كشف شبهات مجوزي المظاهرات
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته .......... أما بعد،،،
فإن فقد علماء السنة رزية، وتترتب عليه مفاسد جلية، ومن أعظمها: تجاسر أهل البدع في الدعوة إلى بدعهم وضلالهم، قال الآجري في كتابه أخلاق العلماء: فهم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا ا.هـ
ومن الأمثلة على ذلك: ما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن أكثم قال: قال لنا المأمون: لولا مكان يزيد بن هارون، لأظهرت القرآن مخلوق. فقيل: ومن يزيد حتى يتقى ؟ فقال: ويحك إني لأرتضيه لا أن له سلطنة، ولكن أخاف إن أظهرته، فيرد علي، فيختلف الناس، وتكون فتنة .وفي هذا ما يدل على أن حياة أئمة السنة حماية للشريعة ولعموم البرية من البدع والضلالات الردية ، وهذه القصة وإن كانت في رد بدعة من الحاكم، فهي كذلك في عموم أهل الضلالة، سواء كانوا حكاماً أو محكومين، وبعض من ربي على الثورة والتحزبات البدعية قصر فهمه على أن الشجاعة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق أمام الحكام فقط دون غيرهم .
والواقع أن الأمر أعم وأشمل، بل إن الشجاعة حقاً في مصابرة النفس على مخالفة الجماهير؛ لنصر سنة، وقمع بدعة، وما أكثر الذين وجدوا في مواجهة الحكام سوقاً رائجاً في جمهرة الناس حولهم، وبعضهم اتخذه سبيلاً لتحقيق مأربه، فإذا تجمهر الناس حوله ساوم الحكام تصريحاً أو تعريضاً على مصالح مادية ونحو ذلك.
وإننا لما فقدنا في هذا العصر أئمته الثلاثة الإمام عبد العزيز بن باز، والإمام محمد ناصر الدين الألباني، والإمام محمد بن صالح العثيمين – رحمهم الله رحمة واسعة -.
أظهر كثير من أهل البدع والضلالة وغيرهم أقوالهم الضالة بعد أن كانوا لها مستترين خوفاً من شهب هؤلاء الأئمة الثلاثة على أن بعضهم ظن الأمر سهلاً، فأظهر مقالته الضالة، ففجع بشديد تفرق الناس عنه، وإنكارهم عليه على إثر كلام هؤلاء الأئمة الثلاثة أو بعضهم فيه، كما جرى لعبد الرحيم الطحان، ويوسف القرضاوي، إلا أن الثاني كان يسانده حزبه الإخواني، كما قال تعالى: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ )، ومع ذلك كان النفور منه شديداً، ولم يتقو إلا بعد موتهم .
وممن رد عليه العلماء عبدالرحمن عبد الخالق -رأس السرورية في الكويت، وهو التابع لجمعية إحياء التراث، ومن تبرعات المسلمين التي تجمعها الجمعية يقتات، وعلى يده تخرج السروري حامد العلي وأمثاله-، فإنه لما رد عليه الإمام عبد العزيز بن باز في تجويزه للمظاهرات بادر بإظهار توبته، ثم لما توفي الإمام ابن باز نكص على عقبيه، وشارك في عدة مظاهرات بالكويت، مما يدل على أن توبته كانت تقية، وأكد ذلك بعض أنصاره.
وعلى إثر موت هؤلاء الأئمة الثلاثة، وتوالي الفتن، تقوى الحزبيون والمتأثرون بهم في إظهار القول بشرعية المظاهرات، فلما رغبوها، واستحسنتها نفوسهم أرادوا مسلمتها، فأخذوا يتكلفون للتدليل عليها بما فيه شبهة للدلالة عليها، وما لا شبهة فيه، فاعتقدوا أولاً، ثم استماتوا للاستدلال عليها ثانياً، كما هي عادتهم في كثير من الوسائل المحدثة، كالأناشيد المسماة إسلامية، والتمثيل المسمى إسلامياً، وهكذا ...
وإليك ما وقفت عليه من شبهاتهم، وجوابها، وكشفها، ليثبت السلفي على الحق الذي كان عليه أئمة العصر الثلاثة، ويجتنب البدع المضلة وأهلها.
