المصدر- صحيفة الأهرام
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
في صيف عام 1960 م ذهب رجل أعمال أمريكي في رحلة عمل الى اسرائيل . وجلس ذات مساء ليتناول طعام عشاء في احد مطاعم تل أبيب كان للرجل خلفية في العمل بالمخابرات , إذ خدم في مكتب الخدمات الاستراتيجية التابع لوكالة المخابرات الامريكية ,كما اشترك في الحرب الاهلية الأسبانية ,وظل محتفظا بواحدة من اهم عادات الجواسيس ,وهي التفرس في الاشخاص الموجودين في الغرفة , وقراءة شخصياتهم وأفكارهم ان أمكن بمجرد دخولها .
حملق في أرجاء المطعم الصغير وتسمرت عيناه فجأة على رجل يجلس بجوار مائدة في الركن .ظل شاخصا اليه , بينما عادت الذاكرة الى الوراء تتدفق بتفاصيل ذكريات حية : اخر مرة رأى فيها هذا الرجل كان في مدريد عام 1936 في زنزانة .
سجن ومحقق من وحدة المخابرات السوفيتية المنوط بها فرز الجواسيس من لواء
المتطوعين الدوليين يضربه ويطلب منه الاعتراف بأنه جاسوس . لم ينس الرجل الامريكي ذلك الوجه المعروف الكئيب ,الذي يبدو كجمجمة تكسوها طبقة من الجلد .والان بعد 24 عاما يجلس أمامه على بعد 15 قدما منه هادئا يتناول عشاءه والأغرب من ذلك يرتدي زي كولونيل في جيش إسرائيل . كيف لسفاح مغمور في المخابرات السوفيتية أن يصبح ظابطا حربيا في إسرائيل ؟ انزعج الرجل الامريكي , فترك المطعم واتجه الى أقرب مركز لقيادة "الموساد" .ولشد ما كانت دهشة الرجل الأمريكي عندما شاهد أن موظفي الموساد لم ينزعجوا مما قاله .
لهم لأنه – بكل بساطة – أكد لهم ما يعرفوه بالفعل . فقد كان هناك خطأ خطير بشأن الكولونيل إسرائيل بيير .
موضوع بيير يشكل هاجسا مستمرا لرئيس الموساد ايزار هاريل منذ عشر سنوات وهو مايسترو الجاسوسية الأسطوري الذي أسس الموساد وجعلها اسما بارزا بين منظمات الجاسوسية العالمية وكان معروفا باعتماده على عنصر العاطفة الانسانية في عمليات الاستخبار وتنشئة الجواسيس بل جعلهم خونة لبلادهم واعتمادا على هذه الحاسة الغريزية اقتنع تماما بأن إسرائيل بيير كان يتجسس لحساب المخابرات السوفيتية رغم اعترافه بانعدام أدنى دليل وحتى عام 1959 لم يكن في ماضيه ما يعيب كونه مواطنا إسرائيليا مخلصا .
وقد هاجر بيير إلي فلسطين في الثلاثينات هربا من الاضطهاد النازي واستنادا الى سجلات وزارة الدفاع ولد بيير في النمسا وانظم إلى الاشتراكيين عام 1934 ثم اشترك في الحرب الأهلية الأسبانية بعد ثلاث سنوات إلى الموالين وفي عام 1938 هاجرالى فلسطين وألقى بثقله في الجمعيات السرية اليهودية .
انظم بيير إلى عصابة الهاجاناه الجيش السري الصهيوني وتطوع بخدماته للشعبة الألمانية لمخابرات الانتداب البريطاني محاولا تقصي تحركات زعماء اليهود .لم يكن الإنجليز يعرفون علاقة بيير بالهاجاناه فمنحوه سلطة غير محدودة في الاطلاع على سجلات زعماء الصهيونية المتحدثين بالألمانية وتسربت المعلومات الى الهاجاناه وهكذا تجنب الزعماء الرئيسيون الاعتقال وفي الوقت نفسه عرف بيير اليهود الذين يزودون الانجليز بالمعلومات.
من بين زعماء الصهاينة الذين ساعدهم بيير في فلسطين كان ديفيد بن جوريون فتوطدت الصداقة التي لعبت دورا هاما في حياة بيير. في عام 1945 أصبح بيير رئيس العمليات في الجليل الأعلى بالنسبة للهاجاناه وخلال خرب 1948 خدم بيير في القيادة العامة لأركان الهاجاناه في تل أبيب حيث اعتبروه واحدا من أهم مهندسي الانتصار .
