شركة التعدين أعاقت توطين الوظائف.. فتصدى لها (المؤسس)
ابوداوود أشرف على أول مشروع (للسعودة).. وضحى بمنصبه
لم يكن الشيخ اسماعيل ابوداوود بحكنته وذكائه ومثابرته طارئا على زمانه او استثناء بقدر ما كان بارعا-كثلة ممن عايشوا تلك الفترة-في اقتناص الفرص والاستفادة من معطيات المرحلة التي كان يقودها الملك عبدالعزيز رحمه الله في اعقاب توحيد المملكة.
ذلك ان فكر المؤسس عبقريته وبعد نظره واستشرافه الدقيق للمستقبل سبق زمانه بكثير حيث استطاع بقيادته الفذة ان يؤسس لبناء دولة عصرية يمكنها الصمود امام عاتيات الاحداث التي كان يشهدها العالم آنذاك وقادرة على مواصلة المسيرة وتجاوز المرحلة وهو ما تحقق ويتحقق حتى الآن.. فقد سخر الملك عبدالعزيز علاقاته الشخصية مع عدد من الخبراء التقنيين في العالم للبحث عن ثروات البلاد المكنوزة واستخراجها ومن ثم استغلالها واستثمارها لبناء الانسان الذي كان خارجا للتو من مرحلة كانت تسود فيها الصراعات القبلية والتشتت الاجتماعي والجغرافي.
من بين ذلك وهو ما يرتبط بعلاقة وثيقة مع حياة ضيفنا الشيخ اسماعيل ابوداوود استثمار الملك عبدالعزيز لعلاقته بالمستر كراين الخبير في مجال التعدين حيث دعاه يرحمه الله لزيارة المملكة واحتفى به عند قدومه وطرح عليه رغبته ورغبة المملكة في البحث عن الذهب والثروات الطبيعية في اصقاع البلاد واستخراجه حيث ابدى كراين استعداده الكبير على مساعدة الملك في تحقيق طموحه ولدى عودته الى امريكا ارسل عدة بعثات متخصصة في هذا المجال بقيادة المهندس كارس تويتشل الذي بدأ جولته الميدانية انطلاقا من المنطقة الشرقية. وعلاقة ابوداوود بهذه المرحلة وثيقة جدا. فقد استطاع ان يستثمر ما كان يخطط له الملك المؤسس بشكل كبير حيث انسحب كما اسلفنا في الحلقة الماضية من شركة فيليب للسيارات الامريكية لاعتراضه على كثرة الخلافات بين العاملين فيها والتحق على الفور بشركة التعدين التي اسسها للتو الملك عبدالعزيز مستفيدا للمرة الثانية من لغته الانجليزية.
التحول الاهم
ويروي اسماعيل ابوداوود تفاصيل تلك المرحلة التي يعتبرها الاهم في حياته العملية بقوله:
في عام1357هـ التحقت بنقابة التعدين في وظيفة صغيرة توازي ما يسمى اليوم مأمور مستودع بمرتب لا يتجاوز ستة جنيهات مصرية او عثمانية وربما بريطانية فلم يكن ثمة تحديد للعملة التي يدفع بها المرتب.. فحينا يدفع بالذهب وحينا بالمصري الذي كان يعادل اثنى عشر ريالا فيما كانت مرتبات موظفي الدولة تدفع بالريال السعودي الى ان صدر أمر ملكي باعتماد صرف جميع الرواتب سواء لموظفي القطاع الاهلي او الحكومي بالريال السعودي, وفي عام 1359هـ نشبت الحرب العالمية الثانية وكانت بالنسبة لي فاتحة خير وبداية الانطلاقة نحو تجميع رأس المال, فقد استغنت الشركة بسبب ظروف الحرب وتداعياتها عن العديد من العاملين فيما استبقتني وحملتني المزيد من الاعباء العملية مقابل زيادة مرتبي الذي وصل الى 800 ريال سعودي وهو مبلغ لم يكن يتقاضاه اي وكيل وزارة في ذلك الوقت حيث كانت سياسة الشركة مع العاملين قائمة على مكافأة الموظف وفق ما يقوم به من اعباء ومهام.
اول مشروع للسعودة
حظي ابوداوود مما حظي به في تلك الفترة بشرف الاشراف على اول مشروع للسعودة عرفته المملكة.