وقبل إيراد شبهاتهم، وكشفها -بحول الله وقوته -، إليك الأدلة على حرمة المظاهرات:
إن المظاهرات قسمان:
القسم الأول / المظاهرات التي يراد منها أمور شرعية دينية.
القسم الثاني/ المظاهرات التي يراد منها أمور دنيوية، وهذه نوعان:
النوع الأول: المظاهرات لإسقاط حاكم؛ لدافع دنيوي لا ديني .
النوع الثاني: المظاهرات لتحصيل ما سوى ذلك من أمور الدنيا .
أما القسم الأول/ المظاهرات التي يراد من ورائها تحقيق أمور شرعية دينية، فهذه بدعة في الدين؛ لأنها محدثة، والقاعدة الشرعية النبوية: أن كل بدعة ضلالة، كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه عن جابر من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل: إن هذه من الوسائل، والأصل في اتخاذ الوسائل الجواز ما دامت مباحة.فيقال: هذا حق، لكن في غير الوسائل المؤدية إلى العبادات، فإن للوسائل أحوالاً ثلاثة:
الحالة الأولى: الوسائل الملغاة؛ وهي الوسائل التي جاء النهي عنها بدليل خاص، ولا إشكال في بدعية اتخاذ هذه الوسائل، كاتخاذ التمثيل وسيلة من وسائل الدعوة؛ لأنه محرم؛ لكونه متضمناً الكذب.
الحالة الثانية: الوسائل المعتبرة؛ وهي التي نص الشرع على جوازها بنص خاص، مثل: جعل الأذان وسيلة للإعلام بدخول وقت الصلاة، ولا إشكال في شرعية هذه الوسائل .
الحالة الثالثة: الوسائل التي لم يأت نص خاص بجوازها، ولا حرمتها، وهذه تردد بين المصالح المرسلة، والبدع المحدثة . والضابط في التفريق بين هذين النوعين دقيق، حرره تحريراً بديعاً شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان يردده كثيراً العلامة الألباني – رحمه الله -، وخلاصة ذلك أمران:
الأول: أن ينظر فِي هذا الأمر الْمُراد إحداثه لكونه مصلحة, هل الْمُقتضي لفعله كان موجودًا فِي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والْمَانع منتفيًا؟
أ- فإن كان كذلك ففعل هذه الْمَصلحة -الْمَزعومة- بدعة؛ إذ لو كانت خيرًا لسبق القوم إليه فإنَّهم بالله أعلم, وله أخشى, وكل خير فِي إتباعهم فعلاً وتركًا.
ب- أما لو كان الْمُقتضي -أي: السبب الْمحوج- غير موجود فِي عهدهم، أو كان موجودًا، لكن هناك مانع يَمنع من اتِّخاذ هذه المصلحة، فإنه لا يكون بدعة، بل يكون مصلحة مرسلة, وذلك مثل جَمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن الْمُقتضي لفعله غير موجود؛ إذ هو بين أظهرهم لا يُخشى ذهابه ونسيانه, أما بعد موته فخشي ذلك لأجل هذا جَمع الصحابة الكرام القرآن.ومن الأمثلة أيضًا: الأذان فِي مكبرات الصوت, وتسجيل المحاضرات في الأشرطة السمعية, وصلاة القيام في رمضان جماعة, فكل هذه الأمور كان يوجد مانع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعلها, أما الأمران الأولان: فعدم إمكانه لعدم وجودها في زمانه, أما الأمر الثالث: فإنه ترك الفعل خشية فرضه, وبعد موته لم يكن ليفرض شيء لَم يكن مفروضًا من قبل.
