في سياق آيات الصيام جاءت لفتة عجيبة تخاطب أعماق النفس ، وتلامس شغاف القلب ،
وتسرِّي عن الصائم ما يجده من مشقة ، وتجعله يتطلع إلى العوض الكامل والجزاء المعجل ،
هذا العوض وذلك الجزاء الذي يجده في القرب من المولى جل وعلا ، و التلذذ بمناجاته ،
و الوعد بإجابة دعائه وتضرعه ، حين ختم الله آيات فرضية الصيام
بقوله سبحانه : { و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } ( البقرة 186)
فهذه الآية تسكب في نفس الصائم أعظم معاني الرضا والقرب ، والثقة و اليقين ،
ليعيش معها في جنبات هذا الملاذ الأمين والركن الركين ..
كما أنها تدل دلالة واضحة على ارتباط عبادة الصوم بعبادة الدعاء ،
و تبين أن من أعظم الأوقات التي يُرجى فيها الإجابة و القبول شهر رمضان المبارك
الذي هو شهر الدعاء ..
و قد جاءت النصوص الشرعية مبينة عظم شأن الدعاء وفضله ،
فالدعاء هو العبادة ، وهو أكرم شيء على الله ، ومن أعظم أسباب دفع البلاء قبل نزوله ،
ورفعه بعد نزوله ، كما أنه سبب لانشراح الصدر وتفريج الهم وزوال الغم ،
و هو مفزع المظلومين وملجأ المستضعفين ، و أعجز الناس من عجز عن الدعاء ..
و إني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيقٌ عليَّ فما ينفك أن يتفرّجا
وربَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُهُ أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا
و للدعاء شروط وآداب ينبغي مراعاتها
و الأخذ بها حتى يكون الدعاء مقبولاً مستجاباً :
يأتي في مقدمتها إخلاص الدعاء لله ، وإفراده سبحانه بالقصد و التوجه ،
فلا يدعو إلا الله ولا يسأل أحداً سواه ..
و لا بد من قوة الرجاء و حضور القلب و عدم الغفلة عند الدعاء
لقوله - صلى الله عليه وسلم -
( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ،
و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهـ ) رواهـ الترمذي ..
و على الداعي أن يجزم في المسألة و لا يتردد ، و لا يستعجل الإجابة
لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ،
ارحمني إن شئت ، ارزقني إن شئت ، وليعزم مسألته ، إنه يفعل ما يشاء لا مكره له ) ،
و قوله : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول دعوت فلم يستجب لي ) رواهـ البخاري ..
و ليتحر الأوقات و الأحوال التي تكون الإجابة فيها أرجى كليلة القدر ،
و جوف الليل الآخر ، ، ودبر الصلوات المكتوبات ، وبين الأذان والإقامة ،
و آخر ساعة من يوم الجمعة ، وحال السجود ، والصيام والسفر
و غير ها من أوقات الإجابة ..
و ليقدم بين يدي دعائه الثناء على الله جل وعلا ،
و الصلاة على - النبي صلى الله عليه وسلم
و الإقرار والاعتراف بالذنب والخطيئة ،
فعن فضالة بن عبيد قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعداً
إذ دخل رجل فصلى فقال : " اللهم اغفر لي وارحمني " ،
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( عجلت أيها المصلي ، إذا صليت فقعدت فاحمد الله
بما هو أهله وصل علي ، ثم ادعه ) رواه الترمذي .
و عليه أن يلح في دعائه و تضرعه ، و يعظم المسألة ، و يظهر الفاقة و المسكنة ،
و يدعو في جميع الأحوال من شدة ورخاء و منشط ومكره ،
و يكرر دعاءه ثلاثاً ، قال - صلى الله عليه وسلم -
( إذا تمنى أحدكم فليكثر فإنما يسأله ربه ) رواه الطبراني ..
و قال : ( من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب
فليكثر الدعاء في الرخاء ) رواه الترمذي ..
و يستحب أن يتطهر و يستقبل القبلة ، و يرفع يديه حال الدعاء ،
يقول - صلى الله عليه وسلم -
( إن الله حي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه
أن يردهما صفرا خائبتين ) رواه الترمذي ..
و على الداعي أن يخفض صوته بين المخافتة و الجهر
لقوله جل و علا : ( ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين ) ( الأعراف55 )
و قوله - صلى الله عليه وسلم -
( يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم و لا غائبا
إنكم تدعون سميعًا قريبًا و هو معكم ) رواه البخاري ..
و ليتخير جوامع الدعاء ، و الأدعية المأثورة التي جاءت النصوص
بأنها أرجى للقبول والإجابة كقوله - صلى الله عليه وسلم -
( دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت
( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين )
فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله ) رواهـ الترمذي ..
و ليبتعد عن السجع المتكلف ، و مراعاة تنميق العبارات ، و تزويق الألفاظ ،
فإن العبرة بما في القلب من صدق التوجه و الإقبال على الله ،
و قد كان - صلى الله عليه وسلم - يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلكـ
و على الداعي أن يطيب مطعمه و مشربه حتى يكون مجاب الدعوة ،
و ألا يدعو إلا بخير ، و أن يتجنب الاعتداء في دعائه ،
و لا يدعو على نفسه و ماله و أهله لقوله - صلى الله عليه وسلم -
( لا تدعوا على أنفسكم ، ولا تدعوا على أولادكم ، ولا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم )
و قولهـ ( لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) رواهـ مسلم ..
:
هذه بعض آداب الدعاء و شروطه على سبيل الإجمال ،
فاحرص أيها الصائم على استغلال الأوقات و الأحوال الشريفة في هذا الشهر المبارك ،
و أكثر من الدعاء لنفسك و والديك و أولادكـ ،
و إخوانك من المؤمنين والمؤمنات ، و تعرض لنفحات الله ،
لعله أن تصيبك نفحة لا تشقى بعدها أبداً ..
:
وفقنا الله واياكم لما يحب و يرضى