قصة قديمة محزنه
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله هذه قصة من الواقع اعجبتني واحببت ان اشارككم بها والعهدة على الراوي(والقصة منقولة )
ولأنهى طويلة بعض الشئ فسأكتبها على حلقات ولا مانع لمن يعرف هذه القصة من اضافة البقية وهذه الحلقة الاولى
منها والتي هي بعنوان:
الأجواد مثل العِدّ ,, من وَرْدِه ارتوى
لبست عمشا البرقع واليتم في يوم واحد .. ففي صبيحة ذلك اليوم استدعاها أبوها وأمرها بارتداء البرقع وكأنه يحثها على لبس السواد حداداً على فراقه لأنه لم تغِب الشمس حتى أتاه ثعبان سام لسعه فأرسله إلى مثواه الأخير..
ولم يتبق لعمشا إلا عمها ووحيده مفرج , وحزنها وبرقعها وحسنها الذي يتسرب من بين خيوط البرقع كأنه الفضة , حتى أن الذي يراها لا يدري هل الجمال الذي أخذته معها أم الذي تركته حيث كانت؟
ولوحت أيادي أبناء الحي تخطب ود عمشا فرفضت واكتفت بعهد قطعته على نفسها أمام عمها ثم نشرته بين قبيلتها بأنها ستكون زوجة ابن عمها مفرج عاجلاً أو آجلاً .
وقبل أن يأتي "آجلاً" أتى القدر المحتوم على هيئة رجل نسف كل هذا الحب وحطم قلبي الحبيبين ,, فمن الجنوب أتى محمد المهادي فارس بمعنى الكلمة , ذو مال , ينحدر من قبيلة عريقة يتزعم قومه يقودهم في إحدى غزواته نحو الشمال .. ولأن بين مفرج والمهادي حلفاً اختار المهادي أن ينزل في ضيافة زعيم القبيلة مفرج ثم يكمل رحلته ..
ترك المهادي خلفه العشرات من بنات قومه المغرمات بفروسيته وشعره لكي يحرق واحدة من أجمل قصص الحب وليكشف أيضاً بأن مفرج يحمل في داخله جبالاً راسيات وبحاراً تتدفق بالعطاء ومقدرة عظيمة على نكران الذات من أجل قبيلته .. فعندما دخل المهادي أول حي مفرج وهو في مقدمة فرسانه شاهد عمشا وهي تمشي برفقة صبايا الحي اللائي جرّهن الفضول البريء للإمعان في مشاهدة هؤلاء الفرسان العابرين .
أما بالنسبة للمهادي فلم تكن النظرة عابرة فلقد عرفت عيونه من تختار ؟ وكيف تتصيد مواطن الحسن والجمال حتى لو التفت بالثوب والوشاح والبرقع فرأى فيها العين الدعجاء وخيطاً من النور يتفلت من بين برقعها وشعرها وعنقاً يرفع جبينها وساعدين ناعمين رغم قسوة الحياة البدوية وعادت عمشا وبقية الفتيات إلى منازلهن فتهادى المهادي في مسيرته حتى عرف البيت ولأنه فارس عريق تعامل مع الموقف بشهامة فلم يتلفت إلى دار عمشا ولم يتأخر إلى مؤخرة المجموعة , بل انطلق نحو بيت زعيم القبيلة( مفرج يفعل ما يشبه المستحيل للملمة جسده قبل أن يتساقط إرباً تتسابق عائدة إلى بيت عمشا.
وفي بيت مفرج بدا المهادي شبه غائب عن الوعي حائراً في كيفية الوصول إلى هذه الفتاة وغارقاً بين عشرات الأسئلة التي تحاصره : فمن تكون؟ وما اسمها وأهلها؟ هل هي متزوجة؟ هل هي ذات حسب ونسب؟ .
هذه الأسئلة وغيرها طرحها المهادي على نفسه لأنه حسم أمره وقرر الزواج منها إذا لم تكن متزوجة وعندما مضى أول الليل قرر المهادي أن الإجابة على تلك الأسئلة تتطلب الإقامة عند مفرج فترة من الزمن , لذلك اعتذر من قومه وطلب منهم تكملة رحلتهم وهو سينتظرهم في بيت مفرج حتى عودتهم بحجة أنه لم تعد له رغبة بالغزو وتعذر أيضاً بأنه بدأ يشعر بمرض أنهك جسمه .
