د. شاكر النابلسي
الجواب، لأول وهلة يتخلص في أن أمريكا وبريطانيا وباقي الحلفاء - إن وُجدوا - هم المسؤولون عن نشوب هذه الحرب.
وهذا صحيح مائة بالمائة!
فكيف يكون من يقود هذه الحرب ومن يغذي سعيرها على هذا النحو غير مسؤول عنها؟!
ولكن هل كان الحلفاء هم وحدهم مسؤولين عن هذه الحرب؟
وهل هم مسببوها الوحيدون؟
لو تأملنا في الأحداث جيداً وأعملنا العقل المحض في مسببات هذه الحرب ودوافعها، لوجدنا أن العرب حكاماً ومثقفين وشعوباً قد ساهموا مساهمة كبيرة في اشعال نار هذه الحرب.
فعلى رأس هؤلاء الحكام كان صدام حسين الذي أقام الدنيا وأقعدها في العشرين سنة الماضية، وأنزل الكوارث في العرب والعالم بدءاً من حرب الخليج الأولى (1980-1988) ومروراً بحرب الخليج الثانية 1991. ولو أن الله أمدَّ في عمره، ونجا من حرب الخليج الثالثة الآن 2003 ، فسوف يشعل حرباً خليجية رابعة، وخامسة، وسادسة، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاًً، وتطوى صفحة صدام حسين من التاريخ العرب الحديث.
لو تأملنا في الأحداث جيداً، وأعملنا العقل المحض، لوجدنا أن كثيراً من الزعماء العرب المستفيدين من وجود نظام صدام حسين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كانوا مسؤولين عن اشعال نار هذه الحرب.
فمسؤولية هؤلاء تتركز في سكوتهم المُطبق، واخفائهم لحقيقة مواقفهم السياسية والأخلاقية تجاه ما يجري في العراق، وما يقوم به نظام الحكم هناك من مخالفات لا حصر لها للشرعية الدولية حتى فلتت الشرعية الدولية، ولم تعد قادرة على ردع النظام العراقي فاضطرت الكواسر إلى أن تتولى الأمر بالقوة. وهو ما اعترف به أخيراً الرئيس مبارك (صحّ النوم) عندما قال بأن النظام العراقي يتحمل مسؤولية اشعال هذه الحرب في المنطقة. ولكن النُطق السامي المُباركي جاء متأخراً كعادة النطوق العربية الأخرى التي تأتي عادة بعد أن يدقّ الجرس معلناً انتهاء المزاد!
ومسؤولية الحكام العرب أيضاً تتركز عندما غيّب الأمين العام للجامعة العربية المبادرة البيضاء المخلصة التي أطلقها حصيف العرب زايد بن سلطان عن قرارات مؤتمر القمة، وقال بفهلوته المصرية المعتادة :
- والله أنا معنديش خبر، أنا معرفش حاجة عن المبادرة دي!
أثاب الله رجال السياسة والفكر السياسي المصري خيراً فيما فعلوه بالسياسة والفكر السياسي العربي بدءاً من عبد الناصر وأحمد سعيد، وانتهاء بعمرو موسى، الذي يحبه ويغني له شعبان عبد الرحيم (شعبولا)!
ومسؤولية الحكام العرب ايضاً في اشعال حرب الخليج الثالثة تتركز في الازدواجية التي يعيشون فيها. فهم من يفتح أراضيه للقواعد العسكرية لضرب العراق، وفي القوت نفسه يكرّس اعلامه للدفاع عن نظام الحكم في العراق.
فهم يؤجرون القواعد العسكرية لجهات أجنبية، ويؤجرون المايكروفونات الاعلامية لأعداء هذه الجهات أيضاً.
فصحاء.
ناصحون.
يقبضون باليمين واليسار. ولا يكفون أيديهم، ولا يترفعون عن أي ذهب جاءهم من الغرب أم من الشرق، من العم سام أم من مُعز بغداد!
ولكن صدام حسين المجنون بالعظمة لم يقرأ – كعادته – مثل هذه القراءة في خطاب الحكام العرب الذين غرروا به، فملأ كل هذا رأس صدام بالغرور، والتعالي، والمكابرة، والشعور بالعظمة. واعتبر نفسه على حق، وأن الآخرين على باطل، فعاند، وانتفخ كالطاووس، ورفض كل حل آخر، يُجنّب العراق وشعب العراق الموت والدمار.
ولم يدر كل هؤلاء أنهم بما يفعلون، يُدخلون صدام ونظامه والعراق من خلفهم في شباك مصيدة رهيبة، وتجعلهم فريسة لكواسر الغابة!
***
وما هي مسؤولية المثقفين العرب في اشعال حرب الخليج الثالثة؟
المثقفون العرب، ومنهم الناطقون غير الصامتين، أي الذين يكتبون في الصحافة العربية ويتصايحون ويتقافزون في الفضائيات العربية، أصبحوا أحزاباً وطوائف، ذات جيوب خاوية تمشي خلف من يملأها.
فمن المعروف أن المال السائب في العراق، والذي يسيطر على مقدراته النظام العراقي قد ضخ ملايين الدولارات في عروق وشرايين الاعلام العربي، ووظف طوابير لا حصر لها من المعلقين والصحافيين والكتاب للدفاع عن وجهة نظر نظام الحكم العراقي، وهذا من حقه كنظام ديكتاتوري قمعي يريد الدفاع عن نفسه!
