كنت خارجاً من المجلس بغية التدخين في الباحة الخارجيّة ، فالوالدة – أطال الله في عمرها – تمنعنا من التدخين في المنزل ، ونحنُ بدورنا نخشاها ونخشى دعواتها المستجابة آنفاً ، وأنا بطريقي للخارج رأيت على رف من الرفوف كتاب اسمه ( كشكول ) للطفل المعجزة الذي لا أذكر اسمه لكنني أذكر صورته على غلاف الكتاب ، ولد حديث البلوغ ، وكأنه من أبطال مسلسل باب الحارة ، خصوصاً نظرته الثاقبة والشماغ الذي يتدلدل من على كتفه دليلاً قاطعاً بأن هذا الولد ( فلتة ) و ( زاحف ) ! ، فتحت الكتاب على عجل وأنا أشعل السيجارة وقلّبت صفحاته وأنا أتوقع بأني سأجد وصفاً مصوراً لكيفيّة صناعة النبيطة أو كيف تشتري كامري في 3 خطوات ، يعني عطفاً على صورة الغلاف توقعت هذا كله .
المصيبة أنّ هذا الولد كان يتحدث عن مدرسة الإمام الشاطبي للمرحلة الثانويّة ، وأنه قد انتظم فيها دارساً حتّى تخرّج فيها ، وقد وقعت على الصفحة التي تحدث فيها عن مُعلّم مادة الكيمياء في تلك المدرسة ، السيّد / أبا ناصر ، يمدحه ويبجّله وكأنه أحمد زويل عصره ! ، بينما لم يتنبّه بأن هذا المُعلم قضى 30 سنة أو أكثر وهو يدرس مادة الكيمياء ومادة السوالف الشعبيّة ، 30 سنة معلماً بشهادة البكالوريوس وفي آخر عمره جاءنا خبر تفجيره الشهير في المعمل عندما أخطأ في نِسب المخاليط الكيميائية ! ، بينما لم يذكر الأستاذ والذي أصبح دكتوراً وأظنه الآن بروفيسوراً / الجرادة الدوسري – لا يحضرني اسمه الأوّل - ، والذي كان يدرسنا مادة الكيمياء ويذهب ظهراً إلى الجامعة لتحضير رسالة الماجستير في الكيمياء ، بل أحياناً كان درسه في المحاضرة الأخيرة عند الساعة الواحدة ظهراً ويشرح لنا وكأنه سيذهب بعد قليل للنوم في بيته ! ، بينما هو سيذهب تحت شمس الرياض الكاوية إلى الجامعة لإكمال دراسته ! .
هذا هو الفرق بين الجرادة الدوسري وبين أبا ناصر العجوز ، الجرادة لم يكن يضحك معنا كما كان يفعل الأخير ، ولم يكن يخرج عن الدرس ليتحدث عن تلك الفتاة الحسناء ويصف لنا جسدها وكأنه – ابن شرهان – ، أكثر ما كان يضحكني هو أنَّ أبا ناصر كان يحب الظهور في الصورة كثيراً ، فقد كان بشكل شبه يومي يأخذ المايكروفون في الطابور الصباحي ويتحدث عن خيرات هذا البلد وعن فتح الرياض وعن اليوم الوطني وعن توحيد المملكة بمناسبة وبغير مناسبة ، حتّى أحياناً يقوم المدير بفصل الكهرباء عن المايكروفون لأن المحاضرة الأولى بدأت منذ أكثر من 10 دقائق وأخينا في الله يهرطق في الظلّ ونحن تحمسنا أشعة الشمس ، المتملّق العجوز .
قال الكاتب بأن الطلبة كانوا يحبون أبا ناصر حبّاً جما ، بالتأكيد ستحبونه ما دام نصف محاضرته ينقضي في حديثه عن الفتيات وسوالف الجنّ وكأننا في هجرة من الهِجر ! ، لكن لم يقل لنا هذا الكاتب العبقري كم هي محصلته في مادة الكيمياء بنهاية العام ؟! ، وهل يعرف الفرق بين الميثانول والإيثانول ! ، أو أنَّ معرفته اقتصرت فقط على معرفة الفرق بين اليائس والبكر !! ، بينما الدكتور الجرادة انتشل أكثريّة الطلبة الذين كانوا يتمرغون في أوحال أبا ناصر زعيم العناصر ، فإن كان أبا ناصر زعيماً للعناصر ، فالجرادة تزعّم عقول الطلبة ، يكفي أنْ العجوز أبا ناصر انقضى من عمره 40 عاماً وهو يحمل شهادة البكالوريوس بينما الجرادة عمره لم يتجاوز بعد 28 عاماً وقد كان وقتها يستعد لنيل الماجستير في الكيمياء ، شتّان بين الهمم .
من هنا أنا أشكر الأستاذ الجرادة الدوسري ، وأقول له بأنك مثال حيّ للمعلم المكافح والمنافح ، وإنْ لم يذكرك الولد في كتابه الغارق ، فأنت سكنت القلوب وتركت الورق لغيرك .
وعلى كل حال ، فأنا لم أندهش من ركاكة الأسلوب وهشاشة المنطق التي حواها كتابه ما دام أبا ناصر كان المعلم والمُربي بالنسبة له .
