وإذا أحسن الله إليك بالعلم، فأحسن كما أحسن الله عليك بالتواضع، ومداومة تحصيل العلم، وتعليم الناس العلم ا لنافع، وتسخير هذا العلم في تعمير الكون بنوامات الله في الخالق، والعمل للآخرة بصواب العمل، وخالص النية ، فبعض المسلمين أحسن الله إليهم بالعلم، فأتخذوه مطية لنشر المادية الداروينية العلمانية، والإباحية، ودعوة المسلمين للحياة البعيدة عن منهج الله ومكارم الأخلاق.
وإذا أحسن إليك بالعلم النافع فسخره في إسعاد العباد ودفع الأذى عنهم وجلب السعادة إليهم.
وإذا أحسن الله عليك بالعلم والمال، فأحسن إلى عباد الله بنشر العلم، ونشر دور النشر الإسلامية، وإنشاء المواقع الإلكترونية الإسلامية، وطباعة الكتب النافعة، وإصدار المجلات المفيدة، وإحياء تراث المسلمين العلمي ونشره، وإنشاء الإذاعات والمحطات الفضائية التلفيزيونية الإسلامية الأخلاقية، وفتح قنوات للدعوة إلى الله في شبكات الإنترنت، وساهم في إنشاء المداس الإسلامية العربية في الدول الإسلامية الفقيرة، وفي الدول الأوربية، فكم من جاليات إسلامية وأقليات مسلمة، تبحث مساعدات مالية لمدارس المسلمين وتنقذ أبناءها من التربية الإلحادية الإباحية اللإسلامية وإذا أحسن الله إليك بالأولاد، فأحسن إليهم بحس تربيتهم وتعلمهم أن يكونوا عباداً لله صالحين بتربتهم على منهج الله، وحب تعمير الكون، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الأطهار وصحابته الكرام، وحب الخير للسلمين والأهتمام بهم، ودعوة إلى هداية الناس إلى دين رب الناس، وإذا أحسن الله إليك بالمنصب والجاه فأحسن كما أحسن ا لله إليك، بأن تضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتقدم غير النافعين للعمل بل قدم النافعين واعدل بين الناس وقف بجاههك مع المظلومين والأرمل والضعفاء ولا تطردهم عند اللجوء إليك.
وإذا أحسن الله إليك بوظيفة تتحكم في مصالح العباد، فأحسن كما أحسن الله إليك بإتمام مصالح العباد، والبعد عن المحسوبية والرشوة المقنعة باسم الهدية.
وإذا أحسن الله إليك بنعمة حسن التأليف والكتابة فأحسن كما أحسن الله إليك بنشر العلم النافع، وتدعيم الفضيلة بقلمك ومحاربة الرذيلة بما تكتب.
وإذا أحسن الله إليك بالصبر فأحسن كما أحسن الله إليك في إعطاء الناس دروساً عملية في الصبر(32).
وإذا أحسن الله إليك بالصحة فأحسن كما أحسن الله إليك بتخسيرها في طاعة الله ومنفعة عباد الله .
آية كافية في منع الفساد في الأرض:
قال تعالى( ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) (33)قال ابن السعدي رحمه الله : (الفساد) بالتكبر والعمل بمعاصي الله والاشتغال بالنعم عن المنعم (34) وقال ابن كثير رحمه الله : أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد في الأرض وتسيء إلى خلق الله (إن الله لا يحب المفسدين )(35).
فالفساد بالبغي والظلم، والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة، والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء، والفساد بإنفاق المال في غير وجهه أو إمساكه عن وجهه على كل حال ( إن الله لا يحب المفسدين )(36)، كما أنه لا يحب الفرحين، كذلك قال له قومه : فكان رده جملة واحدة تحمل شتى معاني الفساد والإفساد، قال (إنما أوتيته على علم عندي )(37)، أي إنما أوتيت هذا المال استحقاقاً على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله فما لكم تُملون عليَّ طريقة خاصة في التصرف فيه وتتحكمون في ملكيتي الخاصة، وأنا إنما حصَّلت هذا المال بجهدي الخاص واستحققته بعلمي الخاص، إنها قولة المفرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها ويفتنه المال ويعميه الثراء (38) (أ . هـ) .
