لا أدري كيف أشرح لك هذا ! فنحن نمر بوضع غريب، ولكن دعني أحاول، يبدو الأمر كما لو أنني كنت لا أستطيع الوصول إلا إلى الأمور التي تمر بوعيك، آ... ركز معي، عندما كنت تكتب وتلتقي معي بين الأوراق، كنت تمارس ذلك بوعيك، فلذا كان لاوعيك بعيد عني، ولا يمكنني ملامسته أو الاقتراب منه، الآن وقد اتحدت بك، يبدو أني اتحدت بالوعي واللاوعي منك، واااااااااااااااااو... كأنني قذفت من السماء إلى بحر لجي، آلاف الأفكار والهواجس التي تجوبه، وتضطرب فيه، القليل منها فقط ما يقذف إلى الشاطئ ويصير وعيا ً، وسرعان ما ينسحب ليعود في موجة جديدة، أو لا يعود، هههههههههههههههههه، انبهرت بهذا كله، حتى أني كدت أن أخلف وعدي لك بمحادثتك والتفكير معك، وأبقى سابحا ً ومكتشفا ً لكل هذا العالم الغريب.

- غريب... ألا يفترض بأن يتحول أي أمر تكتشفه أنت أو تراه في لاوعيي إلى الوعي مباشرة، بمعنى أني سأدركه ما دمت أنت جزء مني، وما دمت قد أدركته؟

- اممممممممممممم، ربما للسنوات التي كنت فيها تحشرني في زاوية من إدراكك ووعيك دور في هذا الانقسام لديك، فكأنه صار لديك وعي تتعامل معه، ووعي لا تريد التعامل معه، ولاوعي لا تدرك منه إلا القليل ومن حين إلى حين، الأمر أشبه بمن يدرك أن تجاوز سرعة 200 كيلومتر خطر على حياته، ولكنه يزيح هذا الإدراك جانبا ً ويصل إلى هذه السرعة وهو يرتجف من الإثارة.

- يبدو لي هذا غريبا ً، ولكن الوضع كله غريب وغير مفهوم، وبما أننا نقترب الآن من مكتبي، فلا وقت لبحث هذا أو التعمق فيه.

- هههههههههههه، لدي ذلك الشوق لرؤية هذا الذي تسميه عملك، فكل ما وجدته هنا في لاوعيك جذاذات من الصور وأنصاف أحداث ووجوه غائمة، أحيانا ً أجد أسماء بلا وجوه !!! ربما هم من تتعامل معهم من وراء سماعة الهاتف ولم تر منهم إلا أسمائهم التي تبرق على شاشة الجوال، أليس هذا غريبا ً؟ أن تتحدث مع شخص أكثر مما تتحدث مع زوجتك، مع أنك لم تر ملامحه يوما ً، ولا تحتفظ في ذهنك عنه بشيء سوى اسمه البراق ونبرة صوته.

- هههههههههههههههههه، يا الله صباح خير، ألم تعدني بأننا سنتوقف عندما أصل إلى مكتبي لنرتب أعمالنا لهذا اليوم؟

- ظننت أنك ستصنع لك كوب قهوة كفاتحة لصباحك، ولكن لا بأس، لنبدأ.

- دعني أرى الآن، لدي بعض الأعمال المؤجلة بسبب زيارتي المفاجئة للمستودعات، بعض التعديلات المطلوبة في مشروع المالية، امممممممممممم، مشروع التنظيم الإداري لم نضع خطة له بعد، سأضعها وأعرضها على سليمان لأي تعديلات محتملة.

- هه... وكأنه سيهتم – بابتسامة خبيثة -.

- ومشروع المستودعات، هناك الخطة، سأسأل زيد عنها، وهناك استكمال اجتماع الأمس مع المدير.

- السلام عليكم، صباح الخير – هذه من سليمان الذي دخل الآن مشبعا ً بالدخان -.

- وعليكم السلام، صباح النور.

أنا: سلامات.

سليمان: الله يسلمك، لا... شيء بسيط.

أنا: ما ترى بأس.

سليمان: ها... كيف الأحوال؟ ما الجديد؟

أنا: اتصل ناصر بالأمس.

سليمان: ماذا يريد؟

أنا: كان يسأل عن مشروع المستودعات، قال إن تحليلنا غير مقبول لأننا لم نجتمع مع مدير المستودعات، واضطرني للذهاب إلى هناك والاجتماع معه، ولدينا اليوم موعد آخر معه.

سليمان: أوهوه... يا الله صباح خير، ما فائدة زيدان إذن – لا يوجد خطأ هنا، المقصود هو زيد، ولكن هذه هي التسمية التي يبادل سليمان بينها وبين ( الكلب) عندما يتحدث عن زيد -.

أنا: قلت له هذا، ولكنه قال أن زيد ليس من إدارتنا، وأننا يجب أن نأخذ المعلومات منه ومن المدير، لأن التحليل في النهاية سيوقع عليه المدير، وليس زيد.

سليمان: آعععععععه... ما هذه الفوضى؟ هل سنقوم بعملنا وعمل زيدان أيضا ً؟ هذا ما كان ينقصنا !!!

فهد: هههههههههههههههه، قم أنت بما هو مطلوب منك أولا ً، وبعدها فكر بمن سيقوم بأعمال الآخرين – أخفيت ابتسامتي التي كادت عبارة فهد أن تبديها، وتأملت سليمان الذي جلس على مكتبه، وهو يقلب لسانه بين الشتائم الاعتيادية -.

أنا: الاجتماع سيكون في العاشرة والنصف.

سليمان: أي اجتماع؟

أنا: مع مدير المستودعات.

سليمان: أنت الخير والبركة، والله ليس عندي استعداد للقاء ذلك البغيض، أخشى أن يعاودني المرض بسببه.

فهد: جميل... والآن انتقلت أعمال سليمان وزيد إليك، مبروك عليك هذا الفريق الفعال.

أنا لفهد بغيظ: حسنا ً... دعني الآن أنجز بعض الأعمال قبل موعد الاجتماع.

فهد: لماذا تتركهم يفعلون ذلك؟ – ونحن متجهان إلى مكتب مدير المستودعات – .

أنا: يفعلون ماذا؟

فهد: هذا التهرب من الأعمال وإحالتها إليك.

أنا: العمل يحتاج إلى من ينجزه، يمكنني أن أتمنى طيلة اليوم أن ينجز زملائي كل ما هو مطلوب منهم، ولكني لو انتظرت هذا الحلم أن يتحقق لتوقف العمل، ولوجدت بين يدي نصف عمل لا قيمة حقيقية له.

فهد: أليس هذا استغلال لك؟

أنا: ربما... أنا لا أعتبره استغلالا ً ما دمت أعرف هذا، وأنتبه له.

فهد: ولكنك لا تفعل شيئا ً لإيقافه.

أنا: لأنه لا يمكنني إيقافه، أحتاج لأفعل هذا إلى تغيير الأشخاص، تثقيفهم وتوعيتهم، وهذا أصعب، فلذا ألجأ للخيار الأسهل أن أقوم بالأعمال التي يتكاسلون عن إنجازها.

فهد: ولكن هذا الخيار لا يصير سهلا ً، مع الوقت تتراكم عليك الأعمال، تقل إنتاجيتك، تكثر أخطائك، وتصير القيمة الكاملة التي كنت تبحث عنها عن طريق إنجاز ما هو لك وما هو لغيرك أبعد مما تخيل.

أنا: ربما... ولكن الوقت الآن غير مناسب لمناقشة هذا – وأنا ألج مكتب مدير المستودعات -.

فهد: آه... – بعد صمت دقائق، ومتابعة متململة لحواري مع المدير – فهمت الآن لم َ فر سليمان من لقائه، هذا الرجل لا يطاق.