الثانِي: إن كان المقتضي غير موجود فِي عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فيُنظر فيه هل الداعي له عندنا بعض ذنوب العباد؟ فمثل هذا لا تُحَدثُ له ما قد يسميه صاحبه مصلحةً مرسلةً، بل يؤمرون بالرجوع إلَى دين الله والتمسك به؛ إذ هذا الْمَطلوب منهم فعله، والْمَطلوب من غيرهم دعوتُهم إليه, ويُمثل لِهذا بتقديْم الخطبة على الصلاة فِي العيدين؛ لأجل حبس الناس لسماع الذكر، فمثل هذا من البدع الْمُحدثة لا من الْمَصالِح الْمُرسلة, وإليك كلام الإمام الْمُحقق ابن تيمية فِي بيان هذا الضابط:قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/598): والضابط فِي هذا -والله أعلم-: أن يُقال: إن الناس لا يُحدثون شيئًا إلا لأنَّهم يرونه مصلحةً؛ إذ لو اعتقدوه مفسدةً لَمْ يُحدثوه, فإنه لا يدعو إليه عقلٌ ولا دينٌ, فما رآه الناس مصلحةً نظر فِي السبب الْمُحوج إليه, فإن كان السبب الْمُحوج أمرًا حدث بعد النَّبِي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا، فهنا قد يَجوز إحداث ما تدعو الْحَاجة إليه, وكذلك إن كان الْمُقتضي لفعله قائمًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن تركه النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِمعارضٍ زال بِموته. وأما ما لَمْ يَحدث سببٌ يُحوج إليه، أو كان السبب الْمُحوج إليه بعض ذنوب العباد، فهنا لا يَجوز الإحداث؛ فكل أمرٍ يكون الْمُقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودًا لو كان مصلحةً، ولم يُفعل يُعلم أنه ليس بِمصلحةٍ, وأما ما حدث الْمُقتضي له بعد موته من غير معصية الخلق, فقد يكون مصلحة – ثم قال: فأما ما كان الْمُقتضي لفعله موجودًا لو كان مصلحةً, وهو مع هذا لَمْ يشرعه, فوضعه تغييرٌ لدين الله, وإنَّما دخل فيه من نسب إلَى تغيير الدِّين من الْمُلوك والعلماء والعباد، أو من زلَّ منهم باجتهاد, كما روي عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وغير واحدٍ من الصحابة:" إن أخوف ما أخاف عليكم: زلَّة عالِم, وجدال منافقٍ بالقرآن, وأئمةٌ مضلُّون ".
فمثال هذا القسم: الأذان في العيدين, فإن هذا لَمَّا أحدثه بعض الأمراء, أنكره الْمُسلمون؛ لأنه بدعةٌ, فلو لَمْ يكن كونه بدعةً دليلاً على كراهيته, وإلا لقيل: هذا ذكرٌ لله ودعاءٌ للخلق إلَى عبادة الله, فيدخل في العمومات, كقوله: (اذكروا الله ذكرًا كثيرًا) وقوله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعآ إلَى الله وعمل صالِحًا)...الخ ا.هـ .
وبعد هذا التحقيق البديع من شيخ الإسلام ابن تيمية، فإن فعال الصحابة والسلف دالة على دخول البدع في الوسائل، كما تدخل في الغايات، ومن نازع في ذلك نازع سلف الأمة وهم خصمه، ومن الأمثلة الدالة على ذلك:
ما روى البخاري في قصة جمع المصحف وأن عمر بن الخطاب أشار على أبِي بكر بالْجَمع, فقال له أبو بكر: كيف تفعل شيئًا لَمْ يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبِمثل هذا أجاب زيد بن ثابت أبا بكر الصديق لَمَّا عرض عليه جَمع الْمُصحف.
ففي هذا دلالة واضحة على أن البدع تدخل فِي الوسائل كما تدخل فِي العبادة ذاتِها ؛ وذلك أن جَمع الْمُصحف من الوسائل, ومع ذلك احتجوا بعدم فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: لِماذا إذن جَمعوا المُصحف مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يفعله؟
فيقال: لأن مقتضى -أي: سبب- الْجَمع وجد فِي زمان أبِي بكر t, ولَمْ يكن موجودًا فِي زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو حي بين أظهرهم فبوجوده لا يُخشى ذهاب القرآن.