وأتذكر المرحلة الابتدائية كاملة ، فأنا انتظمتُ في مدرسة أبي الطيّب المتنبي في مبناها القديم المستأجر ، وأذكر – والله – أنَّ فصلنا كان عبارة عن ( دورة مياة ) – أعزّكم الله - ! ، وأذكر أكثر المعلمين ، نبدأ بمن ؟! .
لنبدأ بالقرآن الكريم ومعلمه الأستاذ الجلّاد / فهّاد الزامل ، عليه رحمة الله إنْ كان ميتا ً وأطال الله في عمره إنْ كان حيّا ً ، ربما هذا المعلم القدير كان يتقاضى راتبا ً قدره 8000 ريال ، 7900 ريال تذهب سدا ً في شراء ( المسابح ) طبعا ً لا أقصد بالمسابح البرك المائيّة ، ذلك الوقت أصلا ً كان الناس يستحمون في المنطقة الشرقيّة ، أنا أقصد جمع ( مسبحة ) ! ، فهذا المعلم القدير كان يضربنا على ظهورنا بالمسبحة حتّى تنقطع وتتناثر حبّاتها في الفصل وتدخل بعضها في البالوعة – نظرا ً لأن فصلنا دورة مياه - ، وأذكر أنه من بيننا كان هناك طالب أسود اسمه عبد المجيد يعتمر ( طاقية زري ) ، لون عبد المجيد ليس أسود كما أسلفت ، لكنه سواد مخلوط بالشهاب ، بل يوجد فوق أذنه بعض فضلات الحمام في علامة قاطعة على أنَّ هذا الطفل القذر لم يسبق له أن تعرف إلى الماء ، عموما ً .. كان الأستاذ يقرأ سورة البلد ، وعند وصوله لقولة تعالى : (أو إطعام في يوم ذي مسغبة ) الآية الكريمة ، ضحك عبد المجيد بخبث ، وكرر الأستاذ السورة ، وضحك عبد المجيد عند ذات الآية ، فاستشاط الأستاذ فهاد غضبا ً ، ونحن لا ندري ما القصة !! ، وانهال عليه ضربا ً بالنعل والمسابح والطباشير والممحاة وكل ما هو أقسى من ظهر عبد المجيد الغض القذر ؛ وبعد سنوات عرفت لماذا ضحك عبد المجيد بخبث عند هذه الآية الكريمة !! ، ولو أنه كانت تُشرح لنا معاني الكلمات لما حدثت تلك الحادثة ولما ضحك عبد المجيد بخبث ! .
ودرّسنا أيضا ً الأستاذ / أحمد ، صاحب العصا الشهيرة ، والتي كان يبجلها قُبيل كل درس ، حيث كان يقول – والله لا أكذب – ( هذي العصا طالبينها الجنادرية ولا أعطيتهم إياها ، وتراها ما تحترق لو رميتها في النار ) ، حتّى خُيل لنا بأن عصاه هي عصا موسى ! ، وللعلم فقد كان يضعها في جيبه ، ويضرب ظهور أيادي الطلبة بحدّها ، حتّى يبكي من هول الألم والفجيعة ، والأستاذ يضحك .
ودرّسنا أيضاً الأستاذ / خالد ، وهذا كان طيبا ً مؤدبا ً خلوقا ً ، نجحنا من 3 ابتدائي ونحن لا نحفظ من كتاب الله شيء ولله الحمد .
هؤلاء كلهم يدرسون القرآن الكريم ، أما الأستاذ الكريم علي فهذا درّسنا كل شيء ، إنه جوكر وزارة المعارف ، أفضل ما فيه العنصريّة ، فقد كان يقسم الفصل قسمين ، اليمين لذوي البشرة البيضاء ، واليسار لمن هو أغمق من ذلك ! ، وأسوء ما فيه هلاليته المفرطة ، كان هلاليا ً خالصا ً ؛ أما معلم مادة الرسم ، فقد كان نواما ً – أي كثير النوم - ، متهلهلا ً أشعثا ً ، أصفر الوجه والأسنان ، وعروقه سوداء ظاهرة من أثر الشيشة ، وقد كنا نرسم طيلة 6 سنوات عن أسبوع المرور ، أما معلم مادة الرياضة والذي نبأ إلى علمي بأنه الآن يعمل مديرا ً لإحدى الأندية الرياضية في الدرجة الثالثة فقد كان عصبيا ً ، ولا يُخرج لنا الكرة لنلعب بها ! ، لقد كان يعطينا ( علب الببسي ) بدلا ً عن ذلك بحجة أننا سوف ( نسطّح ) الكرة ! ، إذن لماذا تصرف عليك وزارة المعارف وتجيء لك بالكرات ؟ ، وأذكر أنه مرة كان يشرح لنا كيفيّة الصعود على الخيل والخيل هذا ليس خيلا ً حقيقا ً ولكنه إحدى طرق تدريب الجمباز ، وقد كان هذا الخيل رفيعا ًو الأستاذ قصيرا ً ، فعندما صعد بقوّة .. هوى من الجهة الأخرى على وجهه ونزف أنفه واغرورقت عيناه بالدمع وبكى . . . ! .