ولكن ما هو مدهش حقاً ومستغرب، هو هذه الأعداد الكبيرة من الأقلام المُشتراة من قبل النظام العراق بمبالغ مجزية في ظل الفقر، والجوع، والعوز، والبطالة، ونُدرة القرش، في أوساط المثقفين الجائعين المشردين.
لقد ساهمت هذه الأقلام في التغرير بالرأي العام العربي - إن وُجد - وبالشارع العربي – إن وُجد – في ظل هشاشة وتفاهة الإعلام العربي عموماً وسيطرة الخطابية والانشائية والعنترية وشعارات الستينات عليه. وكان الذين يقولون الحقيقة الساطعة في الإعلام العربي عموماً قلائل، لا يعدون على أصابع اليد الواحدة. وهؤلاء لا منبر لهم إلا ما ندر في ظل شراء المنابر الاعلامية العربية، وامتلاكها من قبل أنظمة الحكم المختلفة.
وزاد الطين بلة أن دخل "الزفة الاعلامية" هذه رجال المؤسسة الدينية الإسلامية والمسيحية، وأصبحوا سياسيين أكثر من السياسيين أنفسهم، وزعماء ينافسون زعماء أنظمة الحكم العربية، وراحوا يخطبون في المساجد، ويصدرون الفتاوى التي كانت بمثابة (الكاز) الذي صُبَّ على أكوام القش القابل للاشتعال بشرارة واحدة. وكان لهؤلاء منافعهم وأطماعهم في ذهب مُعز بغداد. فلو كان جيب المُعز خالياً إلا من قديد، يابس وحبات من رمل، لما ناصره أحد!
ولكن صدام حسين – كعادته – لم يقرأ مثل هذه القراءة في فتاوى المؤسسة الدينية العربية، الذين غرروا به، فملأ كل هذا رأس صدام بالغرور، والتعالي، والمكابرة، والشعور بالعظمة. واعتبر نفسه على حق، وأن الآخرين على باطل، فعاند، وانتفخ كالطاووس، ورفض كل حل آخر، يُجنّب العراق وشعب العراق الموت والدمار.
ولم يدر كل هؤلاء أنهم بما يفعلون، يُدخلون صدام ونظامه والعراق من خلفهم في شباك مصيدة رهيبة، وتجعلهم فريسة لكواسر الغابة!
***
وما هي مسؤولية الشارع العربي في اشعال حرب الخليج الثالثة؟
تنحصر مسؤولية الشارع العربي بأنه شارع مكبوت، ومضطهد، وخائف، وجائع، وعريان، وعاطل عن العمل، ويفتش عن فرصة أو مناسبة يُعبّر فيها عن مشاعر سخطه وحقده على الأنظمة العربية التي سرقت المال، وافسدت الادارة، واعتقلت المعارضة، وأخمدت صوت الحقيقة، وحوّلت الأوطان الى مزارع خاصة، وحولت المؤسسة العسكرية من حامية للوطن إلى حامية للأنظمة، وانهزمت في كافة معاركها العسكرية والسياسية والتنموية، وتركت الوطن العربي قاعاً صفصفاً.
وعندما يتظاهر الشارع العربي وينزل الآلاف بشبابه العاطل عن العمل للتظاهر ضد الحرب، فهم يتظاهرون في الواقع احتجاجاً على الاوضاع العربية التي أدت إلى هذه الحرب. وهم عندما يهتفون ضد أمريكا والمتحالفين معها، فهم في الواقع يهتفون ضد الأنظمة العربية التي يعلم الشارع العربي علم اليقين بأن الأنظمة العربية هي من يتحالف مع امريكا جهراً وسراً، ومن فوق اللحاف ومن تحت اللحاف.
وهذه الحقيقة لم يدركها نظام صدام في العراق الذي كان جزءاً لا يتجزأ من الفقر العربي القائم الآن ومن الجوع العربي، ومن العوز العربي، ومن البطالة العربية.
وهو كان من أسباب كل هذه المشاكل التي يتخبط فيها العالم العربي عندما أحرق 400 مليار دولار في وجه الشيطان في حرب الخليج الأولى، وعندما أحرق 300 مليار دولار في حرب الخليج الثانية في وجه العنتريات، والحماقات السياسية والعسكرية، وترك الخزائن العربية الغنية منها والفقيرة خاليةً تعبث فيها الجرذان.
نعم، إن الشارع العربي عندما يتظاهر ضد حرب الخليج الثالثة، فإنه يستغل هذه المناسبة وهذه الفرصة الذهبية التي لا تعوض للتنفيس عما يملأ صدره من حقد، وغضب، واستياء، وضيق، وكراهية، وعداء للنظام العربي السياسي المسؤول أولاً وأخيراً عن هذه الحرب المدمرة.
ولكن صدام حسين – كعادته – لم يقرأ مثل هذه القراءة في مظاهرات الشارع العربي, فملأ كل هذا رأس صدام بالغرور والتعالي والمكابرة والشعور بالعظمة. واعتبر نفسه على حق، وأن الآخرين على باطل، فعاند، وانتفخ كالطاووس، ورفض كل حل آخر، يُجنّب العراق وشعب العراق الموت والدمار.
ولم يدر كل هؤلاء أنهم بما يفعلون، يُدخلون صدام ونظامه والعراق من خلفهم في شباك مصيدة رهيبة، وتجعلهم فريسة لكواسر الغابة!
...............................................