ومن الأدلة أيضًا: ما ثبت عند الدارمي وابن وضاح أن ابن مسعود أنكر على الذين كانوا يعدون تكبيرهم وتسبيحهم وتَهليلهم بالْحَصى, واحتج عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لَمْ يفعلوا, مع أن عدَّ التسبيح راجع للوسائل.وبعد أن تبين أن المظاهرات التي تفعل لأمور شرعية دينية بدعةٌ محدثةٌ،لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته مع إمكان فعلها، فلا يصح لأحد بعد هذا أن يعترض بأن الأصل فيها الإباحة، فلا تمنع إلا بدليل؛ لأنها عبادة، والأصل في العبادات الحرمة. وهذا مثل من لم يقنع بالمنع من الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ بحجة أنه لا دليل يدل على المنع.
فيقال: إن الدليل على منعها كونها عبادة، ولا دليل على شرعيتها، فتكون بدعة؛ لأن الأصل في العبادات الحضر، والمنع .
أما القسم الثاني/ المظاهرات التي يراد منها تحقيق أمور دنيوية، وهذه نوعان -كما تقدم-؛ أما النوع الأول: وهي المظاهرات لإسقاط حاكم لدافع دنيوي لا ديني، فهذه محرمة بدلالة كل نص على وجوب السمع والطاعة للحاكم، ولو كان فاسقاً غير عدل، فمع تكاثر الأدلة في حرمة هذا الفعل -وهذا كاف-، فكذلك السلف أجمعوا على حرمة هذا الفعل، وتضليل من خالف فيه، ودونكم ما شئتم من كتب الاعتقاد السلفي، ومن حاول المنازعة في هذا فقوله مردود، وهو ضال قد خالف ما عليه دلائل السنة وآثار السلف، وبمثله ضلل السلف أقواماً .
وتزداد حرمة هذا النوع إذا فعل لأجل الدين أيضاً، فإنه بالإضافة إلى كونه محرماً يكون بدعة، ثم كل ما سيأتي من الأدلة في النوع الثاني يصلح دليلاً على حرمة هذا القسم، وللشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم – رحمه الله – كتاب نفيس فيما يتعلق بهذا النوع، قد أثنى عليه شيخنا العلامة ابن عثيمين في شرحه على السياسية الشرعية لابن تيمية، واسم الكتاب: معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة.
أما النوع الثاني: المظاهرات لتحصيل ما سوى ذلك من أمور الدنيا، فهي محرمة لأوجه كثيرة، منها:
الوجه الأول/ أن المظاهرات، ولو كانت سلمية، خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الحكام الذين اغتصبوا الحقوق، كما أخرج الشيخان عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ستكون أثرة ( حكام يؤثرون أنفسهم عليكم في أخذ حطام الدنيا )، وأمور تنكرونها (حكام عندهم معاصي شرعية ) " . قالوا يا رسول الله فما تأمرنا ؟ قال:" تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم " وفي الصحيحين عن أسيد بن حضير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " فنحن مأمورون بالصبر، لا بالمظاهرات للضغط على الحكام، وقد أمر أئمة السنة بالصبر وقالوا: حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر .
الوجه الثاني/ أن فيها فتح باب شر بتحكيم الشعوب، فكلما أراد الشعب أموراً تظاهروا للمطالبة به، فإذا أراد أهل الشهوات أمراً من أمور الشهوات المحرمة تظاهروا للمطالبة به، فاستجيب لهم، وإذا أراد العلمانيون والليبراليون أمراً تظاهروا للمطالبة به، فاستجيب لهم، وهكذا ... ومن المعلوم أن أهل الاستقامة والديانة أقل من غيرهم بكثير في المجتمعات الإسلامية قال تعالى: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُون)
الوجه الثالث: أن أكثر المظاهرات إن لم يكن كلها متضمنة على اختلاط الرجال بالنساء، الاختلاط المحرم، وما خالف ذلك فهو قليل لا حكم له، والواقع المشاهد خير برهان .
الوجه الرابع: أن جور الحكام بسبب ذنوب المحكومين، والذنوب لا ترفع إلا بالتوبة والاستكانة إلى الله لا بالمظاهرات، قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (4 / 315): وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإن الله تعالى يقول: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ). وكان طلق بن حبيب يقول: اتقوا الفتنة بالتقوى ... ا.هـ
هذه الأوجه الأربع في المظاهرات التي يقال إنها سلمية، أما غير السلمية فهي زيادة على ما تقدم تحتوي على قتل للنفوس وإهلاك للأموال، وانتهاك للأعراض، وغير ذلك.