وأخضع المهادي نفسه للإقامة الإجبارية ليقطع الشك باليقين ويعرف إذا كانت تلك الفاتنة له أو عليه؟ رحل قومه تاركينه وحيداً في ضيافة مفرج .. عاشقاً حتى الثمالة يقلب فكره ليل نهار في كيفية معرفة أي رجال قوم مفرج قادر على حمل السر ومساعدته في الزواج من تلك الفتاة التي سحرته دون أن تعلم , قرر المهادي أن يتظاهر بأنه مصاب بالصرع وأنه يهذي أحياناً بكلام ليس له أساس وبدأ يفعل ذلك كلما اجتمع أعيان القبيلة في بيت شيخهم في محاولة منه لمعرفة من أقدرهم على حمل سره ؟
كان يجالس أفضل الرجال يحادثهم حديث الزعماء والفرسان ثم فجأة ينقلب عليه مدّعياً المرض فيتشنج ويميل على جليسه ويتكئ عليه بعنف ليختبر قوته الجسدية والنفسية ..
ولم تطل تجارب المهادي لأنه وجد مفرج أكثر الجالسين صبراً .. وعندما اطمأن إليه واختبره أكثر من مرة .. دعاه إلى مكان قصي وصارحه بأن مكوثه وادعاءه الصرع كان من أجل الوصول لتلك الفتاة التي عزم على الزواج منها .. طلب منه مفرج أن يصفها بدقة فانهمر المهادي يصفها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها ويشبهها بالسحاب والخيل والبرق والماء والمطر حتى وصل إلى ذكر منزلها الذي دخلت إليه , فسأله مفرج إن كان يستطيع معرفتها لو ذهبوا لنفس الدار؟ فأجابه بأنه يميزها ولو أتت برفقة مئة فتاة .
لم يعد مفرج يعلم ماذا يفعل؟ غير أنه وعد المهادي بأن يعود إليه في الغد بكل ما يعرفه عنها ثم اختفى في الظلام يرتقي الحزوم وقد ضاقت الدنيا عليه لأن ضيفه طلب منه أن يساعده في الزواج من عمشا .. وكادت روحه تزهق لأنه صار ضحية المعركة التي نشبت داخله بين مفرج العاشق الذي يرفض التفريط في حبيبته , ومفرج الفارس الذي إن وعد بالمساعدة فعل.
وبعد أن جف الدمع والغضب انتصر مفرج الفارس على مفرج العاشق , وهرول إلى أبيه يستشيره .. فحسم الأب العجوز الأمر مثل السيف فقال :
- المرة غيرها مرة .. لكن وين نلقى مثل عز المهادي؟
ولم يسمع مفرج لنداء القلب وانكب على وجهه يبكي بمرارة .. وأشرقت الشمس على المهادي وهو في قمة أناقته وسعادته ينتظر وصول مفرج الذي وعده خيراً .. وفعلاً أتى وأخذه إلى البيت الذي تسكنه عمشا وهو يحمل الأمل الأخير بأن يختار بيتاً غيره لكن المهادي قطع الشك باليقين .. فناداها مفرج بصوت دامع مبحوح وانتفضت الأرض بعين المهادي حين نفرت عمشا من البيت ثم أدبرت عائدة حين رأت برفقته رجلاً سأله مفرج وفي عينيه بقايا إنسان إن كانت هي الفتاة المقصودة فأومأ برأسه وضغط على يد مفرج وهو يصيح : تكفى يا مفرج لا تضيع وتضيع حياتي .
أخذ مفرج بيده وقال : هذه أختي وقد قبلت بك زوجاً لها .
ولم تغب شمس ذلك اليوم إلا وعمشا في خدرها والنساء يجهزنها للعريس غير المنتظر أدمعها ترفض الكحل وعيونها تبحث عن صدر أمها وقوة والدها فقد أحست أنها يتيمة من جديد وانتابتها الظنون في صدق محبة مفرج لها ,,
وكان مفرج قد توارى عن العيون التي تحاصره بالأسئلة : لماذا تركتها له؟ فدس رأسه في الرمل والظلام يبكي بكاءً مراً لم يعرفه من قبل ,, ولم تعرفه الصحراء من حوله ,, فهو لا يبكي فراق عمشا ولا يبكي تفريطه بها ,, إنما كان بكاءً جديداً مختلفاُ قادماً من عالم الجنون أتى ليأخذ مفرج معه بهدوء ,, فالقبيلة التي ضحى بمحبوبته من أجلها اتهمته بالجبن والتنازل عنها ولم يسل أحداً منهم سيفه ليمنع هذه الكارثة , بل ولم يقترب منهم أحد يواسيه في مصيبته وتركوه يهيم على وجهه يطوف الأماكن التي كانت تجمعهما , حتى وصل إلى مبيت الإبل وارتمى بجوار الناقة التي كانت تحبها عمشا وتسميها "نعسانة" .
وأصابته حالة هذيان فانقلبت نعسانة في عيونه عمشا فأخذ يبكي أمامها معتذراً عن تفريطه بها .. ثم حفر تحت أقدامها قبراً دخل فيه ثم استحث نعسانة حتى "نوخها" فوقه وأسلم عينه للظلام .
