العودة   منتديات الـــود > +:::::[ الأقسام الثقافية والأدبية ]:::::+ > الإبداعات الأدبية
 
   
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
قديم 04-03-2003, 08:55 PM   رقم المشاركة : 1
Ba6a6es
( ود نشِـط )
 
الصورة الرمزية Ba6a6es
 







Ba6a6es غير متصل

الطوفان

سار جنب سياج الخشب، وهو يقوم بنزهته اليومية، كانت الساعة الخامسة،
والشمس تقترب من مهبط غروبها، شمّ رائحة الأزهار المرتمية على خشب
السياج. كان الطريق فسيحا وخاليا من المارة، وفيه أشجار متناثرة على
الجانبين، أشجار لها جذوع متينة، وأغصان متشابكة. كان وجود الأشجار في
هذه المزارع المسيجة، يفرض عليه إحساسا مضافا بالعزلة، فمرّ متمهلا في
سيرة، وقدانبسط أمامه مشهد مثير واسع، تزينه حلقات من الأطفال على
جانبي الدرب.

لم يكن يهدف من نزهته شيئا محدداً، باستثناء يقينه، أن نزهة المساء هذه
تبدد أحاسيس غريبة تنتابه كلما استيقظ من قيلولته. كان يعاني حالة خطيرة،
بدأت تنتشر مؤخرا، عادة النوم خلال الظهيرة، وقد حاول أن يجد تفسيرا يقنعه
الإدمان الآخرين عليها، مع استمرار نومهم المبكر ويقظتهم المتأخرة، فمل
يتوصل إلا إلى مجموعة انطباعات عزاها إلى طبيعة العصر، وإحساس الإنسان
بالخذلان. كان الآخرون يخلدون إلى النوم، حالما يفرغون من تناول طعامهم،
فيتدثرون بأغطية ثقيلة دون اعتبار لفصول السنة، ويتثاءب موظفو الدوائر على
كراسيهم، وطلاب المدارس في صفوفهم، وهم يحصون ثواني الزمن الذي يمر
بطيئا، فتتحول الحياة إلى قيلولة متواصلة، وعندما كان موظفا في مصلحة
الضرائب، شغف بمراقبة الناس من خلال نافذة غرفته، كان يراقبهم بحذر خاص،
وكان يتوصل بسهولة إلى كشف حالة الرتابة والانكسار فيهم. وكان جُلهم
يحدقون في مواقع أقدامهم، وخلال السنوات الأخيرة لوجوده في الدائرة، لم ير
أحدا منهم يرفع بصره إلى مكان يرتفع عن قامته. كان يلمح في وجوه القادمين
احساسا بالحيرة، وفي أكتاف الذاهبين علائم يأس، وكاد يتوصل إلى حقيقة،
وهي أن الجميع متجهون إلى النوم، أو مستيقظون للتو منه، وقد أولع بمراقبة
الأجفان الغليظة المتورمة نوما، وتضاعف ولعه، فكان يقف جوار النافذة ينسج
خيوط رغباته دون كلل، وبعد سنوات انتقلت العدوى إليه، فكافحها بكل يقظته،
لكنه استسلم لها بفعل قهر عام، لم يكن قادرا أن يوقفه فكانت الشؤون المالية
ترتبك لديه، بُعيد الثانية عشرة، وتتضخم الأرقام الصغيرة أمامه، ومرة قبل أن
يحال إلى التقاعد بأشهر، وجد سرابا من الأرقام، يكفي لإدارة دولة، وتيقن أن
دائرته ستمر في ازدهار خاص، يعود على الجهات المرتبطة بها بأموال طائلة،
وفسر الأمور على خير ما يمكن تصوره، فأبدى ملاحظات جدية على ورقة،
طواها برقة، ووضعها في محفظة أوراقه، وعزم على أن يقدمها إلى رئيسه في
الدائرة، حول الازدهار المحتمل لكافة الأوضاع، بسبب المداخيل الطائلة التي
تصل إليهم، ولما أعاد صياغة الملاحظات ليلا في بيته، وجد أن الرقم ما هو الا
كسر لرقم صغير، أصرّ أحد المراجعين على أن يدفعه كما هو، فأحاله احساسه
الخاص، إن كل شي يؤول إلى نهاية غير طبيعية، ولمح ذبول عينيه، وبرهنت
الأيام التالية أن العدوى بلغته. كان التعب يباغته ظهرا، فيتسلح بخجله أمام
الآخرين، لكن ساعات الدوام المتبقية تمر ببطء ممل وسط زحام المراجعين وهم
يقفون صفوفا في انتظار دفع أموالهم إليه. كان يبتسم بحزن آسر لكل هذا، وهو
يتلمس بطء الزمن بكل وضوح، ومرّ أسبوعان فداهمته العدوى بصورة لا قبل له
بها، ويتذكر الآن جيدا، وهو يتقدم في نزهته، كيف أنه استسلم لها أول مرة
على مقعد الباص الذي يقربه إلى بيته، وتوالت الأيام، فوجد نفسه في انتظار
ذلك الكرسي، فكان يغفو وسط لغو الآخرين، كأن الأمر لا يعينه، ثم ينتشل من
اغفاءته في الموقف الأقرب لبيته، كأن ثمة من يهزه، ويوقظه من سيلان أ؛لامه،
وراح فيما بعد يضرب رأسه إلى المنضدة كيما يواصل الاحتفاظ بجزء من يقظته،
وفي أيلول استسلم تماما للحالة الجديدة، فهيمن عليه ذهول تام، إذ سرعان
ما وجد نفسه يصطدم بالموظفين والمراجعين الذين أغشت أبصارهم غلالة
نوم، فكأنهم حالمون، وانتظر أن يحال إلى التقاعد انتظارا ممضا، خالطه يأس وأد
كل أفراحه، وحدس أن كل شيء سيصبح جامدا وأن الزمان يتباطأ، ثم يقف،
ويعود إلى الوراء، وأن النوم سيداهم الجميع في لحظة يأس لا يمكن مواجهتها.