وقوله تعالى (ولا تبغ الفساد في الأرض)(39) من الآيات الجامعات التي جمعت شتى ألوان الفساد في الأرض من تلوث، وهو هدر غذائي، وهدر بيئي، ورعي جائر، وحرص للغايات، ومناهج مفسدة، ومدارس الفساد، فكم من أناس أفسدوا في الأرض بما يمولونه من محطات فضائية يجمعون فيها الفاتنات ويبثون برامج الرقص والغناء والمسابقات التافهة وحكايات الفنانين والفنانات، حتى تحقيقاتهم وشخصياتهم المحببة كلها شخصيات مُفسدة وإعلاناتهم تنشر الرذيلة وبرامجهم تناقش قضايا فساد وإفساد، وقد ترك لهؤلاء القوم العنان يبثون ما شاءوا وكأنهم أحرار في أموالهم وفي تبني ما يشاءون من المفاسد.
وواضعوا المناهج الدراسية الذين يحاربون كل ما هو إسلامي وأصيل ويعملون على تسطيح القيم وزعزعتها بسيرهم على سياسة وقلوب اللعين هؤلاء يبغون الفساد في الأرض والله يقرر أنه لا يحب المفسدين .
وهؤلاء الذين حولوا أعيادنا إلى حفلات للرقص والخمر والنساء والغناء ونشر الرذيلة هم من المفسدين في الأرض والله لا يحب المفسدين.
وهؤلاء المخططون لبرامجنا الإعلامية والسياحية والترفيهية الناشرون لكل هادم للقيم هم من المفسدين في الأرض والله لا يحب المفسدين.
وهؤلاء الناشرون لحفلات ومسابقات ملكات الجمال في ديار المسلمين بالطريقة الحالية والتي نعرفها جميعاً هم من المفسدين في الأرض وهكذا كل مصدر الفساد والإفساد تندرج تحت قوله تعالى : (إن الله لا يحب المفسدين).
يقول صاحب تفسير الظلال رحمه الله (وهكذا ) أي قارون نموذج متكرر في البشر، فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه، ومن ثم فهو غير مسؤل عما ينفق وما يمسك، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح، غير حاسب لله حساباً، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه(40).
الإسلام والملكية الفردية والجماعية :
كما يقول صاحب تفسير الظلال رحمه الله فإن الإسلام يعترف بالملكية الفردية ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها، ولا يهَّون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه، ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجاً معيناً للتصرف في الملكية الفردية، كما يفرض منهجاً لتحصيلها وتنميتها وهو منهج متوازن متعادل لا يحرم الفرد ثمرة جهده ولا يطلق يده في الاستماع به حتى الترف (والإسراف)، ولا في امساكه حتى التقتير.
يفرض (الإسلام ) للجماعة حقوقها في هذا المال ورقابتها على طريق تحصيله، وطرق تنميته وطرق انفاقه والاستمتاع به، وهو منهج خاص واضح الملامح مميز السمات(41).
وتطاول الطاغي وأعرض واستكبر:
لم يستمع (قارون) إلى نداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه ولم يخضع لمنهجه القويم، وأعرض عن هذا كله في أستكبار لئيم، وفي بطر ذميم ومن ثم جاءه قول ربه (أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبه المجرمون)(42)
وهكذا مشهد التطاول والإعراض عن المنهج والتعالي على الفطنة والإصرار على الفساد والإعترار بالعلم والمال(43).
موكب الفتنة :
ونصل مع قصة قارون إلى موكب الفتنة حين خرج قارون بزينته على قومه، فتطير قلوب فريق منهم، وتتهاوى نفوسهم، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون، ولقلة علمهم، ولقراءاتهم الخاطئة بجهلهم للأحداث يظنون أنه أوتي حظاً عظيماً يتشهاه المحرومون الجاهلون.