وبعد هذا كله إليك شبه المجيزين للمظاهرات، وكشفها، وأؤكد أن واقع حالهم اعتقدوا، ثم سعوا ليستدلوا، فتكلفوا وحرفوا نصوص الشريعة .
الشبهة الأولى/ ادعى مجوزو المظاهرات أن فعل المتظاهرين قد دلت عليه السنة، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية(1/40): أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بعد إسلام عمر - رضي الله عنه - على رأس صفين من أصحابه، وعلى الأول منهما عمر - رضي الله عنه -، وعلى الثاني حمزة - رضي الله عنه - رغبة في إظهار قوة المسلمين، فعلمت قريش أن لهم منعة ا.هـ
وهذا لا دلالة عليه من وجهين؛ دراية، ورواية:
الوجه الأول رواية: فإن إسناده ضعيف؛ لأن فيه إسحاق بن أبي فروة، قال الإمام أحمد: لا تحل عندي الرواية عنه. وقال: ما هو بأهل أن يحمل عنه، ولا يروى عنه. وقال الإمام ابن معين عنه: كذاب. ( تهذيب التهذيب )
الوجه الثاني دراية: أنه لا ولاية في مكة، وكان أعداؤهم حربيين، فلما تقووا استعملوا القوة في مقدار ما يستطيعون. فأين هذا من تجمع أناس على حكامهم؛ لإظهار سخطهم على فعل ما!؟
الشبهة الثانية/ ادعى مجوزو المظاهرات أنه قد دل على جواز المظاهرات: أنها وسيلة قد جربت، فوجد نفعها بأن حصل المطلوب، وكشف هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: أنها أيضاً جربت في مواطن كثيرة وكثيرة جداً، فلم تنفع، فهي وسيلة مظنونة، وليس حدث تظاهر المسلمين في فرنسا ضد قرار منع الحجاب عنا ببعيد، فلم ينفع، والأمثلة كثيرة، وما كان كذلك، فلا يجوَّز به المحرم، وقد تقدم ذكر الأدلة على منعها وحرمتها .
الوجه الثاني: أنه لو قدر حصول النتيجة من هذه الوسيلة، فإنه لا يدل على حلها ولا صحتها بحال، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة.
الشبهة الثالثة: استدل مجوزو المظاهرات بأنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه جارًا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم – ثلاث مرات – " اصبر " ثم قال له في الرابعة أو الثالثة: "اطرح متاعك في الطريق " ففعل. قال: فجعل الناس يمرون به ويقولون: ما لك؟ فيقول: آذاه جاره فجعلوا يقولون: لعنه الله، فجاءه جاره فقال: رد متاعك، لا والله لا أوذيك أبداً . وفي رواية فجاء – الذي آذى جاره - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما لقيت من الناس؟ فقال: "وما لقيت منهم؟ " قال: يلعنونني، فقال: " لقد لعنك الله قبل الناس " قال: إني لا أعود، فجاء الذي شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" ارفع متاعك فقد كُفْيت"
وفي رواية قال: فاجتمع الناس عليه .
واستدلالهم بهذا الحديث مما يدل على أنهم اعتقدوا، ثم تكلفوا الاستدلال، ولو بما لا دلالة فيه، كهذا الحديث.
وجه الدلالة هو أنهم اجتمعوا على إنكار هذا الفعل .وكشف هذه الشبهة من أوجه :
الوجه الأول: : إن رواية " فاجتمع الناس عليه " مخرجة في الأدب المفرد؛ وهي رواية ضعيفة لأنها من طريق محمد بن عجلان عن أبيه .
الوجه الثاني: أن اجتماعهم هذا جاء وفاقاً لا قصداً للضغط والإنكار، بخلاف المظاهرات التي نحن بصددها .
