نحن ندعوك لحضور عرس الشهيد
أرجوا متابعة الموضوع لأني سأقوم فيه بأضافة كل شيء يخص وطننا فلسطين
لست ميتكم.. إنما الميت ميت الأحياء
هذا الجسد المسجَّى في هودجه كان قبل لحظات مقبلاً غير مدبر، مزمجرًا في ساحة المواجهة، يرشق قوات الاحتلال بكل ما أوتي من قوة، وبما يتوفر له من حجارة، زجاجات حارقة.. رصاص.. هاون، لم يبخل على وطنه فلسطين في أن يقدم لها المزيد، ويبقى كذلك شامخًا صامدًا مقاومًا حتى أصابته رصاصة قناص احتلالي حاقد أو شظية
من قذيفة حوَّلت جسده إلى أشلاء؛ لتصعد روحه إلى عنان السماء، وينتهي بذلك مشواره الجهادي؛ ليبدأ رحلة الارتقاء للعلا، رحلة جليلة للشهيد مع أصدقائه وأبناء شعبه الذين فداهم بروحه.. إنها رحلة ما بعد الشهادة، عرس الوداع والخلود في حواصل طير خضر.
بداية الرحلة والحشود
معالم هذه الرحلة تبدأ بالظهور فور إصابة رصاصة أو شظية جسد شاب أو شبل منتفض، فيسقط ذلك الجسد الشامخ أمام آلات الحرب الإسرائيلية: الدبابات، والمدرعات، وطائرات الأباتشي، والـ"إف – 16"، ومنذ سقوط ذاك الشاب أرضًا تجد العشرات وصلوا إليه قبل وصول رجال الإسعاف –في غالب الأحيان– ويحملونه على أكتافهم، ويضعونه في سيارة الإسعاف التي تنقله –بدورها- إلى المستشفى لتلقِّي العلاج اللازم، ومحاولة إنقاذ حياته. وباستشهاده تكون قد بدأت رحلته التي نحن بصدد الحديث عنها.
بعد الإعلان عن نبأ الإصابة: خطيرة، متوسطة، أين هو الآن؟ في الإنعاش.. في العمليات، وفور الاستشهاد يبدأ الخبر في الانتشار في كافة المناطق الفلسطينية، وذلك عن طريق مكبرات الصوت في الشوارع والطرقات، ومساجد المدينة والمحافظات التي تبدأ تنعي الشهيد، وتعلن عن موعد انطلاق جنازته، يتجمع الناس لشدِّ أزر أهل الشهيد، ويبدءوا في نصب بيت العزاء والقيام بالواجب.
زفة العريس .. عفوا الشهيد
وهي ما يبدأ التحضير لها في صباح اليوم التالي من استشهاده، والكل يعمل على قدم وساق؛ هذا يخط على الجدران، وذاك يطبع صور الشهيد، وآخرون يعلِّقون الزينات. خلايا نحل وانطلقت، كل يعرف ما سيقوم به، وذلك حتى يتسنى للآلاف التي ترغب في السير في جنازة الشهيد المشاركة في الجنازة.
ثم يتوافد المواطنون -كبارًا وصغارًا، نساء وأطفالاً- إلى المستشفى لتسلم جثَّة الشهيد مع أهله من ثلاجة المستشفى، والانطلاق به إلى منزل عائلته، ويتم وضع الجثة في ساحة المنزل وسط هتاف الجماهير المحتشدة، وزغاريد نساء الحي وأهل الشهيد، التي غالبًا ما تمتزج بالدموع والبكاء الشديد.
اللحظات الأخيرة
ونعود إلى الشهيد الذي تركناه في ساحة منزل عائلته لإلقاء النظرة الأخيرة عليه؛ حيث يحضر عادة عدد من المسلحين الفلسطينيين، ويطلقون عدَّة أعيرة نارية في الهواء تحية للشهيد، وتقديرًا له ولبطولاته، وسط تكبير وتهليل الجماهير التي احتشدت أمام المنزل، وترديد الشعارات التي تنعي الشهيد، وتتوعد بالانتقام لدماء الشهداء.
وغالبًا ما يتم ترديد شعارات "بالروح بالدم نفديك يا شهيد"، "ويا شهيد يا مجروح دمك هدر ما بيروح"، "والانتقام الانتقام يا كتائب القسام"، ويدخل بعد ذلك العشرات من الشبان المتواجدين في
لا أدري من يرفع من ؟
الحي إلى منزل الشهيد؛ ليتسلموا الجثة من عائلته، متوجهين إلى مقبرة الشهداء، عند ذلك يشتد الألم في قلب والدته.. وباقي أفراد أسرته؛ لأنهم يعلمون أن خروجه هذا من المنزل سيكون الأخير، وغالبًا ما تسقط والدته أرضًا مغشيًّا عليها، ويبدأ نساء الحي بتهدئتها، والتخفيف من حدَّة الصدمة التي نزلت عليها، بينما يمضي الشهيد مع رفاقه الذين حملوه على الأكتاف والأعناق، ويواصل رحلته إلى مثواه الأخير، كل ذلك مشيًا على الأقدام
أحاديث ومعاهدة
ينطلق موكب الشهيد الذي يضم عدة آلاف من المشيعين بعد ذلك من منزل العائلة إلى أحد المساجد القريبة، وفي الغالب يتم الصلاة على الشهيد في المسجد الكبير الكائن وسط مدينة غزة "المسجد العمري"؛ وذلك لاستيعاب الجماهير التي تريد الصلاة على الشهيد، وتتم الصلاة بعد أداء صلاة الظهر غالبًا، ثم حمله للمرة الثالثة، والانطلاق به إلى مقبرة الشهداء.