المدير: والله الأوراق لم أجدها حتى الآن – وصلت الجملة السابقة على ثلاث دفعات، الدفعة الأولى قاطعتها حركة سريعة للبحث عن دباسة، الدفعة الثانية قطعتها الورقة التي غاب رأسها في الدباسة في ذات اللحظة التي تدلى فيها لسان المدير خارج فمه، ليحاكي لا شعوريا ً ما تقوم به يداه، أما الدفعة الثالثة فجاءت بعدما طوح بالأوراق المدبسة لموظف أسمر بوجه شوهته البثور كان يقف عند المكتب منذ دقائق -، بحثت عنها بالأمس، لا أدري، أين ذهبت؟ محمد... محمد... – وهو ينادي الموظف الذي يستقر مكتبه خارج الباب ويكاد يسد طرفه، وكان يتسلى بتصفح موقع ( الزعيم) عندما دخلت – أين أوراق متابعة المخزون لشهر صفر؟ ابحث عنها عندكم، في الخزانة، هلا... – والآن يتحدث في الهاتف – هلا... أبو عبد الله، ههههههههههههههه، لا... الله يكفينا الشر، ههههههههههههه، لا... لا... لا عليك سأرسلها لك الآن، محمد... محمد – وقد أعاد السماعة إلى مكانها -.

أنا متطوعا ً: يبحث في الخزانة.

فهد: هههههههههههههههههه.

المدير: اها... حسنا ً، متى تتوقع أن ينتهي البرنامج؟

أنا: من الصعب تحديد هذا الآن، أحتاج إلى دراسة دورة العمل عندكم أولا ً، واستكمال الأوراق والنماذج الناقصة، وبعدها يمكنني تحديد الوقت.

المدير: اها... هذه أوراق ربيع الأول – وهو يتفحص أوراق مدها له محمد -، أنا أريد أوراق صفر.

محمد: لا يوجد في الخزانة أوراق لصفر، ربما هي في الخزانة الأخرى التي نقلت إلى المكتب الشرقي.

المدير: لا حول ولا قوة إلا بالله، اتصل ببدر ودعه يبحث عنها الآن، لا نريد تأخير الرجل – وهو يشير إلي -.

فهد بابتسامة خبيثة: ألا تلاحظ أنه نسي صاحب المكالمة.

فهد: يمكنني الآن – وقد خرجت أخيرا ً من مكتب مدير المستودعات، واخترت بعد تردد أن أذهب إلى المنزل عوضا ً عن العودة إلى المكتب للنصف ساعة المتبقية من الدوام - أن أفهم لم َ كنت تأتيني بكل ذاك التعب، لو كان هذا فقط ما تمر به في يومك لكفى.

أنا بسخرية: لم َ؟ يمكنك اعتبار هذا اليوم من أيامي الجميلة.

فهد: كل هذه الفوضى، كل هذه الأعمال المتداخلة، والتي ينقض بعضها بعضا ً، لا أدري أي مخبول يدير هذا المكان.

أنا: لا تستعجل، ستلتقي بكل المخابيل في الأيام القادمة.

فهد: ههههههههههههههههههههه.

أنا: والآن سأكون مقدرا ً لك كل التقدير لو خرست وتركتني أحصل على قيلولتي العزيزة.

فهد: حسنا ً... سأنتظر.

فهد: كل هذا الوقت لتستعيدني !!! – كنت قد نهضت من النوم، منذ ساعة مضت، وتناولت غدائي مع لينا، وها أنا أقف لأصنع كوب الشاي وأستعيد فهد مع مذاقه -.

أنا بسخرية ورشفة عميقة: إليك أحد اكتشافات وضعنا الخاص، عندما أتوقف عن التفكير فأنت غير موجود.

فهد: لم َ ترتدي هذا النوع من اللباس؟ - بعد لحظات، وقد اصطحبت كوبي ووقفت على عتبة باب غرفة الجلوس، أتأمل التلفاز ولينا التي كانت في ثياب نومها القصيرة، والتي ترتديها بشكل شبه دائم -.

أنا: ربما يعجبها.

فهد: هههههههههههههههه، هل جربت أن ترتدي يوما ً ملابس ضامرة؟ هل بدا لك الشعور فيها جيدا ً؟

أنا: تجاربي ليست مقياسا ً للآخرين – وأنا أتجه إلى مكتبي -.

أنا: آه... أوراق، وأوراق، وأوراق – وأنا أقلب أوراق الجد -، ذاكرتنا المثقلة بكل شيء – ثم بسخرية - هل تشعر بالحنين إلى الوطن بمناسبة الحديث عن الأوراق؟

فهد: هههههههههههههههههه – ثم بجدية -، ربما أنا في النهاية لست كائنا ً ورقيا ً، وإن نشأت هناك.

أنا: ربما... ولكن هذا ليس وقت تحديد هويتك، لدي هنا جد يريد أن يتحدث.

فهد بسخرية: يبدو لي كجد تريد استنطاقه.

أنا: ماذا تعني؟

فهد: بالله عليك... انظر إلى ما بين يديك الآن من عمل، انظر إلى أوراقك، منهج تاريخي متكامل، منهج نقدي أدبي خاص، وخطة عمل محكمة ومتميزة، لديك أدوات منهجية ولكنك لم تخط حتى الآن حرفا ً حقيقيا ً حول جدك.

أنا: لازلت في البداية.

فهد: ألم تتساءل لم َ تأخرت البداية كثيرا ً؟ لم َ انهمكت في كل شيء ممكن إلا الخوض في التاريخ، قلب أوراقك الآن، قلبها، ما الذي كتبته؟ جمعت وقائع حياته؟ ثم ماذا؟ أين هي الكتابة المتعمقة التي وعدت نفسك بها منذ اليوم الأول؟

أنا: كان لابد لي أن أصوغ منهجا ً قبل أن أبدأ، لا يمكن لي أن أفتح صفحة وأشرع في الكتابة المطلقة هكذا.

فهد: بالتأكيد... ولكن ألم تتساءل لم َ صرت تتثاقل هذا الأمر؟ لم َ صرت تجلس على مكتبك هذا مرغما ً، وتضيع وقت الكتابة الذي حان بالعودة لمنهجك تصوغه وتعدله؟

أنا: هذا شيء طبيعي، في كل مشاريعه يبدأ الإنسان بحماسة ومن ثم يفتر عزمه سريعا ً.

فهد: لم يفتر عزمك سريعا ً، نظرة واحدة إلى البناء الفلسفي الذي بنيته وأرسيته وها أنت تعود في كل يوم لتدعمه تقول هذا، لقد أنجزت أطول وأعقد مراحل مشروعك، فلم لا تجد في نفسك الآن تلك الحماسة للنهاية التي صارت أقرب من أي وقت مضى؟

فهد: يبدو أن هناك أسئلة كثيرة بلا أجوبة هنا، ويبدو أنه حان الوقت لتتوقف وتجيب بعضها.










قديم 23-01-2009, 01:51 AM   رقم المشاركة : 5
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










10

بدأ الصباح بزيارة من ماجد.

جاء من دون كوبه الشهير، يحمل لي أخبارا ً عن صراع جديد يدور في الإدارة.

لم يكن الصراع جديدا ً تماما ً، هذا ما انتبهت إليه وماجد يمضي في تفاصيل الأحداث، وإنما كان فصلا ً في صراع طويل بين رئيس الصيانة وغريمه رئيس مراقبة الجودة، وهو صراع لا يذكر أحد متى بدأ، وإن كان الجميع متأكدين أنه يعود إلى أيام حاتم، إن لم يكن أقدم.

سبب الصراع غير معروف تماما ً، وإن كان ماجد يجزم بأنه بدأ بشكوى قدمها رئيس الجودة لحاتم على قسم الصيانة، فيما يصر سليمان أن تلك الشكوى لم تكن البداية، وإنما كانت هناك أمور أقدم دارت بين الغريمين.