ثم فجأة شق السكون صوت عمشا وهي تنادي بصوت خافت (العريس) فقفزت نعسانة كعادتها عند سماع صوتها .. وانتصب مفرج غير مؤمن بصدق ما يسمع لولا أن نعسانة أكدت له بوقفتها .. ولولا صوت المهادي وهو يقول :
- غلبتني يا مفرج بطيبك , لكن أنا رديتها لك .
- وش صار ؟
اقترب المهادي منه ومدّ يده وانتشله من حفرته وهو يقول :
- يوم دخلت عليها لقيتها واقفة مثل الذيب , حاولت أميّل راسها بالشعر وعيّت , قلت أنا فلان بن فلان وعندي وعندي وقالت لي : اسمع يابن الناس ترى مفرج مهوب أخوي , هو ولد عمي وكنا بنتزوج بس مرض أمه أخرنا " .
واتفقا على أن يقيم المهادي معهم عدة أيام حفاظاً على سمعة عمشا ثم يرحل وإذا بلغ دياره أرسل رسولاً يخبرهم بطلاق عمشا .
وأقام برفقة مفرج عدة أيام تجمعهما في النهار بيوت الشعر وفي الليل يترافقان مع الذئاب لهما في كل وادٍ موضع نار ولمعان دلال قهوة ورائحة هيل وقصائد شعر , ونمت صداقتهما ومحبتهما إلى مرحلة فوق الأخوة .. ثم رحل المهادي وبعد عدة أيام جاء رسوله بالعطايا والهدايا ثم أخبرهم بطلاق عمشا .. فأفزع العجوز وأسعد عمشا ومفرج ,,
وبعد عشرين عاماً ,,,,
وكان منزل المهادي في بحبوحة من المال والجاه وزوجات سعيدات وأولاد تتوسطهم ابنته الوحيدة "نورة" .
أما بيت مفرج فكان خالياً إلا من متاع قليل يعصف به الفقر , وعلى الأرض أجساد ثلاثة من الأبناء ملتصقين في محاولة للاحتماء من البرد تحت قطعة سجادة قديمة .
ولم يعد يستطيع أن يتحمل البقاء في دياره بعد أن فقد أباه وأمه وماله ,, وشاور عمشا في أن يلوذ بجوار صديقه المهادي الذي تأتي الركبان محملة بأخبار جاهه وأيضاً تحمل سلامه الدافئ لصديقه ودعوته لزيارته ... وفعلاً توجه له هو وأولاده متدثرين بثياب تفضح فقرهم .. لم يكن ذلك الصباح صباح عيد إلا في عيون المهادي وصديقه ,,
وأمر المهادي إحدى زوجاته أن تترك بيتها وتنتقل لبيت ضرتها .. لتكون الدار بما فيها لمفرج وزوجته .. التي تسابقت العيون لاهثة لمشاهدة الساحرة التي سحرت المهادي بجمالها فجعلته يدعي الصرع ويخاطر بحياته من أجلها .. لكنهن وجدنها شيئاً من جلد على عظم .. ذهب الفقر بكل مفاتنها فما بقي منها إلا مرثية تسير على الأرض .. وفي داخلها انكسار يثير الشفقة .. حتى من زوجات المهادي اللاتي خمدت نار غيرتهن واحتضنّها كأخت ثالثة ,
وقبل خروج الزوجة الأولى همست بأذن عمشا بأمر ,, وبقيت عمشا تتنقل في الدار حتى غلبها النعاس فنامت وهي ترتقب قدوم شخص ما بقلق .. دخل مفرج بيته قادماً من بيت ابن مهادي في الثلث الأخير من الليل وهو يحمد الله على تغير حاله .. وعندما دخل على زوجته وهي نائمة رأى منظراً جعله يصاب بالجنون .. هذه هي عمشا وينام معها رجل غريب ,, كانت قدمه أسرع من يده فركل النائم ركلة قوية اخترقت صدره ,, فقفز من شدة الضربة وأخذ يترنح ثم سقط ميتاً قبل أن تفيق عمشا من هول الصدمة صرخت به : وش سويت ؟ فصاح : ذبحته وباذبحك أنتي بعد .. وش جابه ؟؟ .. قالت : هذا ولد المهادي يضوي من المقناص تالي الليل ويرقد جنب أمه .. وما درى إنها تركت البيت "
فقفز يقلب الجثة لعل وعسى .. لكن الجسد كان بارداً .. وجلست عمشا عنده تتأمل زوجها وهو يقلب رأسه .. ماذا عساه يفعل؟ فالمسألة لم تعد مسألة قتل رجل .. بل تعدّت إلى : ابن من هذا ؟ إنه ابن الرجل الذي أهداني الحياة فرددت له هديته بالموت .