كان يبدد حزنه، بأن يخرج عصراً برفقة ابنته، يتنزهان معا خلال البساتين
والمزارع ووفي كل يوم كان يرى أراضي واسعة تطوق بأحكام، وتقام حولها
الأسيجة، ويسكنها غرباء لم يعرف من أين يجيئون. وكانت تبنى فيها بيوت
كبيرة، بدأت تلتصق بالتلال البعيدة. كان الغرباء يتوافدون ابان فترة النوم تلك،
فأنبتوا أشجار كثيرة وأقاموا بساتين كبيرة، دون أن يعترضهم أحد. كان بعضهم قد
تسلل من أحياء المدينة، لكن أغلبهم قدم من أماكن مجهولة، كان يكرر هو
نزهته اليومية، فلم يتعرف إلى أحد منهم، ولم يكن راغبا برؤية شيء، غير دغل
مزارعهم، الذي يُقصّ ويُلقى أكواما في طريق نزهته، وكانت بيوتهم ترتفع
مضيئة وسط الظلام الذي يبدأ عند تخوم آخر حي في المدينة.

كان يواصل تقدمه، وهو يراقب الزهور التي تندفع من خلال الأسيجة،بعينين
تشيان بقلق عميق، كان في نزهاته السابقة يقود ابنته الصغيرة الوحيدة،
فيبلغان ملتقى أسيجة الخشب، قرب المنعطف حيث تتكاثف الأشجار، وتلتحم
في حنين غامض، كانت الصغيرة تتعثر بحجارة الطريق، ولم تقرب سياجا أبدا،
إما هو فكان ينظر إلى الغرباء يرتمون أمام دورهم، كانت الصغيرة تشم عطر
أزهار الدفلى دون أن تقربها، وسره أن ابنته تكبر بسرعة، وأن زوجته لا تأبه
لغيابه عصرا، فكانت تعد عشاء خفيفا يستمر قضمه وقتا طويلا، تخنق أثره
الأضواء في البيت، وبعد أن أحيل إلى التقاعد، أصبح يستيقظ متأخرا، فيزيح
ستائر غرفته، ويرى هامات الأشجار في البساتين المجاورة، وكان يستمع إلى
نباح كلاب آت من تلك النواحي، كان نباحا مدربا يتلون بأوامر مدربين خاصين،
وكان يزداد ضراوة بمرور الأيام، وكان يفكر بتلك الأصوات المتشابكة، وفسر كل
ذلك إلى خشية أصحابها من الآخرين، وربما من أهالي الحي المجاور، وحاول أن
يستحضر حالة اعتداء واحدة طوال سنين وجوده، فأعلن مع نفسه أن الأمر
محيّر. كان نباح الكلاب يتواصل باستمرار، ولما أصبحت تربيتها عادة مألوفة عند
أولئك الغرباء، خيم رعب على الجميع، وخاصة الصغار، فمنعت سيدة طفلتها من
الذهاب إلى المدرسة، لاعتقادها أن كلبها هائجا سوف يفترسها، كان قد توغل
بعيدا، فرأى حلقات الأطفال تلتئم وسط حراسة الكلاب، وأذهله مشهد طفل
يمتطي كلبا رماديا طويل الأرجل، وآخر يقود كلبا ذا جلد أسود لامع، عريض
الأذنين، من طوق جلدي، فنظر إلى كل هذا بحياد مطلق، لم يثر فضول أحد، بل
أعتقد أنه بمروره اليومي من هنا، غير مرئي. كان ذبول قرص الشمس يزيده
إصرارا على مواصلة السير، وكان الطريق بحصاه الصغيرة، وأزهاره المتدلية،
يدعوه لأن يتقدم إلى الأمام، كان ساهيا، ينظر إلى حيث لا يدري، وكانت
الأزهار تشعل إحساسه بما انقضى من عمره، فيتوكأ بحذر على المستقبل،
غير آبه بغير ذلك، وفي مرة نزل المدينة مشيا على الأقدام، واشترى من بائعة
زهور وردة بيضاء كبيرة قدمها إلى زوجته، كأنه يحاول إيقاف تقدم حياتهما، فقال
له مؤنبة:



" لم كل هذا؟ ألا ترانا مطوقين بالأزهار؟".

فأجابها:

" لكنها ليست أزهارنا".

فقالت بهدوء:

الأزهار لا مالك لها".

فقال:

" هذا كان، لقد تغيّر كل شيء".