كانت الشكوى التي تحدث عنها ماجد تتعلق بتأخر كبير – شهور ثلاثة - في توفير أجهزة مهمة طلبها قسم مراقبة الجودة، وقام رئيس الصيانة بخبث بتحويل الطلب إلى أحد موظفيه المهملين، وما بين تأخر الموظف في إنجاز المعاملة لإهماله وتغيبه بين حين وآخر، والأخطاء النظامية التي كان يقع فيها مما يجعل رئيس القسم يعيد إليه المعاملة في كل مرة، مرت شهور أغاظت رئيس الجودة وجعلته يلجأ إلى حاتم.

وكعادته طلب حاتم الاثنين في اجتماع عاجل، جاءه رئيس الصيانة مدججا ً بالأوراق الرسمية التي تثبت أن التأخير سببه إهمال الموظف والأخطاء النظامية في المعاملة، فلم يكن أمام حاتم سوى أن يوقع عقوبة على الموظف المهمل، ويطلب تحويل المعاملة إلى موظف آخر، وينتهي الاجتماع بابتسامة رئيس الصيانة الخبيثة، وغيظ رئيس الجودة.

وكان على رئيس الجودة أن ينتظر نهاية السنة، ليقدم عندها التقييم المعتاد لجودة العمل في أقسام الإدارة المختلفة، ولكن تقييمه هذه المرة لقسم الصيانة جاء مدققا ً، ومفصلا ً لدورة العمل في القسم، مشاكله، مدعما ً بأوراق حصل عليها من داخل القسم بطريقة غير معروفة، مما جعل حاتم يتدخل في القسم ويبقيه تحت إدارته المباشرة لعدة شهور، مع الكثير من التعديلات التي لم تعجب رئيس الصيانة وإن تقبلها بصبر عجيب.

وكان على هذين أن ينتظرا انتقال حاتم، وأن يتوافقا مع رؤساء الأقسام الأخرى من بعده – وهي المرة الأولى والأخيرة التي يتفق فيها كل هذا الخليط المتنافر – على أن يتولى الأستاذ ( محمد) أو ( أبو نايف) الإدارة، ليستأنفا معاركهما في ظل طيبة وتعامل ( أبو نايف) المتسامح.

كان ماجد متحمسا ً ويروي بطريقته الغريبة والتي تملؤها التفاصيل غير اللازمة، والإحالات التي يضطر إلى الخروج عن الموضوع لشرحها عندما يكتشف عدم إلمام السامع بها، هذا غير أسلوبه في العودة في كل مرة لنقطة ماضية للإضافة لها أو تعديلها، مما يجعل أي حكاية يرويها مفتوحة دائما ً لأي تعديلات ممكنة، تشمل أحيانا ً تعديل الشخصية المحورية.

- .... طبعا ً رفضا هذا الحل، وقال عبد العزيز – هذا رئيس الجودة – بأنه لا يمكنه إخلاء المكان، وأن موظفيه يحتاجون كل المساحة، رغم أني رأيت الغرفة ولم يكن فيها على اتساعها سوى مكتبين فارغين، عاد صالح – وهذا رئيس الصيانة - إلى ( أبي نايف) من جديد، لا استغفر الله، كان فيها ثلاثة مكاتب، خلطت بينها وبين غرفة أخرى، المهم أن عبد العزيز قام بنقل عاجل لبعض الموظفين إلى الغرفة، وكذلك آلة التصوير الكبيرة، ليثبت حاجته للغرفة واستخدامه لها، المهم ذهب عبد العزيز إلى ( أبي نايف) وهدده بأن الأجهزة ستلقى في الممرات عند وصولها ولن يكون هناك مكان لتخزن فيه – المقصود هنا طبعا ً صالح وليس عبد العزيز، ولكن ماجد لم ينتبه لخطئه بعد -، عاد ( أبو نايف) ليقترح وضعها في الغرفة الشمالية، فرفض عبد العزيز، أقصد صالح – وها قد صححه -، لأن الغرفة بعيدة وغير مهيأة، وإن أردت الحق فالغرفة مناسبة وكبيرة، والأجهزة ستوضع هناك للتخزين وليس للاستخدام اليومي، فلذا لا مشكلة لو كانت الغرفة بعيدة قليلا ً، ولكن كما قلت لك الأمر كله عناد بين صالح وعبد العزيز...

* * *

انتهت حكاية ماجد فغادر – لعله يدرك شخصا ً آخر في الإدارة لم يسمع بالحكاية فيرويها له – ولكنه استل في طريقه أحد مغلفات الشاي من العلبة الكبيرة – يبدو أن كوبه استحق امتلاء ً جديدا ً بعد كل هذا الهذر -.

عدت لأوراقي التي اقتنصني ماجد من بينها.

فهد: وااو... ما كل هذه الصراعات؟

أنا: هذا هو الوضع الطبيعي، لا أذكر أنه كانت هناك فترة بلا صراعات، أو حروب معلنة أو غير معلنة.

فهد: كيف يمكنك التعايش مع هذا الوضع؟

أنا: وما شأني أنا؟ أنا لست طرفا ً في أي صراع والحمد لله.

فهد: لا تحتاج إلى أن تكون طرفا ً في أي صراع لتتأثر به، هذه الصراعات تدور في الإدارة التي تعمل فيها، فلذا عندما ينشب صراع بين رئيس الصيانة ورئيسك ستجد نفسك بكل بساطة بلا صيانة، ومعرض للعطل في أي لحظة، حتى في الصراعات التي تدور في الأقسام الأخرى، إن مجرد العمل في جو مشحون بالصراعات والدسائس والمؤامرات لأمر مقلق للروح والعقل، وقد تجد نفسك في أي لحظة مشتركا ً من غير إرادتك في إحدى المواجهات.

أنا: هذا صحيح، فلذا أنا أقوم بعملي فقط، وأقوم به على أفضل وجه ممكن، وأبقي نفسي على مسافة مناسبة من الجميع، بحيث لا يمكن لأحد أن يشركني في صراعاته.

فهد بسخرية: وتردد اللهم سلم سلم.

أنا: وماذا تريد مني أن أفعل؟ أعقد اجتماعا ً تربويا ً أحض فيه رؤساء الأقسام والموظفين على التعاون بدلا ً من الصراع؟

فهد: ربما... وربما تحتاج هذه الإدارة إلى مدير آخر من طراز حاتم.

أنا: أعوذ بالله، هذا وأنا أحمد الله أني لم أعاصره.

فهد: وماذا تعرف عنه؟ هاه؟ لا شيء... فقط ما ينقله لك هؤلاء الموظفين المستمتعين بالكسل والفوضى، وهم كما أرى لن يمتدحوا من سيفرض عليهم النظام والدقة والإنجاز، إذا أردت أن تعرف الرجل حقا ً فألق بكل ما قالوه لك عنه، ألق بكل آرائهم، بكل حكاياتهم التي صاغوها عنه في غيابه، ألقها كلها، لأنك لن تراه عندها إلا من خلال عيونهم، من خلال أهوائهم، من خلال ما يريدونه هم منه، لا ما كان، وعندما تتخلى عن كل هذا التراث المتراكم، المشوه، المتناقل، يمكنك عندها أن تقترب من الرجل من خلال آثاره، ستجد لمساته في كل شيء في هذه الإدارة، أبحث في الأنظمة التي صيغت في عهده، أبحث في المشاريع التي أدارها، وقارن بين حالها عندما كان موجودا ً، وحالها بعدما غادر وتركها لهؤلاء، وبعدما تستوفي بحثك هذا، يمكنك عندها أن تقول بأنك عرفت عنه شيئا ً، ويمكنك حينها أن تقر بأنه كان مديرا ً جيدا ً، وإن كان صارما ً، أو تقر معهم بأنه كان ( علة باطنية).