تقلد بيير بعد الحرب منصبا رفيعا في الجيش الاسرائيلي وادارة المخابرات بفضل العلاقة الحميمة التي تربطه ببن جوريون أول رئيس للوزراء الذي يثق فيه وفي قدرته على انجاز كل الأعمال التي تطلب منه ومن بين الواجبات التي أسندها اليه : مسئولية تنظيم يومياته وهو عمل أطلعه على مجال واسع مدهش من الأسرار.
كان بن جوريون يثق في بيير ثقة عمياء ولكن ايزار هاريل رئيس المخابرات الاسرائيلية كان عكس ذلك كان يشعر نحوه بما يمكن تسميته بنفور الثقة . لم يأخذ عليه خطأ معينا ولكنه كان يقول لرجاله ان شيئا ما يجعله غير مرتاح له ومن اجل هذا وضعه تحت رقابة مستمرة وكان هاريل يعرف أن عليه أن يتحرك بحذر شديد متحسبا لعلاقة بيير بأقوى شخصية في الدولة.
حصل في عام 1958م أطلق اسم الموساد على المخابرات الاسرائيلية و تقلد هاريل رسميا منصب رئيس الوكالة الجديدة على ما يؤكد شكوكه في بيير عندما استقال بيير فجأة من الجيش وتحول إلى السياسة ملتحقا بالمابام أكثر الأحزاب السياسية الاسرائيلية تطرفا لليسار وقبل مضي سنة من هذا التحول طرد بسب انحرافه اليساري .أنكر بيير آراءه السياسية وأصبح رئيسا لدائرة إعلام الحزب . وهذا قوى شكوك هاريل ونجح في سد الطريق على محاولة بيير إعادة الانضمام إلى الجيش بحجة ضمان الأمن ولكن بيير اعتمادا على صداقته مع بن جوريون حصل على وظيفة في وزارة الدفاع لتحضير تاريخ رسمي لحرب 1948م وإجراء دراسات استراتيجية .
انزعج هاريل لأن بيير حصل الآن على حرية الوصول الى تصنيف المواد ولقد اقتنع تماما أن بيير عميل للمخابرات السوفيتية وتم تحذير بن جوريون من شكوكه ولما لم يتأثر بالتحذير طلب أدله , لم يقدم الدليل الحقيقي الأول إلا في عام 1959م حينما بدأ ميخائيل جوليفويسكي العميل البولندي وكيل المخابرات السوفيتية كشف النقاب للمخابرات الأمريكية عن عملاء المخابرات السوفيتية حول العالم ومررت المخابرات الأمريكية الى هاريل تقريرا من ميخائيل فحواه أن للمخابرات السوفيتية خائنا مزروعا في اسرائيل اسمه الحركي كومريت كيرت في مكان ما من المستويات الرفيعة في وزارة الدفاع الاسرائيلية .ميخائيل لا يعرف الخائن المزروع على وجه التحديد ولكنه قدم إمارات تكفي للإشارة بأصابع الاتهام الى اسرائيل بيير.
بعد عدة اشهر استلم هاريل دليلا آخر .أخبرته استخبارات ألمانيا الغربية أن بيير أثناء زيارته لألمانيا الغربية لإلقاء محاضرة على موظفي العسكرية الألمانية تسلل عبر الحدود إلى ألمانيا الشرقية وعاد بعد عدة ساعات .لم يخطر بيير أي شخص عن رحلته ولا هو أدرجها في تقريره عن رحلته إلى ألمانيا الشرقية .
لماذا يقوم كولونيل إسرائيلي برحلة سرية إلى ألمانيا الشرقية ثم تأتي المعلومات من رجل الأعمال الأمريكي وتؤكد ان هاريل كان ايجابيا .لقد كان بيير خائنا مسلحا بالمعلومات الجديدة .حاول إقناع بن جوريون بأن يمنحه كامل السلطة وهذا ما رفضه رئيس الوزراء .