الوجه الثالث: أنه لو سلم بأن الرواية صحيحة، وأن الاجتماع كان مقصوداً، فأين هذا من تجمع أناس للضغط على الحاكم، كما هو فعل المتظاهرين .
الوجه الرابع: أنه لو سلم بأن الرواية صحيحة، وأن الاجتماع كان مقصوداً، فغاية ما في الاستدلال أنه من باب القياس، ومن المتقرر عند العلماء قاطبة: أن القياس إذا صادم نصاً صار قياساً فاسداً، فلا يحتج به. وتقدمت الأدلة على حرمة المظاهرات .
الوجه الخامس: إن هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم خطورة فعل هذا الجار، فيتعظون، فهو ذو سلطان يستطيع الإنكار باليد .
الشبهة الرابعة/ استدلوا بأن الشريعة دعت لصلاة العيد بالمصليات، وحثت الرجال والنساء حتى ذوات الخدور والحيض على شهود العيد، فدل هذا على مشروعية المظاهرات؛ لأن فيه إظهار قوة المسلمين، والمظاهرات كذلك . وكشف هذه الشبهة من أوجه:
الوجه الأول: لم تشرع صلاة العيد في المصليات؛ لإظهار قوة المسلمين، وإنما لإظهار هذه الشعيرة لحكمٍ، منها: إظهار تآلف المسلمين، والاجتماع في مكان واحد؛ لإظهار الفرح والسرور بهذا العيد. ويؤكد ذلك أنه فعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا في قوة، وهكذا في عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وكان وقتها وقت قوة، لاسيما في المدينة النبوية، فليسوا في حاجة لإظهار قوة المسلمين .
الوجه الثاني: إن غاية ما في هذا – إن سلم به – أنه قياس، والقياس إذا صادم الأدلة الشرعية صار قياساً فاسداً.
الوجه الثالث: أين هذا من التجمهر لإظهار السخط على نظام أو قرار؟
عجباً من هذا الاستدلال أفلا تعقلون .وبهذه الأوجه يرد على استدلالهم بصلاة الجمعة والجماعة في المساجد وهكذا ...
الشبهة الخامسة/ استدلوا بأن الشريعة دعت إلى إنكار المنكر، وهذه المظاهرات من إنكار المنكر، وكشف هذه الشبهة من أوجه:
الوجه الأول: أنه لا يسلم جواز إنكار المنكر بهذه الطريقة -لما تقدم ذكره من الأدلة على حرمتها-، فلا يصلح الباطل بالباطل، وطرق الإصلاح المشروعة كثيرة لمن ابتغاها .
الوجه الثاني: أن تحقق المصلحة من هذه الطرق مظنونة، وهي لم تنفع في حالات كثيرة، فما كان كذلك لا يجوّز به المحرم، لا سيمت وقد ترتب على كثير من المظاهرات منكر أكبر .
الوجه الثالث: إن الشريعة شرعت طرقاً لإنكار المنكر، فمن سلكها فحصل المراد، فالحمد لله، وإذا لم يحصل المراد برأت الذمة، وأدى الذي عليه .
الشبهة السادسة/ استدلوا بأن العز بن عبد السلام وغيره قد فعلوا أمثال هذه المظاهرات.
وكشف هذه الشبهة من أوجه:
الوجه الأول: أنه لو سلم فعل هؤلاء العلماء لها، فإن أقوال وفعال العلماء يحتج لها ويعتضد بها، لا يحتج بها، فليست حجة بالإجماع، والأدلة دلت على عدم مشروعية هذه المظاهرات كما تقدم .
الوجه الثاني: أن كثيراً مما يحكونه عن أهل العلم في هذا الصدد ليس من المظاهرات في شيء، وإنما توسعوا تحججاً بالقياس الفاسد، فقاسوا على المظاهرات .
الوجه الثالث: أن كثيراً من البدع قد وقع فيها من يسمون علماء، فالعز بن عبد السلام مثلاً يرى أنه بإمكان الأولياء أن يطلعوا على اللوح المحفوظ (قواعد الأحكام (1/140))، وهو من الطاعنين في اعتقاد السلف في صفات الله، وقد بين ضلال اعتقاده شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى .
يتبع.....