فقبلت هديته مترددة، وثبتتها في مزهرية، وصبت عليها مزيدا من الماء، كانت
زهرة كبيرة قاومت الزمن أحد عشر يوما، لكنها ذبلت بفعل الحقيقة، ولم
تستطع جرعات الماء أن تواصل بث الحياة فيها، فآلت إلى وريقات جافة شاحبة،
وجدت بعد أيام متكسرة في قعر الإناء. كان يشتري زهوره، وينفخ الحياة فيها
إلى حين، ولما أظلمت الأمور، وأصبحت الوقائع الغازا، اختفت الزهور من
المدينة، فأصبح الحصول على زهرة طبيعية مستحيلا، فظهرت زهور اصطناعية
مثيرة، ذات ألوان زاهية مبهجة، تنضج بأزرار خاصة، ولكن لا رائحة لها، غامر مرة
واشترى واحدة منها، فرمتها زوجته خارج البيت، وقالت له؛ أنه بعمله هذا يحوك
لها كفن الموت، وحاول الأيام أن يفك الغاز كلامها الغامض، ولما عجز أيقن أنه
حكمة. قادته هذه الأفكار إلى الأمام، كان عطر الأزهار يندفع إليه من كل ناحية،
عطر مثير وجديد لم يسبق أن شمَّ له مثيلا، كان عطراً غريبا نفاذا يعقل
الحواس، فلا يبقي إلا مشاعر مبهمة، غير محددة، جعلته يظن أنه يحلق في
فضاء من زهور، أو أنه واقف في بيداء ورد، فتهمي عليه أمطار كأنها وجدت من
أجله، واضمحلت في رأسه ذكريات النوم، وأحس بأن أيامه كانت تتسرب كعقد
منفرط، وعجب لإهماله، وعدم جرأته في الوصول إلى المكان القصي، الذي
تزدهر فيه الحياة منذ بدء الخليقة، وداهمته موجة عطر أخرى، جعلته يحلق
بعيداً في الوهم، مثل كائن شفاف أثيري. لم يكن قادرا على أن يدرك كل هذا،
فقد هاجمته الروائح وعطلت إحساسه بالواقع، فتواصلت خطاه كأنه يذوب من
أجل هدف سام. ومن خلال الأزهار، رأى مروجا خضراء، وقد تكاتفت أعشابها
بحمية غريبة، لم يستطع إدراك كنهها، وتوقف قليلا، يتأمل ما ترى عيناه، كانت
ثمة عوائل متفرقة تجلس على مقاعد خيزران في سفوح التلال، وتنظر إلى
الشمس الآفلة، كأن الروائح قد ضربتها في الصميم، وكان بعض الأطفال يلعبون
مع الكلاب بآلية، وقد بدت تلك الكلاب رقيقة، خانعة، ذابلة العيون، فوقف يرقب
المكان، الذي لم ير فيه غير الدرب من قبل، ولم ير غير حجارته من قبل. كان
ثمة رجال يجلسون إلى الجانبين، يشير انطواء الكراسي تحتهم إلى متعهم
الحقيقة، وقد علّقت عيونهم إلى الأفق، فاستحضر حالة النوم، وعجب لهذا
التداخل المحير، وواصل تقدمه، فرأى سفوح التلال تضيق وتنحدر جنوبا، لا يثبت
ترابها الاّ جذور الأشجار المتشابكة، ووقف ينظر إلى أولئك الرجال، فبدوا له أنهم
سيتدحرجون نحو الهاوية بمجرد نسمة ريح، لكن كلابهم تربض أمامهم وقد
ومضت عيونها ببريق الموت، فذاب احساسه بالعزلة، وطمر تحت سعادة تراكمت
فجأة، فقلعت في لحظات سنين حزنه، وبذرت فيه فرحا نامياً، وهبت روائح أشد
عطرا، أحسها وحده، وندم لأنه حرم ابنته من أن تشاركه هذه النزهة، فقرر
العودة مسرعا إلى البيت.

كان البيت معتما، ينيره مصباح وحيد معلق في الواجهة الخارجية، فأسرع صوبه
وكل ما يخشاه أن يسكن الهواء وقت الغروب، فتعلق الروائح قرب الأزهار، ويصبح
شمها صعبا أو مستحيلا. نشطت حواسه كلها، وهو يخب صوب داره، وقد عزم
على أن يعتقل إحساسه بالفرح، كيما يطلقه عندما يكون برفقة ابنته عند كومة
الأزهار التي تحاذي السياج، باقات.. باقات قرب التلال. وحالما وصل وجد ابنته
تحمل إبريقا تسقي أزهار الحديقة التي تفتحت لتوها. لم يكن بوسعه أن
يشرح لها أي شيء، تناول إبريق النحاس من يدها ووضعه جانبا، وحملها من
ذراعيها وأوقفها إزاء الباب الخارجي، ودخل إلى البيت، وجد زوجته تعد مائدة
العشاء، كان كرسي ابنتهما الوحيد، يشكل ضلعا للمنضدة المربعة البيضاء.
وكانت زوجته قد وضعت عدة أطباق فارغة على المنضدة، وانشغلت في تبريد
الطعام، قالت له وهي تحس بوجوده خلفها:

" لحظات ويكون الطعام على المائدة. أين الصغيرة؟".

لم يستطع أن يجيب، فواصلت:

" لم أتأخر هذه المرة كما كنت تدعي كل يوم، كنت في انتظارك".

وتابعها وهي تعد المائدة، وتضع الفواكه في إناء خزفي كبير، وهي تقول:

"هذا من أجل الضغط الذي فيك".

قال، وصوته يتدفق شلالاً من الفرح:" سنعود حالا، لن نتأخر سوى دقائق".
التفتت إليه، بلا مبالاة، وهي تؤدي عملها بمهارة.

" لن أعيده إلى الفرن، أين الصغيرة؟". أجابها وهو يلتفت حولها بحركة لم
تعهدها من قبل:

" قرب البوابة، استأذنك، سنهرول لنشم رائحة غريبة بين التلال، قبل سقوط
الشمس، وسنعود حالا، وداعا".

وخطا صوب الباب، لكنه التفت إليها وقال:

"لن نستغرق النزهة غير دقائق، سنمضي إلى هناك جريا، فالشمس آلية
للسقوط".



وترك المكان، وجد ابنته واقفة تحت طوق البوابة، كانت مستندة إلى الجدار، وقد
ارتفع ثوبها الأبيض، فكشف عن ساقين نحيلتين وحذاء أبيض صغير. قفزت
أمامه، فهرول خلفها، دون أن يعير لكبره انتباها. كانت الشمس قد توردت،
والتهب قرصها واستطال، فقطرت أشعتها خيوطا حمرا في المنحدر بين التلين
المعشبين. كان الأب يريد أن يبلغا مكان الرائحة في وقت مبكر، كي يعودا قبل
أن يبرد الطعام على المائدة.

وضع الأم زهورا تفتحت في حديقتهم قبل قليل، في إناء زجاجي، وثبتتها وسط
المائدة، كانت زهورا بيضاء اللون، بحجم رأس الاصبع، ذات رائحة قوية لكنها
مألوفة أغدقت عليها الماء، فطافت وشعت بحياة جديدة، وفكرت أنهما ربما
سيتأخران خمس دقائق، فقطعت الفواكه، ورتبتها في إناء آخر، واستخدمت
السكين في تقطيع أقراص الخبز، واستنشقت بعمق عطر الأزهار أمامها. فكر
الأب، وهو يحاول اللحاق بابنته، أنه لو قيض له أن يشم هذه الروائح من قبل لما
أصابه مرض النوم، والشيخوخة المبكرة والضغط، ثم راقب الحصى الصغيرة تتطاير
بفعل حذاء ابنته.

وقفت الأم أمام المائدة، ورتبت من جديد الملاعق والسكاكين والشوكات، ثم
رفعت الملاعق، بعد أن تذكرت أن طعام العشاء لهذا اليوم لن يؤكل بها، وجلبت
اناءً زجاجيا مملوءاً بالماء وزعته على كؤوس صغيرة.

