هل رأى أحد منكم يوماً جنازة؟
هل تعرفون رجلاً كان إذا مشى رجّ الأرض، وإن تكلم ملأ الأسماع، وإن غضب راع القلوب، جاءت عليه لحظة فإذا هو جسد بلا روح، وإذا هو لا يدفع عن نفسه ذبابة، ولا يمتنع من جرو كلب؟!!!
هل سمعتم بفتاة كانت فتنة القلب و بهجة النظر، تفيض بالجمال و الشباب، وتنثر السحر و الفتون، تُبذل الأموال في قبلة من شفتيها المطبقتين كزر ورد أحمر، وتُراق الكبرياء على ساقيها القائمتين كعمودين من المرمر، جاءت عليها لحظة فإذا هي قد آلت إلى النتن و البلى، ورتع الدود في هذا الجسد الذي كان قبلة عُبّاد الجمال، وأكل ذلك الثغر الذي كانت القبلة منه تُشترى بكنوز الأموال؟!!
هل قرأتم في كتب التاريخ عن جبار كانت ترتجف من خوفه قلوب الأبطال، ويرتاع من هيبته فحول الرجال، لا يجسر أحد على رفع النظر إليه، أو تأمل بياض عينيه، قوله إن قال شرع، و أمره إن أمر قضاء، صار جسده تراباً تطؤه الأقدام، و صار قبره ملعباً للأطفال، أو مثابة ( لقضاء الحاجات)؟!!!
هل مررتم على هذه الأماكن، التي فيها النباتات الصغيرة، تقوم عليها شواهد من الحجر، تلك التي يقال لها المقابر؟!!
فلماذا لا تصدقون بعد هذا كله، أنّ في الدنيا موتاً ؟!!!!!
لماذا تقرؤون المواعظ، و تسمعون النذر فتظنون أنها لغيركم؟ وترون الجنائز وتمشون فيها فتتحدثون حديث الدنيا، وتفتحون سير الآمال و الأماني .. كأنكم لن تموتوا كما مات هؤلاء الذين تمشون في جنائزهم، وكأن هؤلاء الأموات ما كانوا يوماً أحياءً مثلكم، في قلوبهم آمال أكبر من آمالكم، و مطامع أبعد من مطامعكم !!
لماذا يطغى بسلطانه صاحب السلطان، و يتكبر و يتجبر يحسب أنها تدوم له؟ إنها لا تدوم الدنيا لأحد، ولو دامت لأحد قبله ما وصلت إليه.
ولقد وطئ ظهر الأرض من هم أشد بطشاً، وأقوى قوة، وأعظم سلطاناً؟ فما هي … حتى واراهم بطنها فنسي الناس أسماءهم!
يغتر بغناه الغني، و بقوته القوي، وبشبابه الشاب، و بصحته الصحيح، يظن أن ذلك يبقى له… و هيهات..!
و هل في الوجود شيء لا يدركه الموت؟!
البناء العظيم يأتي عليه يوم يتخرب فيه، ويرجع تراباً، والدوحة الباسقة يأتي عليها يوماً تيبس فيه، وتعود حطباً، والأسد الكاسر يأتي عليه يوم يأكل فيه من لحمه الكلاب، و سيأتي على الدنيا يوم تغدو فيه الجبال هباءً، وتشقق السماء، وتنفجر الكواكب، ويفنى كل شيء إلا وجهه.
يوم ينادي المنادي: { لمن الملك اليوم }
فيجيب المجيب: { لله الواحد القهار }
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت.
فاذكروا الموت لتستعينوا بذكره على مطامع نفوسكم، وقسوة قلوبكم.
اذكروه لتكونوا أرق قلباً و أكرم يداً، وأقبل للموعظة، وأدنى إلى الإيمان.
اذكروه لتستعدوا له، فإنّ الدنيا كفندق نزلت فيه، أنت في كل لحظة مدعو للسفر، لا تدري متى تُدعى، فإذا كنت مستعداً: حقائبك مغلقة و أشياؤك مربوطة لبّيت و سرت، وإن كانت ثيابك مفرقة، و حقائبك مفتوحة، ذهبت بلا زاد و لا ثياب.
فاستعدوا للموت بالتوبة التي تصفي حسابكم مع الله، و أداء الحقوق، ودفع المظالم، لتصفوا حسابكم مع الناس.
ولا تقل أنا شاب... و لا تقل أنا عظيم... و لا تقل أنا غني ....
فإن ملك الموت إن جاء بمهمته لا يعرف شاباً، ولا شيخاً، ولا عظيماً، ولا حقيراً، ولا غنياً، و لا فقيراً ..
ولا تدري متى يطرق بابك بمهمته ....!!
الكاتب: الشيخ علي الطنطاوي
مع تحياتي..
ريم المدينة