* * *

شغلني ما قاله فهد، فتوقفت عن تقليب ورقتي الصغيرة والعبث بحوافها، ونهضت إلى خزانة حشرت في إحدى زوايا الغرفة، وفتحت بابها الخشبي - الذي كسرت إحدى مفاصله في واحدة من مزحات سليمان الثقيلة مع زميلنا البدين عيسى، والتي تنتهي غالبا ً بخروج عيسى حانقا ً تصحبه شتائم لاذعة من سليمان – ، وانتقيت منها ثلاثة ملفات قديمة تغص بأوراق إدارية مختلفة تعود إلى عهد حاتم.

بدأت بتقليب الملف الأول والذي كان يضم القرارات الإدارية التي صدرت في تلك الفترة، التكليفات الرسمية، التوجيهات التي تطال كثيرا ً من تفاصيل العمل في القسم، الإنذارات، كنت أقفز عدة أوراق ثم انهمك بقراءة ورقة صيغت صياغة حسنة وكأنها كتبت بيد خبير قانوني، يحدد من المسئول عن من، ومن المسئول عن ماذا.

تناولت الملف الثاني لأجد نفسي غارقا ً في محاضر اجتماعات توثق تاريخ الاجتماع والحضور والنقاط التي تناولها، والنتائج التي خلص إليها، ثم مرفق بها كل ورقة لها علاقة بالاجتماع أو كانت من نتائجه ولو بعد حين.

مبهورا ً تناولت الملف الثالث لأجد فيه أكداسا ً من إجراءات العمل في الإدارة، ودورة العمل، ووصفا ً لمهام فرق العمل في عدد من المشاريع القائمة في حينها.

كانت الإدارة بين يدي الآن، كان يمكنني فهم أي مشروع، الهدف منه، ومراحله، والمشاكل التي مر بها، ونتائجه، بمجرد تقليب هذه الأوراق، كان بين يدي كنز من المعلومات المهمة والمفيدة لأي موظف في الإدارة، ولكنه كنز تُرك ليعلوه الغبار في هذه الملفات الكئيبة.

للمقارنة انتقيت أحد الملفات الحديثة وبدأت بتقليب أوراقه، كان خليطا ً متنافرا ً من الأوراق، كان يضم خطابات مختلفة، مع بعض القرارات الإدارية، مع محاضر اجتماعات لمشاريع متعددة، كان عبارة عن مجموعة أوراق إدارية بلا هوية واضحة، وبلا هدف، وضعت في هذا الملف لمجرد الحفظ، وتحسبا ً للحاجة لها في يوم من الأيام.

* * *

كان رأسي مثقلا ً عندما نهضت من قيلولتي المشحونة بأحلام ميتة – كتبت ذات يوم فيما بدا لي كشفا ً عظيما ً حينها ما معناه، كل الأحلام التي تذوب وتختفي في لحظات اليقظة الأولى مخلفة شعورا ً غامضا ً، هي أحلام ميتة، عوالم آفلة من الصور والأصوات الغامضة التي لا يمكنني استعادتها، أما الأحلام التي تبقى فهي أحلام حية، يمكنني استعادتها لو أردت، ما دامت موجودة في ذهني، وكل ما علي فعله أن أتمسك بها في لحظات النعاس لأجدها في اللجة الناعمة، ولكني بعد محاولات طويلة ومرهقة فشلت فيها في استعادة حلم وحيد وبسيط، كنت أمشي فيه وسط ممر طويل مشجر وممتد، صرفت الفكرة عن استعادة أحلام أعقد وأكثر ثراء ً بحيث بدا أحدها كحياة أخرى عشتها ذات يوم -.

كانت لينا قد أعدت الغداء، ولأنني كنت مثقلا ً، ولأنها كانت مشغولة باختبار ما، بحيث وزعت لقيماتها بين صفحات مذكرة وضعتها مطوية إلى جانبها، مر الغداء بصمت كئيب.

قطعت صمتي عندما انتهينا وعدت بيدين مبللتين وكوب الشاي العتيد، وكانت هي لا تزال مدفونة بين صفحات المذكرة:

أنا: لديك ِ امتحان غدا ً؟

لينا: امممممم.

أنا: وكيف استعدادك ِ له؟

لينا: لا أدري، درجتي في الامتحان الأول كانت منخفضة، وأحتاج إلى التعويض حتى لا أحمل المادة.

عدت إلى الصمت عندما لم أجد شيئا ً أقوله، واكتفيت بتمرير أصابعي على زجاج الكوب المحرق، وتأمل ملامح لينا الغارقة وشفتيها اللتين ترددان الكلمات بخفوت.

فهد: آآآآه... كم أشعر بحاجتي للتثاؤب عندما استمع لأحاديثكما معا ً.

أنا بسخرية: آسف لأننا لا نتحاور كما تريد.

فهد: أنتما لا تتحاوران أصلا ً، أنا قلت حديثكما ولم أقل حواركما، فما يدور بينكما لا يرقى لأن يكون حوارا ً، وإنما مجرد أحاديث، جزء منها ( أحاديث معيشية)، وأجزاء أخرى ليست إلا ثرثرة عن ما يدور لكما أو حولكما، ليس لديكما ذلك النوع من الحوار الذي يناقش فكرة أو حدث منفصل عنكما، وليس لديكما ذلك النوع من البوح الفكري الذي تعبران فيه عن أفكاركما، ولا ذلك البوح العاطفي الذي تعبران فيه عن عواطفكما وما تشعران به.

أنا: وماذا في ذلك؟ الحوار الذي تطمح إليه وتتحدث عنه يحتاج إلى محاور يقترب مستواه الثقافي من مستواي، وإلا فلا معنى ولا جدوى منه، ولينا ليست هذا المحاور فلذا الحوار معها حول موضوع ثقافي أو فكري لن يكون إلا سردا ً للأفكار من جانبي، أما البوح العاطفي فأظن أننا نستعيض عنه بوسائل أخرى، فخجل لينا يجعل استخدامنا للكلمات محدودا ً.

فهد: ولكن هذا يعني أن أقرب شخص لك افتراضيا ً، بعيد عن جزء كبير من حياتك، لا يمكنه الوصول إلى أفكارك، لا يمكنه فهمها، هذا قد يبدو لك الآن أمرا ً عاديا ً ومعقولا ً، فأنت أردتها زوجة لا مفكرة، ولذا كانت مواصفاتك في هذا الاتجاه، ولكن لتفكر بحالكما بعد عشر سنين، تخيل حجم الهوة التي ستفصل بينكما، أنت بعقلك الذي يتطور بسرعة ويقفز قفزات هائلة، وهي بعقلها النامي ببطء، وغير القادر على استخلاص التجارب وتطويرها، هذه الفجوة لن تكون فكرية فقط كما هي الحال عليه الآن، وإنما ستكون مادية أيضا ً، تخيل حجم الفجوة في تربيتكما لأبنائكما، أسلوبك وطريقتك المبنية على أسس نظرية وتجريبية خاصة بك، وأسلوبها الذي سيكون وريثا ً للبيئة التي جاءت منها والتي تعيش فيها، والآن كم مرة ستحتاج فيها أن تصطدم بها وأن تجبرها على انتهاج أسلوبك وطريقتك – فهي لن تقر كل أساليبك -، وقس هذا على كل شيء آخر مادي في حياتكما، هذه الفجوة قد تبتلع زواجكما في النهاية.

أنا: يا لتشاؤمك !!! لماذا تفترض أن عقليتها ستتطور ببطء؟ لا تنسى أنها هي من سيتعامل مع الأبناء بشكل يومي ومباشر، هذا أشبه ما يكون بتدريب وخبرة متنامية، ربما أفضل من خبرتي أنا، من سأكتفي بالتحديق عن بعد والتنظير.