على حين يقرأ العالمون الأحداث ومعطياتها قراءة صحيحة بعلمهم، فيستيقظ الإيمان في قلوبهم فيعتزون به على فتنة المال وزينة قارون وموكبه الفاتن، ويقومون بواجبهم الشرعي والعلمي والنفسي والإجتماعي والتاريخي فيذكرون أخوانهم المبهورين المأخوذين يذكرونهم في ثقة المؤمنين وملوك العارفين .
قال تعالى واصفاً موكب الفتنة : (فخرج على قومه في زينته، قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم، وقال الذين أوتو العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون (44).
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير ذلك: إنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة، وتجُّمل باهر من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه، فلما رآه من يريد الحياة الدنيا، ويميل إلى زخرفها وزينتها تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطى قالوا (يا ليت مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم )(45) أي : ذو حظ وافر في الدنيا.
فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا : (ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاًً )(46) ، أي جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون، كما في الحديث الصحيح يقول الله تعالى (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)(47)واقرؤوا إن شئتم (فلا تعلم نفس ما أخف لهم من قرة أعين جزءً بما كانوا يعملون )(1) وقوله (ولا يلقاها إلا الصابرون ) (48).
قال السدي : وما يلقى الجنة إلا الصابرون كانه جعل ذلك من تمام كلام الذين أوتوا العلم، قال ابن جرير: وما يلقي هذه الكلمة إلا الصابرون عن محبة الدنيا، الراغبون في الدار الآخرة، وكأنه جعل ذلك مقطوعاً من كلام أولئك وجعله من كلام الله عز وجل وأخباره بذل(49).
وقال صاحب الظلال رحمه الله : وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت.
ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله والاعتزاز بثواب الله، والتفت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها، فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته، ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة الدنيا من مال أو منصب أو جاه ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى كما يتهافت الذباب على الحلوى (المسمومة ) ويتهاوى ويسيل لعابهم على ما في أيدي الحظوظين من متاع، غير ناظري إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة التي اتخذوها.
فأما لمتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة في نفوسهم، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع.
وهم أعلى نفساً وأكبر من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعاً ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد وهؤلاء هم (الذين أوتوا العلم )(50).
العلم الصحيح الذي يقوّمون به الحياة حق التقويم (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون) (51).
وقال رحمه الله: " ثواب الله خير من هذه الزينة وما عند الله خير مما عند قارون، والشعور على هذا النحو درجة رقيقة لا يلقاها إلا الصابرون.
الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون، وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة، درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان )( أ. هـ ).
القصة وموازين القرن العشرين الميلادي:
وهكذا أخوة الإسلام تجسد الآيات قصة قارون، وتجسد فتنة العصر، وكل عصر، وخاصة العصر الذي نعيش فيه، حيث ترجح الآن كفة الذين يريدون الحياة الدنيا.
ويجسدون القارونيين في القرن العشرين الميلادي وبداية القرن الحادي والعشرين، يجسدونهم على ما آتاهم الله من بنايات شاهقة، وسيارات فارهة، وأموال طائلة، وخدم وحشم، وزينة وجمال أجساد، فتراهم يسارعون في جمع الأموال بالطرائق المشروعة وغير المشروعة، وباستغلال عباد الله، ويمنعون عباد الله حقوقهم المشروعة، ويفتنونهم بأموالهم وزينتهم وتكبرهم ومظاهرهم الكاذبة، ونرى من يكذب ويقلد هذه الفئة القارونية ويرفعها إلى درجة عالية، ولكن الله الرحمن الرحيم له عباد فطن يعلمون حقائق الأمور تراهم رغم ثرائهم، ورغم ما أعطاهم الله من فضله، تراهم متواضعين متصدقين حامدين عابدين شاكرين. يخافون ربهم ويخشون عذابه، ويرجون ثوابه وهؤلاء هم (عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) (52).
