كانت نبضات قلبه منذ سنواته الاولى ..مختلفة عن الاطفال..
شقاوته لم تتجاوز ..تاملات عينيه لكل ما يثير الفضول من حوله..
كانت طفولته ..اشبه بطفولة "الرجال"..
لم تكن تكاد تلحظ وجوده عندما "يصدع "راسك بـ"ضجيج" الاطفال ..
في زاوية هادئة ..كان يستلهم صفاءه الفطري ببراءته المعتادة..
حالما خطت اقدامه الفتية ..ساحة المدرسة ..
تلمس "المعلمون" في المدينة ..ملامح المبدعين..
فوقفوا اجلالا لذلك الصغير..
كانت حافظته الصغيرة تتسع لكل شيء..مناهج المدرسة.. اسرار العابه المتناثرة هنا وهناك ..اسماء ادوية الانفلوازا و الزكام ..قصائد..ذكريات..واحاديث الكبار..
وكنت استشعر في ابتساماته ..ثقة متناهية..
وفي كلماته حبا فطريا للاخرين..
ياخذك معه اينما كنت ..الى احلامه الطيبة..بعيدا عن صراعات الحياة ..
كان يختلس من دقائق وقته المليء بالاحلام ليتصل بي و بغيري ..
لم تكن ثمة ..اشياء تفصله عن التواصل من يحب..
ورغم كل هذا..كان بيننا من يحسده..!
مرة ايام ..و لم اره..
افتقدته كثيرا ..
ادرت سماعة هاتفي لاسال عنه وكان الجواب..في المستشفى..
"خير انشاء الله"
"مرض عابر"
"ما يشوف شر"
اعدت الاتصال و اذا بالجواب يعود من جديد..
ملل...ضجر..و اسئلة تدور في بالي..
و في مكان اخر كان يستمع لخواطري ..بحاسته المعهود..
لكنه لم يجب..
في منتصف ليلة غصت بها الذاكرة..
افقت على رنين الهاتف..
تملكني شعور عارم ..بان اتجاهل المكالمة..
عاد الرنين من جديد .. يملِؤ ارجاء الغرفة..
لم استطع ان اقاوم الفضول..
رفعت سماعة الهاتف..وكان على الجانب الاخر نبرات جريئة..تقول:
اتعرف اين "فهد"؟
في المستشفى..
اتعرف ماذا اصابه؟
مرض عابر..
توقف المتصل عن الكلام..لاشتم رائحة "خبر عاجل" ..و غير سار..بادرت بالسؤال..
هل تعرف شيء عنه ..؟
نعم ........اصابه السرطان..
اغلقت السماعة.. و توقفت الذاكرة..
في مساء يوم حزين كان يستعد للسفر الى الخارج للعلاج..
وكانت اجواء منزله اقرب للعزاء..
توجهت لتوديعه ..مستجمعا قواي..
عندما راني قام للترحيب بي متكأ على ما تبقى من عزيمته..
لم تفارق بسماته وجهه المضيء رغم كل ما اعتصره من الم..
لكنه .. اصر على ان يمنحني درسا اخر في الحياة..
قال لي.."لا يهمك انا بخير ..و بقابلك بعد عودتي معافى"..
كان ايمانه بالله..وحبه للاخرين..اقوى من تلك الظروف..
رحل اخي "فهد"
ومضت الشهور تلو الشهور..
لا اعلم بحاله ..انقطعت وسائل الاتصال..
و لكني تعلمت منه ان استمع الى حاسة اخرى يمكن ان تجوب العالم باسره بحثا عن خواطر شخص عزيز.. لم ينطق بها..
لم تكن الاخبار تنبئ بلقياه مرة اخرى ..
و لكني كنت على ثقة بان عزيمته .. كافية لتوفي بوعده لي..
ذات يوم رجع من سفره ..
شفي من المرض..
التقيته دون موعد..
ولم اصدق عيني..
لم يعد منه الا بقايا جسد..من فرط تاثير المرض..والادويةّ..لم اعرفه حتى
استقبلني بحرارة..و بطريقته المعهودة..
اصر على ان يخبرني باسرار لم يقلها لاحد..
قال لي..اتعرف ..انا لم اتجاوز الثامنة عشر و لكني احس بان عمري يقترب من الستين..رايت الموت يهددني في كل مكان..ولكني كنت احس باني ساعود الى الوطن ..و سالتقيك ثانية مثلما وعدتك..
و مضى يقول.. تعلمت من محنة المرض ..قوة الايمان بالله..و كيف يصنع الرضاء بالقدر..لم اعد اكترث بصغائر الامور..
الحمدلله على كل شيء..
رجعت الى منزلي ..شعرت برغبة جامحة في البكاء..تذكرت كلماته المفعمة بالايمان.. و هنا ايضا ..توقفت الذاكرة..
في مساء اخر عاده اليه المرض مرة اخرى ..وكانه اشتاق له ايضا..1
استشرت الالام بجسمه النحيل..و فارق الوعي..
لم يكد يفق اياما طويلة ..
و لم يعد يتكلم الا عبر حاسته..التي كنا تتواصل بها..
وفي صباح يوم اخير..
حيث كان والده يرافقه استيقض "فهد"باكرا ..وصلى صلاة الفجر..ووجهه المنير ..لا تبدو عليه اثار"المرض"..
شرب قهوة الصباح ..
وكانت بسماته لا تفارق وجهه ..ثم عاد الى سريره..
اغمض عينيه المتعبتين ..
ورحل مرة اخرى ..
ولكن في هذه المرة ..رحل الى جوار ربه..بوجه باسم.. و نفس مطمئنة..
.. مضى على تلك الاحداث ..سنوات طويله ّ..
توقفت عندها الذاكرة..
** صحافي سعودي
. ورقةاخيرة..
. ليست العبره بمن يتذكرونك ..وانت معهم ..
. ولكن..
. هل ..سيتفتقدك احدهم بعد رحيلك ..؟