فهد: هل تظن بأنها ستتعامل مع أبنائها كما يتعامل العالم !!! ترصد، تسجل، وتحلل !!! ههههههههههههههه، كل الخبرة التي ستحصل عليها خبرة عملية، خبرة خام، لا يمكن تحويلها إلى نظرية أو فكرة مجردة، ولذا ستجد أنها شبه جديدة مع كل طفل.

أنا: يمكن لي أنا أن أكون عاملا ً مساعدا ً لها في تطوير ذاتها.

فهد: بالتأكيد... دعني أتخيلك قليلا ً، مع كل تلك الهوة التي تفصل بينكما، تتوقف في كل يوم لتعيد تصحيح تصرفاتها وأفكارها حول كل شيء في حياتكما، ودعني أتخيل صبرك الطويل على هذا، ومقاومتها الأكيدة والمحتمة للتغيير، وغضبها من كل هذه الانتقادات التي توجهها لها، أخبرني كم صبرا ً؟ كم لطفا ً؟ كم حلما ً ستحمل في إهابك؟

أنا: أظن أن هذه هي الحياة الزوجية في معناها، محاولة الرجل والمرأة، الزوج والزوجة التوفيق بين اختلافاتهما لصالحهما ولصالح أبنائهما، تقديم التنازلات من هنا وهناك، يسمع الزوج لزوجته، وتسمع هي له، ويمكن للحياة أن تسير.

فهد: وماذا إذا كانت اختلافاتكما أكبر من أن يظلها سقف، ماذا إذا صارت الحياة تنازلات أليمة، هل أنت مستعد لتتحملها؟ لأني أخبرك أنها لن تفعل، وأنك ستسمع تحت سقفك زمجرتها في كل يوم.

أنا: حسنا ً... وما الذي تريدني أن أفعله؟

فهد: اكسر دائرتها المغلقة الآن، تحدث معها، حاورها، سرب لها أفكارك حول كل شيء وأي شيء، وافتح لك دربا ً إلى أفكارها، هذا سيقلص المسافة بينكما، وسيخفف الهوة المنظورة في المستقبل.

أنا: وماذا عن الهوة التي تفصلنا الآن، كيف يمكنني أن أطويها؟ كيف يمكنني أن أحدثها عن أشياء كثيرة وعديدة تشغلني، ولا أشعر بخيبة الأمل للسذاجة الكبيرة التي ستقابل بها أفكاري؟

فهد: هذه الهوة ستكون أكبر منك في يوم ما، وعليك الاختيار إما الآن أو أبدا ً.

رفعت لينا رأسها، وابتسمت:

- ما بك؟

- هه.

- مرت فترة لا بأس بها وأنت صامت وتتأملني، هل هناك شيء؟

- لا... لا... سلامتك.

غادرت غرفة الجلوس، كان كوب الشاي لا يزال يحتفظ بدفئه، ولكني مع ذلك وضعته في حوض المطبخ بشهية ناضبة، وقصدت مكتبي.

كنت متعبا ً بما يكفي لأنبذ أوراق الجد بعيدا ً، وأترك قدمي تحتلان المساحة إياها التي لطالما احتلتها قصيدة ( ذياب الجرادي)، ومخطوطة العم البعيد.










قديم 23-01-2009, 01:52 AM   رقم المشاركة : 6
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










11

فهد بخبث: هل هو التعب حقا ً؟ أم أن هذا الجد ما عاد يستهويك؟

أنا بخمول: أظنك رأيت كيف كان اليوم ثقيلا ً.

فهد: وها أنت وحيد بين كتبك وأوراقك، فلم َ لا تستعيد يومك؟ لم َ لا تقلب أوراق جدك ومساراته، وتختار أحدها؟

أنا: حسنا ً... تريد أن تقول لي أني فقدت اهتمامي بالكتابة عن جدي، يمكنك قول هذا مباشرة والتوقف عن هذا التلاعب الممل.

فهد: ما أريد قوله هو ليس أنك فقدت اهتمامك فقط، وإنما فقدت ما هو أخطر، إيمانك به.

ثم أكمل بحماس: انظر إلى الأحداث التي جمعتها حول حياته، فرغم أن أكثرها لا يرد إلا في مخطوط عبد الرحمن بن عثمان، إلا أن الأحداث القليلة التي وردت في كتاب ( التبيين)، وهو كتاب ضعيف جدا ً كما تعرف، تنقض بعضها تماما ً، وتشكك وتضعف أخرى، هذا غير أن هذه الأحداث التي تحتاج إلى التحقق بشأنها، لا تستحق هذا الجهد، فهي ليست إلا معركة قبلية هنا، أو سطو على خراف هناك، وهذا ما يؤلمك حقا ً وتخفيه في نفسك ولا تبديه، فهذا الجد في النهاية لا يستحق كل هذا الجهد، وليس له تاريخ يصمد أمام الآلة النقدية والفكرية التي أعددتها، وأنت الآن تدرك أن ما سيخرج لك إن تركت جدك هكذا، عاريا ً أمام كلماتك، ليس إلا أشلاء تاريخ وإنسان وحكايات منظومة.

عاد ليكمل عندما لم أرد: أتعرف أي مأزق أوقعت نفسك فيه الآن؟ أتعرف ما الذي تشعر به؟

توقف مرة أخرى ليضفي على كلماته أهمية أكبر: تشعر بالتمزق ما بين عاطفتك تجاه جدك البعيد، وعقلك الذي ينبذه وينبذ كل ما يمثله هذا الجد من أفكار وثقافة.

فهد: تشعر بالفقد... لكل هذا الميراث الذي سيكون عليك تصفيته، وإحراقه أو دفنه في أحسن الأحوال.

فهد: وبالحزن... لأن جدك لم يكن زعيما ً كما تخيلته، وأن نفوذ والدك الآن أعظم وأكبر من نفوذه، وبالضيق لأن أشعاره لا قيمة أدبية لها، وأن ترديد العائلة لها هو ما جعلها مستساغة في أذنيك، وحتى قصيدة ( ذياب الجرادي) والتي لا دليل لديك بأنها من قصيده، وليست موجودة في ديوانه، لا قيمة كبيرة لها، هذا غير أن ( ذياب الجرادي) نفسه شاعر مداح مدح الجميع، وهذا ما يجعل مدائحه بلا قيمة كبيرة فنيا ً ومعنويا ً.

فهد: وبالقلق... من مصير هذا الكتاب الذي صيرته العائلة بين يديك، وأنت تدرك الآن بأنك لن تكتبه أبدا ً، كيف ستخبرهم بأن هذا الكتاب لن يكون؟

* * *

احتجت إلى عدة اتصالات حتى يرد علي ( أبو خالد)، جاءني صوته العجول:

- هلا يا شيخ، كيف حالك؟

- هلا... الحمد لله بخير، كيف حالك أنت؟

- الحمد لله... بشّر؟ هل انتهيت؟

- لا... لدي بعض الأسئلة ومحتاج للقاء بك.

- حياك الله، مر بي في المنزل غدا ً أو بعد غد، اليوم الذي يناسبك.

- أفضل أن تزورني أنت في منزلي.

- ما يصير بارك الله فيك، زرتك المرة الأخيرة، وهذه المرة دورك، ثم – وهو يضحك – العلم يؤتى ولا يأتي.

- على خير إن شاء الله، يناسبك غدا ً بعد المغرب؟

- على بركة الله.

وهو ما كان، وضعت المخطوطة والكتب التي أعطاني إياها، مع أوراقي التي سردت فيها أحداث حياة الجد، فيما كان مقدرا ً له أن يكون الفصل الأول من الكتاب، وقصدت المنزل الكائن شمال الرياض.