وضع الأب يديه في جيبي بنطاله، وراقب شرائط حذائه القطني الذي يرتديه أول
مرة، وتعقب الصغيرة مهرولا، غير آبه بأحد وقال:

" سنبلغ المكان، ثمة رائحة غريبة".

قالت الصغيرة:

"أين؟".

فأشار صامتا بيده إلى حيث يضيق الطريق، ويندفع السياجان نحو بعضهما
ليكونا سياجا واحدا، يطل على المنعطف. فتحت الأم النافذة. فتغلغلت ريح
عبقت برائحة أزهار المائدة، فأزاحت مناديل الورق، واسقطتها على الأرض،
حملتها الأم وأعادتها إلى مكانها، وجلست بمواجهة كرسي الصغيرة، نهضت،
واستدارت حول المائدة، وجلست على الكرسي الصغير، أحسب أن مقعده
يضايقها، وأنّت حاملاته الخشبية تحتها، لكنها واصلت الجلوس.

تسلقت الصغيرة سياجا خشبيا، وثبتت أقدامها في فتحاته، وحاولت أن تتوازن،
فوقف الأب ذاهلا بالعطر الذي يتصاعد من كل مكان، اقتربت الفتاة الصغيرة إلى
خميلة زهور يحتضنها خشب السياج، تعلوها زهرة بيضاء كبيرة. وضعت الأم
رأسها بين يديها، واتكأت على حافة المائدة، تنظر خلال النافذة إلى الأفق
الملتهب، وقد استسلمت لطفولتها.

شذا عطر آسر، شد الصغيرة إلى خميلة الزهور، فلامس أنفها الزهرة الكبيرة،
وهي تقف فوق السياج وقد شبكت يديها حول خاصرتها. اهتز المكان بأصوات
مبهمة، كأن ثمة زلزالا ثلم وجه الأرض، فتكسر باطنها، أحس الأب أن الأصوات
قادمة صوبه وابنته، كانت عيناه معلقتين بالصغيرة، وهي منحنية وقد أسكرتها
رائحة الزهور، وفي اللحظة التي امتلأت فيها رئة الصغيرة بتلك الرائحة، اندفعت
أربعة كلاب رمادية هائجة من الجانبين صوبها، كانت أبوازها مفتوحة وقد حُدّت
أنيابها، تحت وطأة سياط لا تحصى وامتدت قوائمها إلى الأمام في حركة جامدة،
باتجاه الفتاة، وقد طويت بطونها، فبدت نحيلة ومستوحشة لدماء بشرية. وفي
اللحظة التي استعاد فيها الأب احساسه بالحقيقة، التقت أنياب الكلاب على
عنق الفتاة، وتقاطعت مخالبها حول جسدها تحمل مزقا من ثوبها الأبيض.
وطارت يدا الفتاة بأكمامها العريضين في الهواء، وقد فصلتا من الكتفين، ومازال
الجسد منتصبا في انحناءته السكرى، ثم اندفعت أربعة كلاب أخرى، في حركة
مماثلة، وقد التصقت جلودها إلى عظامها، ففصلت رأس الفتاة، فحلق بضفيرته
الشقراء الطويلة وارتمى فوق خميلة الازهار، ثم تقاطع كلبان آخران، حول
جانبي السياج، فأجهزا على الصدر الذي غسلته الدماء، ومازال جسد الفتاة
منحنيا يتلقى اندفاع الكلاب من الجانبين، ثم اندفعت كلاب صامتة، لكنها
سريعة، تشي عيونها بالظمأ لقطرة دم واحدة، فطحنت جسد الفتاة بمخالبها
وأنيابها، فارتمى إلى الأمام وسط خميلة الزهور، فوق الزهرة البيضاء الكبيرة،
التي تلونت أوراقها بالدم، التفت الأب حواليه، فرأى كلابا أكثر توحشا تندفع من
جميع الجهات تبحث عن رائحة دم غريبة وسط خميلة الزهور.

لم ير من قبل غيوما سودا مثل هذه الغيوم، كانت غيوما راكدة، تكونت خلال
سنين طويلة، تحجب بعضها بعضا، ظهرت أثر اختفاء قرص الشمس، فأخصبها
الظلام، وكونت أشكالا مختلفة.

لم يدر كيف ظهرت هذه الغيوم في الأفق، إذ سرعان ما اندفعت بفعل ريح
عاصفة، امتصت رائحة الأزهار، وكنست تويجاتها الصغيرة فاختفت كأنها لم تكن،
وتداعت أسيجة الخشب، وذبل الغضب المتوحش في عيون الكلاب فهرولت إلى
أوكارها بذل مبهم حل فيها فجأة.

كانت الغيوم قد بلغته، فجعلت تزحف واطئة، تكشط أعشاب الربيع وأزهاره. ظل
واقفا، يكبله ذهول أخرس، فرأى سيف برق يتلوى في السماء، ناحية الشرق،
فضح زحف الغيوم، فذاب احساسه بالقيلولة، وتسرب فرحه، فقرر أن يعود إلى
البيت. سلك طريق ذهابه وإيابه، الطريق الذي ألفه منذ سنين طويلة، وألف
حجارته ومنعطفاته، فلم ير زهرة ولم ير عشبا، ولم يرقصوا كما كان يرى من
قبل، رأى فقط دربا كالحا، ومرتفعات جرداء وخرائب يطوقها الظلام، حث خطاه
مسرعا، وانحدر تجاه المدينة القديمة إلى القعر الذي غطس فيه نصف قرن،
ففاجأه ظلام حالك لم يعهده، فشعر أنه يفقد احساسه بالأشياء، لكنه، بفعل
العادة، أطاع خطاه وهي تقوده صوب البيت، كانت الطرق مفتوحة، والأبواب
مفتوحة، لكن النوافذ تصارع بيأس غضب العاصفة، استحضر وعده لزوجته بأن
يعود إليها مسرعا، لكن ذلك الوعد أصبح ضمن عهد مضى، ورحلة العودة أنسته
كل شيء، أبقت أمامه الأشياء ذاتها، لكنها امتصت فعلها، وهيمن على ذاكرته،
ظلام جبار، وكأن النوم سيداهمه من جديد، لم يعد يدري ان كان راجعا من
نزهة، أو ذاهبا إليها، لم يكن قادرا على أن يستذكر شيئا، وجد باب البيت
مفتوحا، وكأن كل شيء مستباح.تعثر بأصص الأزهار المتناثرة قرب الباب، ورأى
زوجته، تقف خلف الزجاج، وبيدها شمعة بيضاء طويلة، كان ضوء الشمعة
يطوقها، فيحجب عنها كل شيء، وقد أمضها الانتظار، وهي تحدق إلى الظلام،
استطاع الوصول إليها، فالتفتت إليه، بحس الأنثى عندما يكون قربها رجل، وقد
أدركت كل شيء.

