الأمانة
من أخلاقنا الإسلامية ، الأمانة ، وهي السلعة الغالية والنادرة في هذه الأيام ، فالإسلام يرقب من معتنقه أن يكون ذا ضمير يقظ ، صيانةً لحقوق الله عز وجل ، وحقوق الناس ، وحراسةً للأعمال من دواعي التفريط والإهمال .
والأمانة في ميزان الدين واسعة الدلالة ، وهي ترمز إلى معان شتى ، ومناطها جميعاً شعور المرء بتبعته في كل أمر يوكل إليه ، وإدراكه الجازم بأنه مسؤول عنه أمام ربه سبحانه وتعالى على النحو الذي فصّله الحديث الكريم :
" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
فالإمام راع ، وهو مسؤول عن رعيته
والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته
والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها
والخادم راع في مال سيّده ، وهو مسؤول عن رعيته " رواه أحمد والبخاري ومسلم .
وعن أنس رضي الله عنه قال : ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال : " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له " رواه الترمذي .
ولمّا كانت السعادة القصوى أن يوقى الإنسان شقاء العيش في الدنيا ، وسوء المنقلب في الآخرة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في استعاذته بين الحالين معا إذ قال : " اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة " رواه أبو داود .
فالجوع ضياع الدنيا ، والخيانة ضياع الدين .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته الأولى قبل البعثة يُلقّب بين قومه بالأمين .
وكذلك شوهدت مخايل الأمانة على موسى حين سقى لابنتي الرجل الصالح واحترم أنوثتهما ، وكان معهما عفيفاً شريفاً } فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ، فجاءته إحداهما تمشي على استحياء . قالت : إن أبي يدعوك ليجزيَك أجر ما سقيت لنا ، فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ، قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين {. ومن معاني الأمانة وضع كل شيء في المكان الجدير به ، واللائق له ، فلا يسند إلا لجدير به ، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الكفء ، واعتبار الولايات والأعمال العامّة أمانات عظيمة ، أمرٌ ثابت من وجوه كثيرة .
فعن أبي ذرّ رضي الله عنه قلت : يا رسول الله ألا تَسْتَعْمِلُني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ، ثم قال : " يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها " . رواه مسلم .
فكم من الجناية يرتكب أولئك الذين يُولّون أمور المسلمين أناساً غير مؤهلين ، بسبب قرابة أو حزبيّة أو عنصريّة أو محاباة !.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من وُلّي من أمر المسلمين شيئاً فأمَّر عليهم أحداً مُحاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صَرْفا ولا عَدْلا حتى يُدْخِله جهنّم " رواه الحاكم .
وما مدى الجريمة التي يرتكبها أولئك الذين يولّون أهل الفساد ويُبعدون أهل الإيمان عن أعمال الناس ؟!.
جاء رجل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : متى تقوم الساعة ؟ فقال له : " إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة . فقال : وكيف إضاعتها ؟ قال : إذا وُسِّد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة " رواه البخاريّ .
وهذا يُعطينا الدلالة الواضحة عن سبب تأخّر أُمّتنا ودولنا التي يحكمها أناس غير مؤهلين ، ويُؤمّرون علينا أناساً غير مؤهلين .
من الأمانة ألا يستغل الرجل منصبه الذي عُيّن فيه لجرّ منفعة إلى شخصه أو قرابته .
ومن معاني الأمانة أن تنظر إلى حواسّك التي أنعم الله بها عليك ، وإلى المواهب التي خصّك الله بها ، وعلى ما حُبيتَ من أموالٍ وأولاد ، فتُدرك أنّها ودائع الله الغالية عندك ، فيجب أنْ تُسخّرها في قرباته ، وأن تستخدمها في مرضاته ، وإلا فهي الخيانة بعينها .
} يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون {
ومن معاني الأمانة أن تحفظ حقوق المجالس التي تُشارك فيها ، فلا تدع لسانك يُفشي أسرارها ويسرد أخبارها ..
فكم من حبال تقطّعت ، ومصالح تعطّلت ، لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا حَدّث رجلٌ رجلاً بحديث ثمّ التفت ، فهو أمانة ". رواه أحمد وأبو داود والترمذي .
ومن الأمانة الودائع التي تُدفع إلينا لنحفظها حيناً ، ثمّ نردّها إلى ذويها حين يطلبونها .
وقد استخلف النبيّ صلى الله عليه وسلم عند هجرته ابن عمّه عليّاً رضي الله عنه ليُسلّم للمشركين الودائع التي استُحْفِظها .
قال ميمون بن مهران : ثلاثة يُؤدَّيْنَ إلى البرّ والفاجر :
الأمانة ، والعهد ، وصلة الرحم .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : القتل في سبيل الله يُكفّر الذنوب كلّها إلا خيانة الأمانة . ثمّ قال : الصلاة أمانة ، والوضوء أمانة ، والوزن أمانة ، والكيل أمانة …
والأمانة تدعو إلى رعاية الحقوق ، وتعصم عن الدنايا .
والأمانة فضيلة ضخمة لا يستطيع حملها الرجال المهازيل ، ولا يستطيع حملها أصحاب القلوب الخائنة والنفوس الشريرة .
وفي آخر الزمان يقال : إنّ في بني فلان رجلا أميناً ..
وحتّى يقال عن الرجل : ما أجلده ، ما أظرفه ، ما أعقله وما في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان . ( جزء من حديث رواه البخاري ومسلم ) .
فالأمانة الأمانة يا رجال بعد أن عزّ الرجال .