كان الحي جديدا ً، ويبدو أن المنزل شيد حديثا ً خلال السنوات القليلة الماضية، فالطريق الذي اضطررت إلى خوضه كان مليئا ً بفواصل أسمنتية تحدد الطريق، وحفريات واسعة، ومنازل متناثرة بينها مساحات لا بأس بها من الأرض الخالية.

أما المنزل فكان دلالة جيدة على أن ( أبا خالد) عتيق في ذوقه واختياراته، فرغم حداثة عهد المنزل، إلا أن كل شيء خلاف هذا قديم، خطوط البناء، واجهة المنزل الخارجية، تصميمه الداخلي، وحتى الأثاث بدا غير متناسق وبألوان كئيبة.

قادني طفل صغير – استقبلني بملابسه الداخلية - إلى الملحق الخارجي، وركض يستدعي أباه، فيما بقيت أنا واقفا ً أتأمل الغرفة الواسعة بموقدها الحجري، والذي ملأت فراغاته أدوات تراثية، لا ريب أنها استهلكت وقتا ً لا بأس به في البحث عنها واختيارها.

دقائق وجاء ( أبو خالد) مرحبا ً، يتبعه ابن له - تذكرت ملامحه بالكاد من اجتماعنا السنوي – يحمل القهوة، وبعد السلام والفنجال الأول، استجمعت كلماتي المترددة في جوفي لأرد على سؤال ( أبو خالد):

- بشّر؟ كيف الكتاب؟

- والله يا أبو خالد – بتنهيدة وهزة رأس تساعدان على بيان قلة الحيلة -، الأمور ليست كما أردتها للأسف.

- أفا... سلامات !!؟

- الله يسلمك... الأمر هو أني بدأت بداية طيبة في قراءة المصادر التي أعطيتني إياها، ورسمت لي خطة للكتابة، ولكني وقد تعمقت الآن في الموضوع، لم أعد أجد لدي الرغبة في الاستمرار.

- تكاسلت !!! يا رجل لم يعد باقيا ً إلا القليل، أجزم وتوكل وربك يعين.

- لا... ليس الأمر تكاسلا ً، الأمر عدم رغبة، هناك أشياء لست مقتنعا ً بها في سيرة الجد، فلذا لا أرغب في كتابتها، والمشكلة أني إذا لم أكتبها فلن يبقي شيء من السيرة.

- لم أفهم !!! ما هي الأشياء التي لست مقتنعا ً بها؟

- انظر هنا مثلا ً – وقد أخرجت أوراقي التي تلخص الأحداث -، يقول الشيخ ( عبد الرحمن بن عثمان) أن جدنا كان مع الركب الذين خرجوا على الوائلي، ويحدد هذه الحادثة بعام 1259 هـ ويورد أبيات للجد حول هذه المعركة وما جرى فيها، ولكن هنا في كتاب التبيين – وفتشت عن رقم الصفحة التي دونتها في أوراقي – يذكر المؤلف أن المعركة كانت في عام 1255 هـ، وأن المعركة التي كانت في عام 1259 هـ ليست هي ذات المعركة وإن جرت في ذات المكان، وهذه المعركة هي التي شارك فيها الجد، والآن إما أن كتاب التبيين مخطئ، أو أن الجد بكل بساطة شارك في معركة بلا قيمة، وأدعى أنه شارك في معركة أخرى جرت في ذات المكان ولكنها ذات قيمة كبيرة.

- الله المستعان... أتركك من كتاب التبيين، ففيه خلط كثير، ثم هل يعقل أن لا يعرف الناس من شارك في ركب الوائلي ومن لم يشارك؟ بحيث يكون من اليسير لأي أحد أن يدعي أنه شارك في هذه المعركة أو تلك.

- ولكن يا أبا خالد – وأنا أقلب الورقة لأقرأ ما كتبته في قفاها – أنا رجعت إلى موسوعة ( المعارك والغارات النجدية) للمحتم، ووجدت فيها أن معركة الوائلي كانت فعلا ً في عام 1255 هـ، وهذا معناه أن الجد كان عمره حينها 12 سنة، وأنه لم يشارك فيها رغم أبياته عنها.

- عجيب !!!

- وليس هذا فقط، هناك أشياء كثيرة أخرى دونتها في هذه الأوراق، هنا مثلا ً يقول الشيخ عبد الرحمن في المخطوط أن الجد صالح اختلف مع أخيه الأكبر مساعد، وأن العم مساعد كان يترصد للجد ويغري به ابن دهيش ولذلك أخرجه الجد صالح من الريلية مع أبنائه حمود وحسن، ثم أجد في كتاب ( أخبار نجد ورجالاتها في القرن الثالث عشر) أن إخراج الجد صالح لأخيه كان لخلافهما على مزرعة.

- الله يهديك... لا تكن حاطب ليل، ليس كل ما يكتب في هذه الكتب حقيقة، لو أنك التزمت أحسن الله إليك بمخطوط الشيخ عبد الرحمن، مع توثيق بعض التواريخ والأحداث من مصادر موثقة، لم َ وجدت كل هذا العناء في تأليف الكتاب.

- أي مصادر موثقة؟ أقول لك أنا رجعت للموسوعة، ولكتاب ( أخبار نجد) ووجدت بعض ما فيها ينقض ما كتبه الشيخ عبد الرحمن، حتى لم يعد لدي الآن شيء لأكتبه عن الجد صالح، وسأضطر إن مضيت في هذا الكتاب أن أنفي الكثير من الأحداث المشهورة عنه.

- لا حول ولا قوة إلا بالله.

- طيب... اسمع – بعد تأمل من أبي خالد، رافقه تحسس لمنابت لحيته التي بدأ الشيب يخالطها – أكمل أنت الكتاب، وبعد هذا أعطني إياه، وأنا أعدل عليه وأضيف له ما يفتح الله به.

- لا... أنا لا يمكن أن أكتب شيئا ً لم أقتنع به.

- لا بأس... اكتب ما تريده، وأنا سأعيد صياغة الكتاب بعدما تنتهي بما يناسب.

- وما الفائدة؟ لم َ أضيع الوقت في الكتابة ما دمت ستعيد أنت الكتابة من جديد ! لم َ لا تكتب أنت الكتاب، هذا هو المخطوط، وهذه هي الأحداث كما لخصتها أنا، وهذي نسخ من كل أوراقي يمكنك الاستفادة منها.

- المشكلة في الوقت، لو كنت متفرغا ً لكتبت الكتاب من البداية – قالها بحسرة -.

- لعلك تراجع نفسك في الموضوع – أكمل بعد تنهيدة -.

- أنا لم أتصل بك يا أبا خالد إلا بعدما راجعت نفسي جيدا ً، وقلبت الأمر في ذهني، واقتنعت بأني لا يمكن أن أتم الكتاب.

- لا حول ولا قوة إلا بالله... المشكلة أن الجميع متحمسين للكتاب، ويريدونه مطبوعا ً في اجتماع العائلة القادم، ولا أدري الآن ماذا سنقول لهم؟

- يمكن للكتاب أن يكون جاهزا ً في موعده، لو أنك وجدت أحدا ً يتفرغ له في الأيام القادمة بالاعتماد على المخططات والملخصات التي وضعتها.

- يصير خير – قالها بحنق -، هات الأوراق وسأنظر أنا في الأمر، عسى أن أجد من يتكفل به.

* * *

بدت لي نتيجة اجتماعي بأبي خالد وتخلصي من هذا المشروع البائس مناسبة تستحق الاحتفال، لذا اتصلت بلينا حال خروجي من منزله، وطلبت منها أن تستعد للخروج بعد صلاة العشاء مباشرة.