كان المطبخ معتما، لا تنيره الا دائرة الضوء المنبعث من الشمعة، فاقتربت إليه،
وقد ذبل جسدها الذي طمرته سنون العزلة، وواجهته بذبالة الشمع، فحدست
ما جرى، وقالت:

"لا داعي لأن تحزن، اجلس".

قادته زوجته إلى المائدة، وأجلسته على مقعدها، لم يتبادلا مقعديهما من قبل
أبدا، كان يرتجف منذهلا لكل ما حدث، لم يدر ماذا سيقول؟ وعن ماذا سيتكلم؟
كان الظلام قد طوقه، فأحاله إلى كائن مخدر، لا يستطيع سوى أن يرى.

وقفت قبالته، وأمالت الشمعة، ونكست طرفها المشتعل وسط المائدة،
فتساقطت قطرات من سائلها، غرست فيه الطرف الآخر، فالتهبت الذبالة من
جديد فتقهقر الظلام قليلا، لكن الضوء لم يبلغ الجدران، وجلست على كرسي
ابنتهما الصغيرة. كان الطعام موزعا على صحون صغيرة، وكانت باقات الزهور في
أصصها الملونة، وأواني الطعان تنفث بقايا بخار. اتكأت الزوجة على مرفقيها، وقد
حاصرها الظلام، كان ينظر إليها ولا يراها، كأنهما تمثالان من رخام حول مائدة
يحكمها الوجوم واليأس، وأذاب السكون ذهوله، فوجد نفسه وزوجته وحيد ين،
وحيدين أمام الظلام، لا تربطهما بالعالم الا شمعة واحدة، شمعة لا يستعان بها
الا في حفل خاص مثل هذا.

قال، وكأنه يتوسل ظلاً متراقصا أمامه:

"يا إلهي، لم كل هذا الوهن؟ ما شعرت بضعف من قبل كما أشعر الآن".

قالت الزوجة:

"لنطو ما مافات، ولنر ما سيجيء".



كانت تود أن يتواصل صمتهما، وقد بدت كمن استوعب هول الصدمة، الا أنها،
وهي تحت سطوة ذهوله، تجنبت تماما أن تلامس موضع آلامه، لكنه لم يكن
كذلك، فقد أحس بالخذلان والمواساة، ووجد نفسه وحيدا في بيداء الخوف،
الخوف من لا شيء، ومن كل شيء، نظر إلى زوجته، وإلى المائدة، ونظر إلى
ساق الشمع الذي احتفل ببعضها قبل أيام لمناسبة ميلاد ابنته، كانت ساقا
طويلة، تكفي لانارة احتفال فريد مثل هذا الاحتفال، ساقا تلتف حول نفسها
مثل جذر، تتوزعها ألوان عديدة، أشاعت النور في المكان، فبان وجه الرجل
ضامرا، وبدت عيناه ضائعتين، لا تريان شيئا.

قالت الزوجة مؤكدة:

"لنطو الماضي، يكاد يهلكني التفكير به".

قال لها:

" أتصبرين أم تصابرين؟".

قالت:

"لافرق".

قال:

" لكننا فقدنا الصغيرة، افترسها الكلاب ضالة" قالت، وعيناها تشعان بغضب نهض
فيهما فجأة:

"بل كلاب مدربة، إن إحساسك بكونها ضالة، هو الذي قادنا إلى هذه النتيجة".

قال:

"ما كنت أظنها كذلك، رافقتني هذا الاحساس منذ الطفولة، لمي أتصور كلبا الا
وهو أليف".

قالت:

"كان ذلك منذ زمن بعيد, بعيد جدا"، فقال، كأنه يواصل حديثه:

"لم أرتب مها أبدا، كنت أتنزه كل مساء جوارها، لم يكن ليحصل كل هذا دون أن
أعي شيئا".

كان الضوء يحاصرهما، والريح في الخارج تزأر، وهي تلامس زجاج النوافذ،
والجدران، وأعمدة الكهرباء. كانت ريحا عاتية، ينفذ صريرها خلال النوافذ، وهي
تعربد في الشوارع والطرق، تدخل الازقة والبيوت، وتعقل الجميع في صمت
أخرس يشل الألسن.

قالت له:

"كان يجب أن نتحدث، كان يجب أن نجلس معا منذ سنين ونتحدث".

قابلها بصمت حائر، وهو أسير رعشة مبهمة مازالت تهيمن عليه، فأضافت:

"كان لا بد أن نتحدث، كان لا بد أن تتحدث أنت بالذات، لم يفرض علينا الحديث
الان؟

أتذكر، ما جلسنا مرة لنتحدث؟ لقد كانت جلساتنا لالتهام الطعام والثرثرة، لم
نكن قادرين على أن نبصر ما حولنا".

قال يائسا:

"هل ستقاضيني؟ أم ماذا؟".

أجابت:

"بل سنقاضي نفسينا، كانت الأمور تجري حولنا دون أن نفهم شيئا، بل اننا لم
نحاول أن نفهم أي شيء على الاطلاق. لم يكن ثمة شيء يستشيرنا حتى لو
أمطرت السماء لهبا، كل شيء يتغير الا نحن، بقينا نعيش منطويين عشرين
سنة في هذا البيت، نوصد الأبواب والنوافذ، ا،ت تكابد نعاسك، وأنا رهينة هذه
الجدان، ونتساءل من بعد، لم يحدث كل هذا؟".