وإذا فتن الجاهلون الناس كانوا هم في جانب العلم والقيم والفضيلة وهؤلاء هم الأمرون بالمعروف الناهون عن المنكر.
ولكن عندما تشتد الفتنة وتستعر يأمر الله بانقاذ الناس من التفنة، وهذا ما يجسده المشهد التالي من قصة قارون، وندعوكم أخوة الإسلام إلى مواقع الأحداث حيث المشهد الحاسم للقضاء على الطاغية ورأس الفتنة.
وجاء أمر الله :
وتنقلنا الآيات في نقل مباشر إلى مواقع الأحداث في قصة قارون، حيث تسجل لنا اللحظة الحاسمة في حياة قارون والمفتونين به، والناصحين العالمين فتصور لنا الآيات المشهد الأخير من فتنة العصر فعندما بلغت الفتنة ذروتها، وتهافتت أمامها النفوس، وتهاوت القيم، وهنا يأمر الله سبحانه وتعالى بوضع حد لتلك الفتنة، ليرحم عباده الضعفاء من أغرائها، ويثبت فؤاد أهل العلم النافع والدين القيم، ويحطم كبرياء الطاغين، ويجيء المشهد الثالث حاسماً فاصلاً موجزاً معجزاً موجعاً ففي زحمة الأحداث، واشتداد الجدل والنقاش وأمام الأعين (الزائغة ) والنفوس(الحائرة) نرى المشهد الأخير لقارون في الحياة (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)(53).
وهكذا في جملة قصيرة ، وفي لمحة خاطفة (فخسفنا به وبداره الأرض)(54)،فابتلعته، وابتلعت داره، وهوى في بطن الأرض، التي علا فيها، واستطال فوقها جزاء وفاقاً وذهب ضعيفاً عاجزاً لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت (جُهال الناس) وردتهم الضربةُ القاضية إلى الله، وكشف عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال (55).
المشهد الأخير:
وجاء المشهد الأخير (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون)(56).
وقفوا يحمدون الله أن لم يستحب لهم ما تمنوه بالأمس، ولم يؤتهم ما أوتي قارون وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه (في لحظة )، وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله فهو (سبحانه ) يوسع الرزق لى من يشاء من عباده، ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب، ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف.
إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء وعلموا أن الكافرين لا يفعلون، وقارون لم يجهر بكلمة الكفر، ولكن اغتراره بالمال ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين، ويرون في نوع هلاكه أن هلاك الكافرين(57).
إسدال الستار :
ويستدل الستار (كما قال صاحب تفسير الظلال رحمه الله ) على هذا المشهد (الإيماني الرائع) وقد انتصرت القلوب المؤمنة( يرحمه الله ) وقد رجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان.
تعقيب وتعليق:
ثم يأخذ (سبحانه وتعالى ) في التعقيب في أنسب أوان (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين )(58) .
(تلك الدار الآخرة ) التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم (النافع) العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية.
تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق .
تلك الدار الآخرة (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً )(59).
فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم، والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها.
إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم يملأها الشعور (بعظمة الله ) ومنهجه في الحياة أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حساباً ولا يبغون فيها كذلك فساداً .
أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة تلك الدار العالية السامية (60).
والعاقبة للمتقين :
الذين يخشون الله، ويراقبونه، ويتحرجون من غضبه، ويبتغون رضاه.
وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء، كما كتب الله على نفسه، الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها، والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسراً (61) .
(من جاء بالحسنة فله خير منها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون)(62).
من نواميس الله في الخلق :
وهنا نتذكر قول الله تعالى في سورة ا لزخرف:
(أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون، ولولا أن يكون ا لناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون. وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) (63).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيات السابقات:
(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ) : أي لولا أن يعتقد كثير من الجهلة أن اعطائها المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعون على الكفر لأجل المال.
ولجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج : أي سلالم ودرجاً من فضة (عليها يظهرون ) : أي يصعدون، (ولبيوتهم أبواباً) أي أغلاقاً على أبوابهم (وسرراً عليها يتكئون) أي جميع ذلك يكون من فضة (وزخرفاً ) أي ذهباً (أ.هـ) (64).
الخلاصة :
نستخلص من المشاهد السابقة لقصة قارون ومن أقوال المفسرين، ومن الآيات البينات أن الدنيا من دون الإيمان لا قيمة لها عند الله، وأن إقبال الدنيا على الإنسان ليس دليلاً على رضى الله سبحانه وتعالى، وإدبارها عن العبد ليس دليلاً على عدم رضاه عليه، إنما رضا الله سبحانه وتعالى على العبد يكون بالشكر وتوفيقه إليه والإيمان بالله والعمل بأركان، والهواية للتوحيد وملازمته والتوفيق للعمل الخالص والمداومة عليه والنية الخالصة لله سبحانه وتعالى، ولولا خوف الله على عباده الفتنة لأعطى كل نعيم الدنيا للكافرين.
وهنا يبرز خطأ القارونيين الذين يظنون أن الدنيا إذا أعطيت لهم كانت دليلاً على رضا الله عليهم، وهذه فتنة العصر وكل عصر.
فالشكر على نعمة العلم، وعلى نعمة المال، وعلى نعمة الجاه، وحمد المنعم سبحانه وتعالى على نعمه وعدم الانشغال بالنعمة عن المنعم، واعطاء عباد الله حقوقهم من نعم الله هو سلوك المؤمنين الحامدين العابدين الشاكرين.
أما التكبر والطغيان بالعلم والمال والجاه والسلطان والمنصب والجمال فهو فيروس القارونيين الذي استشرى فيهم كالطاعون فأهلكهم في الدنيا والآخرة والعياذ بالله.
فاحذوا أخي المسلم فتنة العلم، وفتنة المال، وفتنة الصحة، وفتنة المنصب، وفتنة الأولاد، وفتنة العشيرة والأحباب وأحذري أختي المسلمة فتنة العلم الذي يدفعك إلى البعد عن منهج الله والبحث عن الشبهات والرخص، وأحذري فتنة الصحة والجمال إن كنت من الجميلات، واحذري فتنة الإعجاب من الجاهلين، واحذري فتنة العصر واحذري من يبعدونك عن نصيبك في الدنيا والإنسان للناس والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
المنامة في 16 محرم 1419هـ
الموافق 12 مايو 1998م
أخوكم الدكتور نظمي خليل أبو العطا موسى
المصادر:
القرآن الكريم
آيات كافيات تأليف الدكتور نظمي خليل أبو العطا
القاهرة : مكتبة النور (1998).
التفسير المنير : وهبة الزحيلي، بيروت : دار الفكر المعاصر(1991).
تفسير القرآن العظيم، الحافظ ابن كثير، دمشق دار ابن كثير.
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان عبد الرحمن بن ناصر السعدي، جده دار المدني (1988م ) .
في ظلال القرآن ـ سيد قطب بيروت : دار إحياء التراث (1971).
تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن، علي السقاف، الرياض : دار الهجرة للنشر والتوزيع (1991).
هوامش موضوع قارون وفتنة العصر:
هوامش موضوع قارون وفتنة العصر:
1- في ظلال القرآن ، سيد قطب صفحة 372
2- سورة القصص 76
3- التفسير المنير ، في العقيدة والشريعة والمنهج ، وهبة الزحيلي( صفحة 160 ج 20)
4- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، عبد الرحمن بن ناصر السعدي صفحة 40 جزء 4
5- سورة القصص 76
6- سورة القصص 76
الله اعلم
منقول
كل عام والمسلمين وانتم بخير
الله يجمعنا بخير في الدنيا والأخره