لم يكن هناك مكان محدد نذهب إليه، ولذا فكرت بجولة في الرياض مع كوب قهوة، ومن ثم عشاء في أحد المطاعم الفاخرة، والتي احتفظ بأسمائها في قائمة بجوالي، وأحرص على تجربتها واحدا ً تلو الآخر.

بعد الصلاة احتاج الأمر إلى اتصالين متقطعين لتخرج لينا متسربلة بعباءتها، قالت وهي تسحب العباءة بحرص حتى لا يغلق عليها الباب – بعد المرة التي كنست فيها عباءتها نصف الرياض، صارت أكثر حرصا ً في الركوب -:

- شكرا ً... لقد أنقذت ليلتي، كنت أشعر بملل شديد، وكنت أقلب خياراتي ما بين أن أشاهد التلفاز وأتعشى شطيرة جبن، أو أن أتصل بصديقة لأثرثر معها.

- هههههههههههههه، عليك ِ أن تشكري أبا خالد إذن، فخروجنا اليوم هو احتفال بتخلصي من كتاب جدي وإعادته إليه.

- غريب !!! ظننت أنك متحمس لكتابة ذلك الكتاب.

- كنت متحمسا ً له.

- وما الذي غير رأيك؟

- أشياء كثيرة اكتشفتها وأنا أحاول تأليف الكتاب، يمكنك ِ أن تقولي بأني اكتشفت بأن هذا الجد لا يستحق أن أؤلف عنه كتابا ً.

- حسنا ً... وما الذي سيحدث الآن للكتاب؟

- لا أدري، لا ريب أنهم سيبحثون عن ضحية جديدة له.

لم تقل شيئا ً، والتفتت تتأمل الطريق، فيما انحرفت أنا مع شارع طويل، كان في الشارع المعاكس له مقهى جيدا ً يقدم خدمة السيارات، وكان يمكنني ملاحظة الصف الطويل من السيارات المنتظرة، فلذا قررت التخلي عن تكاسلي والترجل للحصول على القهوة بنفسي.

اختارت هي نوعا ً مثلجا ً من القهوة ذو اسم مرعب، فيما اكتفيت أنا بالمخا الساخنة – الموكا لسريعي النسيان -، ودخلت المكان الذي يحمل رائحة... حسنا ً رائحة القهوة.

كان المحاسب الذي يرتدي مئزرا ً قاتما ً، شاب أسمر بلحية تطوق الفم فقط، وتترك الخدين أملسين، ونظارات ضخمة بلون الفضة تخفي عينيه تماما ً وتمنحه منظرا ً غريبا ً، نقر الطلب بسرعة على آلته وتناول المال مني بلا أي كلمة، ثم تحين لحظة فراغه هذه ليقفز من كرسيه ويتناول علبة حليب ويقف ليساعد زميل له ذو عينين ضيقتين وابتسامة لئيمة.

- ها... عم َ ستتحدثان في هذه الليلة الجميلة – كان هذا فهد وقد استغل انشغالي بتأمل الفاتورة -.

- يمكننا أن نتحدث عن أي شيء.

- كم أتوق لذلك.

تجاهلته وفضلت أن انتظر القهوة بصمت، وعندما عدت إلى السيارة كنت أفتش في ذهني عن موضوع يمكنني إثارته والتحدث مع لينا عنه.

كانت المواضيع تتساقط مع كل خطوة، ولذا ركبت السيارة بذهن خال ٍ واكتفيت بارتشاف القهوة وانتظار أن تفتح لينا موضوعا ً.

بعد أن لهت قليلا ً بمشروبها البارد، قالت وهي تضعه في حاملة الأكواب:

- من اتصل بي اليوم؟ توقع !!!

- من؟

- أريج.

- أريج؟

- صديقتي في الثانوية، أخبرتك عنها من قبل، التي توفي والدها العام الماضي.

- اها، تذكرتها، كيف حالها؟

- الحمد لله بخير، وأخبرتني بأنها خطبت لابن عمها منذر.

- منذر !!! ايه... الله يوفقهم.

- الله يوفقها، كانت تقول لنا في الثانوية أدعو لي يا بنات إني أتزوجه، يا حليلها، الله يهنيهم.










قديم 23-01-2009, 01:53 AM   رقم المشاركة : 7
أنا راحل
( ود جديد )
 





أنا راحل غير متصل










12

اخترت مقهى جديدا ً هذا الأسبوع، طاولة دائرية تجنبتها الأضواء فغرقت في عتمة زاوية بعيدة، لا يؤنس وحدتها وانفرادها إلا مقعدين متقابلين، ومناديل مطوية.

زارني نادل المقهى ثلاث مرات، وفي كل مرة كنت استمهله قليلا ً، وأعود إلى رواية جوزيه ساراماغو ( سنة موت ريكاردوريس) لأتابع ذلك الطبيب البرتغالي الذي عاد من غربته البرازيلية، ليلتقي بشبح الشاعر البرتغالي الكبير ( فرناندو بيسوا) الذي ابتدعه ذات يوم.

استسلمت أخيرا ً وبحنق للنادل، فطلبت موكا ساخنة، وعدت للسطور المكتظة للرواية – حيث كان ساراماغو يصر على تجاهل الفواصل والمسافات -، محاولا ً التركيز مع الضجيج الذي بدأ يتصاعد مع دخول أربعة من ذوي الرؤوس الضائعة – ضاعت وسط كل ذلك الشعر المجعد الذي يغطيها- وهم يتحدثون ويضحكون بصخب لا يتبدد.

تقلبت ما بين الصفحات، والموكا، وجوالي الذي ينتظر اتصال حسن – ليسألني عن المكان أو ليعتذر عن الحضور -، وتأمل الناس من حولي، ثرثرتهم التي يصلني جزء منها، فتبدو لي بكل تلك التقاطعات والكلمات الناقصة كهذيان.

- السلام عليكم – كان هذا حسن الذي حط على رأسي فجأة -.

- وعليكم السلام، من أين جئت !!! لم أرك وأنت تدخل !!!

- هههههههههههههههه، هذا لأنك كنت هائما ً، وعلى وجهك نظرة تأملية سخيفة.

- لم أكن أتأمل، كنت أفكر فيك، فلذا بدت ملامحي سخيفة.

- ألم تطلب لي بعد؟ – وهو يقلب القائمة التي جلبها له النادل البغيض –

- لا... دلل نفسك هذه المرة، اختر شيئا ً مختلفا ً، وإلا ستموت ولم تذق إلا الموكا.

- اها... حسنا ً، شورك وهداية الله، سأجرب الموكا.

- يا أحمق !!! نحن نشرب الموكا كل خميس، جرب شيئا ً آخر.

- امممممم، أنت ماذا طلبت؟

- موكا – بصبر -.

- قهوة إيطالية – قلتها للنادل بنفاد صبر وأنا انتزع القائمة من يد حسن -.

- كيف حالك؟ - سأل وهو ينتزع منديلا ً، ويمسح به وجهه -.

- الحمد لله بخير حال.

- وكيف حال كتابك السحري؟

- تخلصت منه.

- ماذا !!! يعني انتهيت منه؟

- لا... تخلصت منه.

- لم أفهم.

- بكل بساطة جمعت كل الأوراق والكتب والمخطوطات وأعدتها إلى أصحابها، واعتذرت عن إكمال الكتاب.

- ولم َ؟ ما الذي حدث؟

- حكاية طويلة، يمكنك أن تقول أنني لم أعد متحمسا ً لا لجدي، ولا لحكايته.

- اها.

- ماذا عنك أنت؟ كيف حال قصيدتك؟

- مازالت تنمو، أحضرت معي الجديد – قالها وهو يلوح بكتابه الأزرق -.

- بالمناسبة... الأبيات التي أرسلتها لي الأحد الماضي.

- ما بها؟

- كانت عبارة عن ثلاث قصائد ( لا تنتظر) و( عفن) و...