في إحدى أمسيات مارس 1961م راقبت فرق الموساد وتتبعت آثار بيير وكان يحمل حقيبة أوراق الى مطعم يبدو شبه مهجور فس تل أبيب وجلس هناك هنيهة ثم أنظم اليه رجل يحمل نفس نوع الحقيبة التي يحملها بيير . عرفه فريق الموساد في الحال بأنه دبلوماسي سوفيتي وهو في حقيقته رجل مخابرات روسي على مستوى رفيع . تبادل بيير والرجل الروسي النظرات لفترة قصيرة ثم قاما وتوجه كل منهما إلى حقيبة الآخر وتبادل الحقائب من أقدم حيل الجاسوسية .اتضح للموساد في الحال أن الحقيبة التي سلمها بيير إلى الروسي كانت تحتوي على مجموعه من الوثائق . وبعد أشهر ثبتت على بيير جريمة التجسس وحكم عليه بالسجن 10 سنوات .
وقد تبدو هذه نهاية القصة .لكن الموساد اكتشف أن لغز اسرائيل بيير بالكاد قد بدأ ... رفض بيير التعاون بأي وسيلة مع معتقليه لذا صدرت التعليمات للموساد لاستعادة شريط ونشاط بيير فكان أول اكتشاف غريب أنهم اعتقلوا شبحا فالرجل الذي سمى نفسه اسرائيل بيير لا وجود له وأثبتت التحريات الدقيقة أن كل ما هو معروف عن ماضي بيير وخلفيته تقريبا كان اكذوبة فالرجل القابع في سجن اسرائيلي رغم أنه يتحدث اللغة الألمانية بطلاقة كما كان لم يكن عضوا في الحزب الاشتراكي النمساوي كان في أسبانيا أثناء الحرب الأهلية لكنه لم يخدم في اللواء الدولي . لم يكن يهوديا . لم يهاجر الى فلسطين للهرب من اضطهاد النازي .
أذن من يكون ؟؟؟؟؟؟.
لقد عجزت الموساد عن العثور على هذا السؤال وظل بيير صامتا حتى توفي بالسكتة القلبية عام 1966م وأخيرا وصلت الموساد الى قرار بأن الرجل الذي سمى نفسه اسرائيل بيير كان يقوم بعملية تجسس تقليدية لحساب المخابرات السوفيتية خائنا لليهود زرعوه في فلسطين قبل الحرب العالمية الثانية بهدف اختراق المنظمات اليهودية السرية ولم يتوقع الحصول على مكافأة حينما استولت المنظمات السرية على مقاليد الحكم .
انتهت الموساد إلى أن العملية كلها انطوت على رجلين أحدهما اسرائيل بيير الحقيقي وكان عضوا نشطا في الحركة النمساوية ثم حارب فيما بعد في أسبانيا لكن الموساد كانت مقتنعة تماما بأن اسرائيل بيير الحقيقي لم يترك أسبانيا حيا أبدا .فقد اعتادت المخابرات السوفيتية خلال الحرب الأهلية الأسبانية أن تستولي على جوازات السفر وأوراق المقاتلين في الفرقة الأجنبية وإذا مات أحدهم في القتال ألبست شخصيته لأحد عملائها يتقمص شخصية المتوفى وهويته ويحمل أوراقه .
ولم تكتشف شخصية الرجل الآخر أبدا لكن الموساد يعتقد أنه شيوعيا متعصبا نشطا في النمسا انظم إلى الحزب الشيوعي عام 1928م وفي عام 1931م ضمته المخابرات السوفيتية ليتجسس على أعضاء الحزب فمارس مهمته بنجاح . لذا استدعوه إلى إلى موسكو في عام 1934م للتدريب ,وأرسلوه بعد عامين إلى أسبانيا رئيسا لفرقة مهمتها استئصال المنحرفين عن الماركسية من بين أصحاب الرتب المتطوعين في الحرب ويبدو أنه استغل وظيفته إلى حد ما فاستدعوه للعودة الى موسكو في ديسمبر 1936م واستجوبوه حول ما سميت أخطاء كبيرة جزاءها الإعدام عادة في عهد التطهير لكنه خضع لعملية إصلاح عدة شهور وتحول إلى إسرائيل بيير ليعمل جاسوسا وظل إسرائيل بيير الحقيقي سرا غامضا .
وقد كانت المخابرات المصرية على علم بذلك حتى أنها كانت تحصل على كل ما يحصل عليه بيير من معلومات ووثائق عن طريق عشيقته (ريناتا) التي كانت تعمل لحساب المخابرات المصرية.