فبعد ان تمكنت شركة التعدين من اكتشاف منابع الزيت واستخراجه ومن بعد ذلك استخراج الذهب تانك السلعتان اللتان كانتا ولا تزالان رصيد المستقبل الذي اعتمدت عليه الدولة في بناء الانسان والوطن تزايدت مسؤولية الشيخ اسماعيل ابوداوود بما اكتسبه من خبرات عملية والمام بتفاصيل العمل اهلته لتسلم المسؤولية فيها بمرتب كان يتجاوز مئتي دولار امريكي.وللشيخ ابوداوود وقفات مع تلك المرحلة ما انفك يرددها ويحرص على التباهي بها امام اصدقائه والمقربين منه ومن بينها اشرافه على تدريب عدد من الشباب السعودي لينخرطوا في العمل الفني والمهني والاداري في شركة التعدين واصفا اياه بأنه اول مشروع جاد لسعودة الوظائف في المملكة.
ومما كان يردده ابوداوود في هذا الجانب قوله: ثلاثة عشر عاما قضيتها في شركة التعدين كان العمل خلالها صعبا للغاية ابتداءا من عدد ساعات العمل وانتهاء بمشكلة (الاتوبيس) فاذا فات علينا اضطررنا للسير على الاقدام من البلد الى الرويس حيث مقر الشركة ورغم ذلك لم اتوان او اقصر في اداء مهامي وواجباتي على الوجه الاكمل وتشرفت بفتح فرص التدريب لابناء بلدي والاشراف عليهم والعمل على تأهيلهم بالشكل المناسب ومتابعة التحاقهم وانتظامهم في وظائفهم في الشركة بعد ذلك وكان هدفي ان افتح الآفاق للسعوديين ليستفيدوا من خيرات بلادهم ويشاركوا في استخراجها وبلغ عددهم آنذاك 400 موظف ومتدرب منهم من احتل بعد ذلك مناصب مرموقة على مستوى الدولة.
محاولة اجهاض
يبدو حرص ابوداوود على استقطاب الشباب السعودي وتدريبهم وسبر اغوار المهنة وما حققوه من نجاح لم يرق لبعض مسؤولي الشركة وبدا انه سيدفع ثمنا باهظا لمحاولته كشف سر المهنة الذي كان يراد له ان يبقى بأيدي مسؤولي الشركة والعاملين من الاجانب فبدأ تضييق الخناق عليه بشكل منظم بدءا من عدم تقدير جهوده وانتهاء بتجريده من الصلاحيات. ويروي الشيخ ابوداوود يرحمه الله جانبا من تلك المعاناة بقوله:
بدأت اشعر انني لم اعد محل التقدير الذي كنت احظي به من المدير العام وبقية المسؤولين في الشركة الى ان انتهي الامر بمستشار الشركة مستر توتشل الذي كان يقودها خلال اجازة مديرها العام الى استصدار قرار بترشيح اوروبي ليحل محلي حيث لم يكن يروق له ان يرى السعوديين وقد احتلوا مراكز مرموقة في الشركة.. ورغم ذلك سعيت للقاء تويتشل واستفسرت منه عن اسباب تنحيتي من منصبي شارحا له طبيعة الدور الذي اقوم به وحجم الجهد الذي ابذله ولكن دون جدوى وسعيت مرة اخرى مع مسؤولين آخرين في الشركة محاولا ثنيهم عن اتخاذ القرار ولكن شيئا لم يجد من ذلك فقررت بعد ذلك ترك العمل في الشركة فغادرتها غير نادم حتى انني لم اسع للحصول على اي تعويض ولم اطالب بحقوقي الخاصة فيها احتجاجا على حرص المسؤولين فيها على تهميشي وعدم احترام مهنيتي التي اكتسبتها مع الزمن وفقداني للمكانة التي يجدر منحها لمواطن سعودي اضطلع بمهامه ومسؤولياته على الوجه الاكمل. غير ان الدولة بقيادة الملك عبدالعزيز يرحمه الله وضعت حدا لتلك العراقيل التي كان يضعها البعض امام الشاب السعودي الطموح ورغبت في الاستفادة من خيرات ارضها وتسخيرها لخدمة الوطن والمواطن حيث صدر نظام العمل والعمال الذي طالب الشركات العاملة في المملكة بالقيام باستحقاقات معينة كالمساهمة في بناء البنى التحتية من تعبيد للطرق وانشاءات معمارية اخرى اضافة الى تدريب العمال السعوديين وابتعاثهم الى الخارج وتمكينهم من العمل وفق قدراتهم وامكاناتهم وهو ما اسعدني كثيرا واسعد غيري من السعوديين وبذلك النظام لم تتمكن شركة التعدين التي تركت العمل فيها من مواصلة نشاطها فاغلقت ابوابها وغادرت المملكة في حين برزت شركة ارامكو التي استفادت كثيرا من نظام العمل والعمال المستحدث.
العرض العادي