- حكاية لا تنسى.

- نعم... ( حكاية لا تنسى)، ( لا تنتظر) فقط هي التي بدت لي تنتمي إلى القصيدة الكبيرة، أما القصيدتين الباقيتين !!! فلا أدري !!!

- تنتمي لها – قال بابتسامة -، يمكنك اعتبارها من قصائد الملك الشاب.

- ولكن القصيدة الكبيرة ذاتها على لسانه !!!

- هههههههههههههههه، لا تتعامل مع الشعر بالمنطق، القصيدة تركز كموضوع أساسي على الملك الشاب، ولكنها تتناول موضوعات أخرى، تقترب منه أحيانا ً، وتبتعد عنه أحيانا ً أخرى.

- لم َ إذن تكون هذه القصائد مضمنة في القصيدة الكبيرة؟ لم َ لا تفصلها عنها وتجعلها قصائد مستقلة؟

- لأنه لن يكون هناك حينها قصيدة كبيرة.

- ولكن لا يمكنك تسمية الناتج قصيدة كبيرة، إذا لم تكن له وحدة عضوية، وترابط ما بين القصائد الصغيرة.

- ومن قال لك أنه لا يوجد ترابط !!! كل قصيدة من هذه القصائد، تضيف للقصيدة الكبيرة، وتنير جانبا ً مظلما ً منها.

- اشرح لي، لدينا الموضوع الرئيسي الذي كانت معظم القصائد تدندن حوله، الملك وحيرته، ولدينا قصيدة ( عفن)، ما الذي تضيفه قصيدة ( عفن) للموضوع الرئيسي؟

- قلت لك هذه القصيدة منسوبة للملك.

- ملك محتار ما بين الموت والحياة، ويكتب قصيدة عن عفن ملأ يدي فتاة؟

- هههههههههههههههههههه، بالله عليك هل تسألني هذا السؤال؟ سأخبرك – وهو ينهض – ولكن دعنا نخرج الآن لأني أريد تدخين سيجارة.

- لا يمكنك التعامل مع القصيدة – أكمل وقد صرنا نتجول على الرصيف، وبين أصابعه سيجارته – كما تتعامل مع قصة، في القصيدة الزمان والمكان ضائعان، لا يوجد إشارات محددة، من يقول ماذا؟ ومتى؟ هناك بالطبع القصائد المباشرة، التي يتحدث فيها الشاعر، ويعبر بشكل مباشر، عن إحساساته أو آرائه، ويملأها بالحكم، هذه قصائد بلا أبعاد، فقط بعد واحد ( الشاعر)، واعتماد هذه القصائد الأساسي على قدرة الشاعر على حشر المعاني والأفكار في الشكل العروضي الذي بدأ به قصيدته.

- وقصيدتك بالطبع ليست قصيدة مباشرة.

- لا تسخر أرجوك – لوح بسيجارته -، قصيدتي ذات أبعاد متعددة، لدينا البعد الخارجي الملك الشاعر، قصته ونهايته، هذا البعد الخارجي يمكنك اعتباره الإطار الذي يحتوي القصيدة ككل، والذي نعود إليه من حين إلى حين، ولكن للقصيدة أبعاد أخرى، أو فلنقل أصوات أخرى.

- من هو الصوت الذي كان وراء عفن؟

- أنا.

- أليست القصيدة تبدأ بـ ( قالت) !!!

- لا... أقصد أن قصائد الملك تأتي على لسانه، وهذه القصيدة جاءت على لساني أنا.

- هي تتعرض – أكمل وهو يتخلص من السيجارة ليبحث عن أخرى – لحادثة مررت بها أنا، وغيرت بعض الأشياء في حياتي.

- اها.

* * *

ليلة

1

جاء الشتاء
فأشعلوا النار في الأرجاء
يبتغون الدفء
ويدفعون هجمة المساء

2

ظلالهم تجول في الخيام
أصواتهم تردها الآكام
والليل لا يخفي عيونهم
لا يخفي...
لمعة السؤال في الظلام

3

ويضحكون في خفوت
يتحدثون عن أشواقهم
عن ضمة الدفء في البيوت
عن كل ما يفوت
هناك...
لأني أخاف أن أموت

رأيت فيما يرى النائم

عدنا
وكل ما مر كان حلما ً سخيفا ً
وظنون
وأوهام طرقتنا ذات ليل
فبددها الصباح المجيد

أكملت أنا كلامي
وكتابي
وضحكت ِ أنت ِ على
ما قلت منذ زمن بعيد

وفقدنا الزمان
فر من تحت أرجلنا المكان
فغدونا في فراغ حبيب
كفراشتين
أو طفلتين في ليلة العيد

ثم توارى كل شيء
وأفقت سريعا
غارق في فراشي...
ملك وحيد

أتعرفين ما الذي سيؤذيني أكثر؟
أتعرفين ما الذي سيؤذيك أكثر؟
أن نتذكر
وأن نتمنى أن يعود الزمان السعيد

لم َ؟

لم َ كان كل هذا؟
كيف صرنا هكذا؟
كيف انتهينا؟
وكيف صرت أنا حكاية للآخرين !!!

ولم َ صرتي
ترسمينني بلا فم
وتضعين لي الكلمات
تغلقين الدروب إلي
وتحجبين الطرقات
وتطمسين الكثير
توارينه تحت أستار كثيفة
لتصوغي من جديد
رجل فريد
يعجب الناظرين

ولكن عندها ما الذي مني سيبقى
في المكان الذي قد كان يدعى قلبك
وعندما نلتقي يوما ً هل ستعرفيني؟
وهل سأعرف أنا الوجه الذي نبت
في المكان الذي قد كان وجهك !!!

* * *

- كان يتحدث عن أنثى، ألم تلاحظ ذلك؟ - قالها فهد ونحن عائدان -.

- ولم َ يحتاج إلى كل هذا الغموض؟ الرجال يتحدثون عن الإناث طيلة الوقت.

- ليس اللواتي يحبونهن.

- حسنا ً... ربما هو يتكلم عن فتاة ما، هل تعرف عدد القصائد التي كتبت عن النساء؟ تكاد كل قصيدة أن تكون رداء ً لامرأة.

- لا... لا... هناك شيء ما في تلك القصيدة، ولكن أحتاج للعودة إلى الإطلاع عليها، لأكتشفه.

- ربما... سنرى.

حاولت عدم التفكير في الموضوع، وإبعاد فهد والاستعاضة عنه بالحديث مع لينا، وقد خرجت أخيرا ً من منزل أهلها الهادئ، ولكنها كانت كعادتها مختصرة الأحاديث والكلمات.

وصلنا المنزل، خلعت ملابسي، ودفعت نفسي دفعا ً إلى الحصول على حمام دافئ، يغسل عن روحي وعن بدني دخان حسن.

عندما خرجت كانت لينا تنتظر!!!

كيف عرفت؟ أشياء كثيرة أخبرتني، لبسها، صوتها، نظرة عينيها، وذلك العطر الغامض الذي نثرته في الغرفة كنداء أو نذير.

في داخلي كان هناك رفض ونفور، رفض لهذا الصمت، ونفور من أن أستدرج هكذا بلا كلمات، فلذا تجاهلت كل هذه الإشارات، واستلقيت منتظرا ً نداء ً يسمع.

مرت دقائق وأنفاسنا لا تنتظم.

مرت دقائق والنور الخافت يرسم أشباح أجسادنا الراقدة.

مرت دقائق، خفت رائحة العطر وتبدد غموضه، غيب الغطاء ملابس لينا، ونزع الظلام أي معنى من نظراتها.

مرت دقائق وانتظمت أنفاس لينا.










موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)
   


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:13 PM.




 


    مجمموعة ترايدنت العربية