قال:

"إنني لا أفهم شيئا، كانت الأمور مسرعة خاطفة، صحيح أنها بدأت بطيئة
متثاقلة، لكنها تسارعت في السنوات الأخيرة، ولم يمكن فهم كل شيء".

قاطعته:

" أنختلق لنفسينا الاعذار؟ دعني أقول، أنك السبب، كنت منهمكا في عملك،
لا يقلقك الا إرضاء رؤسائك في الدائرة، كان هاجسك تدقيق القوائم المالية،
وطالما استيقظت ليلا، واختليت بقوائمك، ولما احلت إلى التقاعد، أصبح
شاغلك النوم، لقد انحدرت مع التيار، فقادك عنف مواجه إلى صخور المضيق
الخطر".

كان صامتا، ينظر إليها، وقد بدأ يرى الأشياء، تبعث من ضباب ذاكرته، وكأنها
تحدث الآن، فواصلت:

" أتذكر، أنك أول من زرع بذرة اليأس في هذا البيت، عندما ما ابتعت لي زهرة
بلاستيكية، تتورد بفعل أزرار معدنية؟".

قال:

" أجل كنت أبحث عما يبعث فيك البهجة".

قالت، وقد بدأ صوتها يدرأ قوة الظلام حولهما، وهي ترى ساق الشمعة تتضاءل
أسفل ذبالة النار.

"من هنا بدأت المشكلة، من قال أن الزهور خلقت للبهجة، لقد بدأنا نفسر
الأشياء، كما نحب، ولما كبرت ابنتنا، اعتقدت أنت، أننا أصبحنا في منأى عن
الخوف، وأننا في بحر من النعيم، فتعاملنا معها كزينة فحسب لبعث المتعة
والفخر فينا، أكان يجب أن نتوسل تبسط الأمور هكذا؟"

قال:

"لا أفهم، ولكن كيف؟"

أجابت:

"عبثا الحديث عما فات، لقد آل كل شيء إلى الخراب".قال:

" لكنني أشعر الآن بضعف‍‍!".

قالت مؤكدة:

"هكذا كنت منذ زمن بعيد".

قال:

"كيف؟

فأجابت بحزم:

" لم يقلقك شيء في حياتك غير نفسك، كنت تهرول صباحا إلى العمل وتعود
خببا إلى الفراش، وفي الليل، تتصاغر أمام كل شيء، كنت تبدو أحيانا مثل
دمية تنفعل بتوجيهات أصحابها، كم أحسست أنك مندفع وراء أمور تافهة، لقد
كنت مذهولا وترى أننا في منأى عن الخوف، ولم تدر أنه سال بيننا دم فاسد
عصف بكل شيء، وأصبحت الأمور تدل على غير ما يفترض أن تدل عليه".

قال:

"كيف؟، كيف؟".

أجابت:

"أما تزال جاهلا بما أوصلنا إلى ما نحن عليه، لقد أغشت أبصارنا غلالة شفافة،
لكنها معتمة كالليل، وكانت مثيرة لأمثالنا ممن يوصد بابه، ويتصاغر إزاء كل أمر".

قال:

"تبدو لي الأمور، وكأنها تنفض عن نفسها غبارها، وتقترب إليّ، لقد كنت غافلا،
لكن كل شيء كان يبدو عاديا".

قالت:

" هو الخوف الذي أفقدك الاحساس بها، خوف زرعناه في نفوسنا، ورويناه
فاستطال وتوالد، وتحكم فينا حتى رضخنا له في استكانة ليس لها مثيل".

كانت ساق الشمع تجاهد الا تستسلم لتلك الذبالة التي تحرق لبها وتذيب
جسدها، لكنها انتصفت في صراعها معها، كانت ذبالة صغيرة، تطل ببراءة فوق
هامة الساق، وتنخر فيها، وقربها كانت أواني الطعام ما تزال مرتمية، وقد بقرد
فيها الطعام، ومر زمن ازداد فيه صوت الريح وهي تهم باجتثاث البيت، ولكن
الزوجين كانا ساهيين عما حولهما، كأن ليس ثمة ما يذودان عنه.

واصلت الزوجة:

"هو الخوف لا غيره....".

لكنه واقفها بإشارة من يده، وحاول أن يكسر طوق صمته فقال:

" الان بدأت أفهم كل شيء. ولكن ما اشد هذا الحزن‍!؟".

واقترب إلى المنضدة، وود في آن، أن يخنق الضوء وأن يزيده، وشعر، أول مرة،
بأنه غير قادر على كشف وجه زودته جيدا، لكنه أحس أنها سكبت مزيدا من
الدمع، فواصل وهو يراقب ذبالة الضوء، وكأنه مشدود إليها:

" مثل حالة كشف روحي، بدأت تداهمني الآن، وتمزق كل الحجب أمامي، ها
أنا أرى الأشياء، تحت شلال من الضوء، لقد بدأت أفهم السر، سر ذلك النوم،
وذلك الخذلان والذل، كان نوما قاهرا يتسرب إلينا فيشلنا ونحن ذاهلون به مثل
سحب المطر كان ربيعا جميلا توردت ازهاره، واخضرّت أرضه، يا لها من أماس
مذهلة، أخطو فيها بين التلال، أرقب ارتال السيارات، وافواج العمال العائدين من
يوم عمل مضن، عمال منهكون من شدة اندفاعهم وراء الاجور المغرية، مهدوا
الطريق بين التلال، التلال التي ارتبطت بطفولتنا، وكنا نستظل بأفيائها قبيل
الغروب، ونلعب على سفوحها، وفي أيام حفرت أسس مثل خنادق قتال، وصبت
فيها أطنان من الحصى والاسمنت، وتحولت مرابع طفولتنا إلى أكوام من
الحجارة الكبيرة، وارتفعت جدران قوية، وتناثرت قطع الآجر الأحمر في كل مكان
ذلك منذ عشر سنين، كنت أرى الجميع ينفضون عنهم خمول قورن طويلة، وقد
انجرفت مع الحالة بكل عواصفي، كنت متفرجا فحسب، أرقب حالة التغيير التي
شملت عالمي، ما كان أشد شروري، وأنا أرى أولئك العمال المستوردين،
يتنافسون بصبيانية، في حفر تلك الأسس العميقة على سفوح التلال، وكم
أبهجتني صقالات العمال وهي تئن تحت أقدام العمال، وفي أشعر نهضت مبان
لم أحلم بأن أراها، في يوم ما صبغت وركب عليها زجاج سميك، وطليت أبوابها
بلون واحد، لون أحمر قان، هو لون الدم، كل هذا أوقد فيّ إحساسا بزهو
خاص،وبذر في تفاؤلا لم أدر كيف انطوي عليه، تفاؤل أشبه بمادة ملتهبة،
يتبدى مني حين أتحدث، وحين أتأمل وحين أحلم، كل هذا حدث ابان سنوات
النوم، فازدهرت مشاعري، وانتفضت في أحاسيس ضمرت من قبل، وظننتها
ذابت، وطمرت في حضيض التاريخ، لكنها بزغت مثل زهور ندية ترتمي حولي،
وتطفح مني، فأخرج في نزهتي كل مساء، فتمتص الحالة الجديدة حزن
قيلولتي، فأحس بسعادة كمن يهبط في رماد، وغالبني شعور، تسلط عليّ،
وساقني أمامه أسير الحالة، فكنت جاهزا لقتال من يرى غير ما أرى، في الربيع
التالي، مُهدت الأراضي المجاورة، وسيجت بإحكام، وفرشت الأراضي، بين
البيوت بتراب أحمر كأنه ضمخ بالدم، جُلب من بلاد مجهولة، ووصل بستانيون،
بأزياء خاصة، كأنهم من آثار التاريخ، بستانيون متجهمون يعلمون بدأب
وملتحون، يزرعون بذورا، تنبت أزاهير، تفوح بأزكى العطور، وفي أسابيع تهدلت
الورود على خشب الأسيجة، وانحنت أغصان الأشجار كسلى، وانسحب
البستانيون، فلم أعد أراهم، كنا في قلب ذلك الربيع، لما حلت زمر من الكلاب
الضامرة، علقت في أعناقها أرقام معدنية، فرزت بصورة دقيقة، كيما تتعاون فيما
بينها، دون أن تقتتل في يوم ما، كان بينها اناث، وفي أيام تالية، استوردت لها
أنياب ومخالب، ورُكّبت في غفلة عن الجميع، ولم ترعبني في يوم ما، إذ كنت
أخطو كل مساء جوارها، فأسمع عواءها، وأحزن لذلك، كان حراسها ومدربوها
يتعاملون معها بسياط من جلود، دبغت ولانت، فكنت أراها تلتصق بأجساد تلك
الكلاب، ونترك عليها آثارا واضحة، لكن تلك الكلاب، استعادت لحمها، في ظل
تلك السياط القاسية، ولم أدر أنها تتدرب على عشق الدم.

كان أول ما وصل، رتل من سيارات غريبة، ترجلت منها عائلات، بضع عائلات،
وفي الأيام والأسابيع التي راحت تمر كحلم، توافد آخرون، أمرّ من أمامهم،
ساهيا عما حولي، فلا يثيرهم فضولي، وكانوا يخضعون أنفسهم لحفلات تعارف
فيما بينهم، وقد أعتادتهم كلابهم، فلا تثير بحضورهم غير أنين وتوجع، وهي
تمرح مع الأطفال في إخاء أبدي، فأثار كل هذا فيّ حنينا للطفولة، وكنت انذهل
بما أرى، وأعجب به، لم يكن يثيرهم مروري، فكأنني من عصر مضى.

كنت انطويت فيهم، فأصبحت أحدهم، ولست جزءاً منهم، وتقبلت، أثر ذلك؛ كل
ما كان يحدث بوصفه شيئا يخصني، وطالما تأملت في عيون الغرباء، فكنت
أراها ناضرة، لم ار تلك الغيوم التي تراكمت في الأفق، ولم أتصور أنها ستكون
عاصفة كما هي الآن، ما أذكره انني كنت ألمس ظاهر الأشياء، ولا أستطيع أن
استشف جوهرها، واصلت نزهاتي لسنوات، وأنا أرى البيوت تزداد منعة، الكلاب
تزدادا عددا، وهي تتخفّى بين الأشجار أو تربض في أوكارها بانتظار لا شيء.

أصبحت مدمنا أرقب هذا، ولم أعد قادرا على أن أفارقه يوما واحدا.

كانت الحالة الجديدة، تتوالد في تعانق حميم، يحكمها حنين جارف لا يبلغ
مدان÷ فتثمر عن مزيد من الكلاب والمباني الجديدة، كنت أرى في عيون
الكلاب، خلال مربعات أسيجة الخشب ذهولا تاما، وفي مرة واحدة فقط لمحت
في عيني احدى الاناث، غضبا عارما، فسرته باحتياجها إلى ذكر، وخلال هذا،
كانت ابنتنا تكبر في حماية مطلقة، فتلتف حولي، وتتراكض هنا وهناك، وتنظر
إلى العزباء، فتراهم جزءاً من شبابها القادم.

لم انفعل بما كنت أرى، كما انفعلت هذا المساء، فقد ارتديت حذاء كتان، جلبته
من أحد أسواق التهريب، وودت أن أجربه هذا اليوم، حذاء من كتان، ناعم، ولكنه
متين، يصلح للنزهات القصيرة، ويغري بالجري، وخرجت دون أن ارتشف كوب
الشاي الذي اعتدته، أثر القيلولة، فقد أحسست بثقل الأحزان، وكان ثمة من
يضاعفها فيّ، فأبكرت لتبديدها، كان ضوء الشمس يغشي البصر، ضوء يزهر
الخيال، ويفتض آفاقه، فرأيت الأزهار تينع لي وحدي، فذاب حزني، حالما
استنشقت أول نفحة عطر،وودت لو أركض وأركض إلى مكان لا أدري أين يكون،
لا عبر عن فرح طارئ، نما فيّ وطفح في نزهة هذا المساء.

