. إن الفراق لأليم .. وإن الشوق لمرير .. وإن المصائب لعظيمة .. هذا كله رأيته أمام عيني وشعرت به بقلبي .. وعايشته فترة لا يمكن أن أصفها .. أو أبين مدى ما سببته لي من متاعب .. سأقص ما مر علي وأسترجع هذا الماضي الأليم .. الذي أصبح درسا لا يمكن نسيانه .. وعظة لي في حياتي ..
إن عليا صاحبي.. وهو أخي وصديقي العزيز جدا.. هذا الشخص الذي تحلى بالأخلاق الإسلامية الفاضلة وتطبع بالطباع الحسنة السامية لقد عرف معنى الأخوة جيدا وطبقها سلوكا سويا في حياته فهو الصديق الوفي والأخ الحبيب الذي كان مثال الصاحب الصالح..إنه علي المتميز بخلقه وقدره ومحبته.. ما زلت أذكر عندما كنت معه في جلسة مع بعض الأصحاب مساء يوم الأربعاء .. في منزل أحدهم .. ولكن هذه الجلسة امتازت عن غيرها من الجلسات .. بل وحوت ركنا كاملا من ذكرياتي لما حصل فيها من سعادة وبسط وأنس وارتياح .. وحينها أصر الجميع أن تستمر جلستنا إلى الفجر .. وفعلا استمرت إلى الفجر .. ولما حان وقت الصلاة توجهنا إلى مسجد قريب وأدينا صلاة الفجر وبعد أن فرغنا من الصلاة عدنا إلى بيت صاحبنا نسبح الخالق العظيم ونستزيد من ذكره ونتلذذ بحمده وشكره في جو إيماني رائع .. وبينما نحن جلوس فاجأنا أحد الأصحاب بقوله أتدرون ماذا خطر ببالي ؟ قلنا له : الله أعلم وما الذي خطر ببالك يرحمك الله ؟ قال لقد هزني الشوق إلى زيارة بيت الله الحرام.. فقلنا له: والله لقد أحسنت ولا نرى مانعا من موافقتك على هذه الرحلة المباركة إن شاء الله تعالى وتمت موافقة الجميع تقريبا .. لكننا اختلفنا على الموعد فهل هو الخميس أو الجمعة ..كنت أريده عصر الخميس لأني كنت مشغولا يوم الجمعة ..ولكن بعض الزملاء أصروا أن يكون الجمعة .. كي نصلي الجمعة في المسجد الحرام فنكسب أجر الجمعة في المسجد الحرام .. وكان علي مصرا على ذلك وحاول إقناعنا بأسلوبه الرائع .. وظل يبين لنا فضل الصلاة في المسجد الحرام.. إلى أن اقتنع الجميع .. ومن ثم تباحثنا حول واسطة النقل التي ستقلنا.. وكان همنا أن نكون جميعا في سيارة واحدة .. ولكن عددنا كبير لا تتسع له سيارة صغيرة .. ففكرنا أن نذهب جميعا بالنقل الجماعي .. ولكن بعض الزملاء لم يوافقوا على هذه الفكرة .. العدد كبير .. فكيف نتدبر أمرنا وليس لدينا إلا سيارة واحدة .. إنها لمشكلة حقا.. جلسنا دقائق صامتين كل منا يسبر أفكاره لعله يجد حلا .. وفعلا توصل أحد الزملاء إلى اقتراح وجيه فقال:
يمكننا أن نأتي بسيارة من أحد أصدقائنا .. فسألتهم هل من أحد يقود السيارة ..فقالوا لا مشكلة في ذلك .. وكنت أعلم أن أغلبهم لا يملكون رخصة قيادة ...ولكن رغبتنا في الرحلة أنستنا البحث في موضوع القيادة. واتفقنا جميعا أن يكون الانطلاق صباح يوم الجمعة .. أما أنا فقد مكثت أنتظر الموعد بفارغ الصبر .. وأحاول وضع برنامج لرحلتنا من زيارات وغيرها .. وكنت فرحا جدا ..وفي عصر يوم الخميس بينما كنت أحلق في أجواء أفكاري.. إذ اتصل علي صاحبي علي .. وطلب مني أن أذهب إليه.. وفعلا ذهبت فورا وجلست معه نتشاور ونتحاور .... وكنت أرى نورا في وجهه .. وسكينة وهدوءا مميزا وكأنه شيخ ناسك عابد .. وخلال حديثنا تطرقنا إلى بعض المواضيع .. فول منا يطرح ما يجول في باله من فكر ورأي فعلي ليس بالصديق العادي بل كان الوفي المميز فلا حدود ولا فواصل بيننا .. وهمس لي ببعض الرؤيا التي رآها.. ومن ثم قال لي إنه بفضل الله أصبح يقوم الليل ويكثر من الطيبات والحسنات ويكثر التفكر في الآخرة.. وكنت أرى فيه وهو يحدثني وصفا كاملا للإنسان المؤمن .. تمنيت أن أكون كذلك .. ومن ثم أردت العودة إلى بيتي ولكنه أصر عليَّ أن نتناول العشاء سويا .. واضطرت للبقاء حفاظا على رضاه وتمشيا مع رغبته وبعد العشاء استأذنته على أمل اللقاء يوم الرحلة بإذن الله ..