وعلى الرغم من حرارة الشمس الملتهبة، وطول الطريق الذي يزيد عن عدة كيلو مترات ذهابًا وإيابًا؛ فإنه يتم قطع هذه المسافة مشيًا على الأقدام، يتخلل هذه المسيرة العديد من الأحاديث الجانبية، التي يعدِّد فيها المشاركون مناقب الشهيد، واللحظات الأخيرة له في ميدان المواجهة، وما الكلمات الأخيرة التي قالها قبل الإصابة؟ وكيف كان عازمًا على الشهادة؟ وصفاته، وميزاته، كرّه وفرّه، ومدى حبه للوطن، وفلسطين، وصدقه في طلب الشهادة، حتى نالها، ويتعاهدون هم أيضًا على الشهادة في الأيام القادمة، والتأكيد من خلال الهتافات الجماعية الحماسية على مواصلة طريق الشهداء، في الجهاد والاستشهاد حتى النصر أو التحرير.
حيّ الشهيد
تعود الجماهير التي شيعت الشهيد إلى بيت العزاء، وقد اختلفت معالم الحي الذي يسكنه الشهيد بشكل كامل؛ فقد تزينت الجدران بصور الشهيد، وبالشعارات التي كتبتها كافة القوى والفصائل الفلسطينية والتي تنعي الشهيد، وتتوعد بالرد والانتقام لدمه، ومواصلة الانتفاضة، وكذلك اللافتات الكبيرة التي يتم ربطها بأعمدة الكهرباء، وقد كُتب عليها شعارات تنعي الشهيد، وأبيات من الشعر الحماسي الذي يدعو الجماهير إلى الجهاد والسير في طريق الشهادة.
ويصطف أهل الشهيد مع أصدقائه المقربين في خط طويل؛ لتقبل التعازي من الوفود التي تحضر إلى بيت
أماه أنيّ شفيعك
العزاء تباعًا إلى جانب استقبالهم لقادة الفصائل والقوى الوطنية والإسلامية والوفود الرسمية التي غالبًا ما تأتي، ومعها أعداد كبيرة من المؤيدين والمناصرين لها، وخلال جلوس القادة في بيت العزاء يقوم أحد الممثلين بإلقاء كلمة قصيرة ينعي فيها الشهيد، ويدعو له، ويسأل أهله الصبر، ويؤكد أن المقاومة الفلسطينية ستنتقم، وذلك عبر مكبِّرات الصوت التي تتواجد في بيت العزاء طوال الأيام الثلاثة التي يستمر فيها عرس الشهيد مفتوحًا بشكل كبير أمام الجماهير؛ ليقتصر بعد ذلك على الأقارب والأصدقاء الذين يأتون بشكل مستمر لمواساة أهل الشهيد والوقوف بجانبهم
وأناشيده
ويجتهد العشرات من أصدقاء الشهيد خلال أيام العزاء في تقديم الحلوى، والتمر، والعصير على المهنئين، بينما يقوم آخرون بصبِّ القهوة لهم، وطوال أيام العزاء يتم فتح أشرطة القرآن الكريم، وأشرطة الأناشيد الإسلامية والوطنية؛ وذلك عبر مكبرات الصوت، وغالبًا ما تكون هذه الأناشيد تتغنَّى للشهداء أو لفلسطين والمقدسات الإسلامية؛ وهو ما يضفي جوًّا حماسيًّا على بيت العزاء، وهنا يختلف نوع الإنشاد من شهيد إلى آخر، وذلك حسب انتماء الشهيد للتنظيمات الفلسطينية؛ فمن الإنشاد الإسلامي -على سبيل المثال لا الحصر-، والذي يكثر استخدامه في بيوت العزاء، مثل أغنية "زفوا الشهيد وخلوا الزفة عالسنة" وأنشودة "فتنت روحي يا شهيد، علمتها معنى الخلود، شوقتنا إلى الرحيل، علمتنا معنى الصمود"، وأنشودة "يا أقصى ما أنت وحيد سجاك قلوبنا، عنك والله ما نحيد وأنت سراج دروبنا"، ومن الأناشيد والأغاني الوطنية "وين الملايين، الشعب العربي وين؟!! " وأغنية "مد إيدو يحنونه".
يأكلون ليلحقوا به
يتولى طعام الشهيد الجهة التي تتبنى الشهيد، أو التي ينتمي إليها الشهيد، سواء حماس، أو الجهاد، أو فتح، أو غيرها، وهي تقوم بذلك على مدى الأيام الثلاثة، ويقدم فيها الأرز، ويقدم الطعام لمن يكون حاضرًا بعد صلاة الظهر في اليومين الأولين، وقد يكون العدد بين 200 - 300 مواطن، وفي اليوم الثالث يُدعى المهنئون إلى وليمة نهاية العرس، ويُصنع طعام يكفي لحوالي 1500 إلى 2000 مواطن، وكل الطعام الذي يُصنع يؤكل والحمد لله؛ لأن الناس يقبلون على طعام الشهداء بنهمٍ غير عادي تيمُّنًا بالشهيد، وعلى أمل أن يكونوا مثله، ويستمر الطعام يقدَّم من بعد صلاة الظهر حتى ما قبل العصر بقليل، وبعدها يستمر العزاء إلى نهاية اليوم، وفي ساعات الليل تعود الحياة إلى ما كانت عليه.
وهكذا يمضي الشهيد إلى ربه مكرمًا في عليين، وأهله رغم الحزن في طمأنينة وفرح؛ لكونه سيكون شفيعًا لهم يوم القيامة، والأصدقاء يسعون لنيل شرف الشهادة كما نالها الشهيد.
العرض العادي