وخجلت أن أبدو متصابيا أمام الغرباء، فمشيت بإحساس من يحلّق، شعرت
بخيوط سحرية تجدني بقوة صوب التلال إلى قلب المزارع المترامية، إلى مكمن
أجمل الأزهار، ووجدتني أكاد أذوب في وجد بكر، غلف أفكاري.

كانت لحظة مذهلة تلك، حينما اندفعت إليّ رائحة نفاذة، تذيب الاحساس
بمكونات العالم، وتبذر المجد في النفس، فشعرت بأني أخطو في هواء صاف
تداعبني تياراته، وتدفعني قدما إلى مصدر الرائحة المنبعثة من خميلة زهور
بيض ترامت على نفسها بثراء، تمالكت نفسي إزاء أوراقها البلورية، وعطرها
الذي تتسرب منه رائحة الخلود، فخطر لي، أنني نسيت ابنتنا في البيت، لقد
رأيتها حالما خرجت تلهو في الحديقة، فلذت وراء إحدى الأشجار وكنت أود أن
أنفرد آنذاك بحزني، وقفت على مقربة من الزهور، لا أستطيع الحراك فتورمت
هواجسي، وكدت أضل في غيبوبة الوحدة،وتدافع أمامي جسد الصغيرة، وكم
وددت أن تكون معي، لتشم تلك الرائحة، فعدت خببا، إلى هنا، قطعت المسافة
في دقائق، فوجدتها في مكانها، كانت تروي أزهار حديقتنا، الأزهار البيض التي
تفتحت صباح هذا اليوم، انتشلتها من ذراعيها، ونفضت التراب عن قدميها،
ووضعت إبريق الماء جانبا، وقدتها إلى خميلة الزهور، يدفعني حنين غامض إلى
ذلك المكان.

لم نعبث في الطريق ولم أسمح للصغيرة أن تلهو، كنا نتقدم إلى هدف واضح،
هيمن علينا كقوة جبارة، قوة ذلك العطر الفريد، اندفعت الصغيرة، وأنا خلفها إلى
قلب حي الغرباء الوافدين، وارتوت عيناها بمنظر الزهور، لكن الرائحة ما تزال
تشدنا إليها بقوة غريبة، ركضت هي أمامي، وحاولت أن أحاذيها، لكننا كنا قد
بلغنا خميلة الزهور، وقفت قربها، تضربها الرائحة في الصميم، فلا تقدر أن تلتفت
إليّ ولا تستطيع الاقتراب إليها، وقفت ، لكنها انحنت بخشوع وكأنها ستضم
إليها كل تلك الورود الكثيرة، واستعادت نفسها من غيبوبة اللحظة، فتسلقت
السياج الذي يحتضن الزهور، وانحنت عليها في رفق عذري، وكاد انفها يختنق
بتويجات الأزهار، كنت أقف على مبعدة خطوات لما أحسست بهزة عنيفة، إثر
اندفاع زمر من الكلاب نحو الصغيرة، زمر من الكلاب اندفعت اندفاعا جارفا من كل
مكان ظماء لرائحة دم، وتقاطعت أنيابها ومخالبها على جسد الصغيرة، كان آخر
ما رأيت يديها تطوحان في فضاء المزارع الواسعة، وجسدها، الصغير الدن
الممزق يرتمي فوق الزهور، لم تمهلني العاصفة، إذ رعدت السماء، وتقاطعت
سيوف برق كثيرة، ورعدت من جديد، فهبت ريح غاضبة، أبعدتني عن المكان،
وعادت الكلاب إلى أوكارها.

كان صعبا عليّ أن أواجهك بتلك المزق من جسدها المتناثر، فعدت مع طلائع
العاصفة، وحل الظلام فجأة فحجب عني كل شيء كأنني في حلم، وها أنا الآن
أدرك إنها عاصفة، عاصفة لا قبل لي بها، ولكني بانتظار ما هو أكثر".

ذابت ساق الشمع، وغاصت وسط سائلها، وانتصف الليل، ومر وقت طويل بعده
وهدأت العاصفة، وتلاها مطر مدراراً لم يسبق له مثيل، ومازال الزوجان متقابلين
الزوجة تتكىء على مرفقها كما كانت ساعة الغروب والزوج الذي يواجهها، وقد
بدا أنه يكافح هموما جارفة. دوى رعد، ثم دوى ثانية، وتواصل دويه، فسكرت
السماء في مطر ينصب منهمرا كرصاص وهو يقرع النافذة، ويصل صوته عبر
السقف والجدران. مر الجزء الأكبر من الليل، لكن الساعة المعلقة في واجهة
المطبخ خرست، وأبت أن تعلن عن الزمن، وغاصت ذؤابة النار بين تلال الشمع
التي تراكمت حولها، وبدت أنها مختنقة لا محال.

ود الزوج، وهو يتنصت إلى دوي الرعد الذي أصبح دويا مألوفا، أن يجهز على
إحساسه بالخوف، بأن يخرج ويستطلع فعل عاصفة المطر، لكنه ظل جالسا،
مشدودا إلى كرسيه، وقد حدس أن الأثر مدمر، فقد كان يرى في مرآة نفسه،
السيل الجارف، يقدم صوبهم من التلال، في صور فيضان مخيف يعربد في
الشوارع والطرقات، فيدخل الأزقة ويقتحم البيوت، بيتا بيتا، وجاهد نفسه وهو
ينهض، ويستند إلى كرسي زوجته يتأمل آخر نزع لذؤابة الشمع، ووجه زوجته
الذي تحول إلى معدن صديء وإلى المائدة المنتظرة، قالت الزوجة:

"إلى أين؟".

أجاب بيقين يغلفه مسوح العاجزين:

" لنر ما حل بنا".

خطا صوب النافذة مثقلا برعب الدهور، فجابهه ظلام حالك مثل أفعى، تأمله
بحياد مو، وامتدت يده إلى مقبض النافذة، فرأى، كما يرى النائم، أمواجا طينية
قانية شرسة، تتسلق زجاج النافذة تجاهد أن تندفع إلى داخل البيت.







التوقيع :
[c]
اضغط على الصورة لفتحها بصفحة مستقلة


itsbadtobegood@hotmail.com[/c]

 

مواقع النشر (المفضلة)
   


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:27 PM.




 


    مجمموعة ترايدنت العربية