عشت الساعات الأخيرة قبل الرحلة وأنا في سعادة لا يمكن أن أصفها .. حتى إني لم أنم تلك الليلة من كثرة التفكير فيها .. وفي الفجر اتصل علي وقال إن الشباب قد اجتمعوا عنده بالمنزل .. فذهبت مسرعا إلى هناك .. وعندما وصلت تناولنا بعض المأكولات الخفيفة .. ومن ثم انقسمنا إلى فريقين وكل فريق توجه إلى سيارة من السيارتين اللتين معنا.. .. وقبل الانطلاق بقليل تعطلت إحدى السيارتين تعطلت وبها
مشكلة وتحتاج إلى بعض الوقت .. وكنت أنا من طاقم السيارة المعطلة .. وعلي في السيارة الأخرى
مع أني كنت حريصا أن أكون معه ولكن هكذا كان التوزيع .. اتفق الجميع أن تتحرك السيارة الصالحة ومن ثم تتبعها الأخرى المعطلة بعد إصلاحها.. وفاجأني علي الذي آثرني على نفسه وطلب مني أن آخذ مكانه في سيارته وأن يبقى هو حتى تصلح السيارة الثانية.. ولكنني اعتذرت منه وآثرت أن أبقى مع السيارة المعطلة.. واستطعت إقناعه بالبقاء في سيارته0 تحركت السيارة الأولى إلى مكة وتحركنا بالسيارة الثانية إلى إحدى الورش .. وأصلحناها وبعد نصف ساعة انطلقنا نتبع أصدقاءنا إلى مكة.. ولما وصلنا تساءلنا عن أصحابنا الذين سبقونا في السيارة الثانية.. وقلنا لقد تأخرنا عليهم ؟ ولكن أين هم؟ لقد اتفقنا أن نجتمع بهم بالقرب من باب الملك فهد وقد سبقونا بنصف ساعة ما الذي حصل معهم؟ وما أثار خوفنا أننا رأينا ونحن في طريقنا إلى مكة حادثا مروريا وخشينا أن يكون الحادث مع أصحابنا000 وكننا استعذنا بالله تعالى وحاولنا طرد الأوهام والهواجس التي حركت مشاعرنا00 وقررنا أن نبحث عنهم داخل الحرم فربما شغلهم عن انتظارنا شوقهم لرؤية الكعبة المشرفة والطواف بها ولكننا لم نجدهم000 جلسنا حوالي ساعتين .. ومن ثم طلبت من أحد الأصدقاء أن يذهب للاتصال بمنزل أحد أصحاب السيارة الأولى وكنت أحفظ رقم هاتف بيت علي .... ولما عاد أخبرني بأنه لم يجد جوابا ولا ردا .. فشككت باتصاله لأن بيت علي لا يخلو من أصحابه فهم كثر ما شاء الله.. ذهبت بنفسي لأتأكد ولكن كما قال صديقي لا جواب ولا رد .. انتابني شعور بالخوف .. فاتصلت بمنزلي لعل وعسى أن أجد تفسيرا لما حصل .. وكلمني أخي الأكبر .. واكتشفت من نبرات صوته .. أن هناك شيئا ما .. وأخبرني بما لم يكن في الحسبان .. نزل الخبر على قلبي نزول سهم اخترق أعماقي .. وشل مداركي فلم أعد أحس بما أفعل لهول الصدمة التي أدمت قلبي قبل أن تذرف عيني الدموع.. وأصبت بارتباك شديد وارتعاش في أطراف جسدي .. حتى إني سقطت على الأرض عند باب المحل الذي كنت أتصل منه .. فلاحظ من كان ينتظرني تأخري فأتى ليرى ما الذي أخرني.. وأخذته المفاجأة عندما رآني أسكب الدموع بغزارة وأقبل علي يسألني ما بك ؟ ما الذي حدث لك ؟ أخبرته الخبر .. فأصابه ما أصابني من الحزن .. .. ومن ثم بلغ الخبر الجميع وخيم الحزن.علينا وانطفأت البسمات التي كانت تعلو شفاهنا ولما صحونا من هول الكارثة توجهنا راجعين إلى جدة لنشارك في تشييع جنازة صاحبنا علي وللاطمئنان على صحة الزملاء الذين أصيبوا في الحادث00 لقد تعلمت من رحلتي دروسا لن أنساها ما حييت00 لقد اختار القدر عليا لأن أجله قد حان وأجلني لأن لي بقية من عمري سبحان من قدر الأقدر وأجل الآجال وإنا لله وإنا إليه راجعون
العرض العادي
