حسين شبكشي- جريدة عكاظ- الثلاثاء- 30-8-1423
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
بقدر ما سر الكثيرون بزيارة رئيس الوزراء الماليزي الدكتور مهاتير محمد للغرفة التجارية في جدة, وقبلها كمتحدث رئيسي في ندوة الرؤية المستقبلية للاقتصاد السعودي بالرياض, بقدر ما أصابتني هذه الزيارة بأسى وحسرة وهمّ. بل اتمنى وأقول: يا ليته ما حضر! .
لقد كشف السيد مهاتير فيها عن المستور وتحدث عن المحظور وبيّن لنا أن هناك اقتصاداً آخر غير الذي نعتقد به ونُطبقه. وليته لم يفعل! لقد كان الدكتور مهاتير يقوم بأكثر من دور: كان محاضرا يروي تجربة بلاده وكان اداريا يصف تجربته كقيادي وكان بائعا يُروّج لبلاده للسياحة وللاستثمار فيها. وأهم من ذلك كان مواطنا صادقا فخورا بدينه وببلاده.
وكم كانت مُبهرة لغة الأرقام وهي تتحدث عن الاعجاز الماليزي تلك الدولة التي تصغرنا بأكثر من 25 عاما وتبلغ صادراتها من القطاع الالكتروني فقط 103 بلايين دولار, أي أكثر من صادرات نفطنا.
بلغ عدد زوارها العام الماضي 13 مليون مُدرين عليها 30 بليون دولار. كل ذلك كان نتاج خطة وضعت في السنوات المُبكرة لحكم مهاتير عندما قرر أن يكون عام 2020 هو العام الذي تنتقل فيه ماليزيا الى احدى الدول الصناعية الكبرى مُنوّعة لانتاجها, رافعة للمستوى المعيشي لمواطنيها, مُحسّنة للكفاءة التعليمية فيها, مُطوّرة للأداء القانوني فيها وهكذا.
كم كنتُ أتمنى أن تُنقل وعلى الهواء مباشرة تلفزيونيا جلسات الدكتور مهاتير في الرياض وجدة, لكي يرى أكبر عدد ممكن من المشاهدين اسلوب هذا الرجل في التعامل وأسلوب وطريقة الاعداد المصاحبة لفريق العمل معه.
كم هي واضحة وحقيقية كانت قناعة الكل معه بالرسالة يعدونها والكلمة التي يقولونها. وكم كان مُبهرا حديثه عن الخطة التعليمية في بلاده وكيف أن هذا الأمر كان أحد أهم عوامل نجاح الأداء الاقتصادي.
تصرف الحكومة الماليزية 23% من ميزانيتها على التعليم ولكن الأمر هنا ليس فقط معنياً بالكم المصروف ولكن بالنوعية. كم كنتُ أتمنى على السادة الوزراء المعنيين بالشأن الاقتصادي في بلادنا أن تُقام لهم ورشة عمل من الجانب الماليزي للاطلاع على أسرار نجاح التجربة الماليزية عمليا. فنحن جميعاً بحاجة ماسة لفهم ذلك.
والحقيقة أن مرارة الموضوع تكمن في أن العديد من عناصر النجاح كانت بأيدينا وأن التجربة الماليزية كانت من الممكن أن تكون سعودية ولكن مع الأسف فوتنا على أنفسنا العديد من الفرص الهامة لأننا لم نُواجه الأمور بوضوح وصدق ومباشرة وأمانة.
عطّلنا مسيرتنا بأنفسنا.
لم نتحيّن الفرص لتنويع مصادر الدخل بصورة جدية.
لم نُطوّر مناهج التعليم ومدارسنا وجامعاتنا بطريقة عصرية فعالة.
لم نُطوّر الجهاز القضائي لنجعله يُخاطب كافة احتياجات الحياة بشتى مجالاتها بكفاءة وفعالية.
لقد حسمت ماليزيا هذه المجالات جميعا بشكل لافت ومميز فاعتمدت سياسة تنويع مصادر الدخل بصورة جادة وحاسمة وكأن الموضوع تحدي بقاء.
فبعد أن كانت ماليزيا تُنتج المطاط وزيت النخيل بصورة رئيسية (تماما كحالنا نحن مع النفط) تحولت ماليزيا لانتاج الالكترونيات والسيارات والصناعات الثقيلة والخفيفة والزراعة والسياحة والخدمات الاخرى.
طوّرت ماليزيا تشريعاتها وقوانينها وقضاءها (وحلت) أمورها ونظرت في تراث ديننا السمح ونظمت شرعا عمليات المصارف, التأمين, الرهن العقاري وغيرها من الأمور الاقتصادية والتي مع الأسف الشديد لم نتمكن لليوم من تنظيمها في بلادنا.
طورت ماليزيا نظامها التعليمي تطويرا مذهلا واعتمدت تدريس العلوم والآداب العالمية واللغة الانجليزية من المراحل الأولى دون أن يمس ذلك حضارتها وثقافتها وتاريخها وكافة تلك الحجج التي تعطل تقدم الأمم وتُخدّر عقولها وتعزلها عن العالم.
ان في التجربة الماليزية العديد من العبر التي يجب الاستفادة منها والعمل على تطبيقها في بلادنا.
أشكر الدكتور مهاتير على زيارته وادعو الله ان يسامحه لانه فتح علينا جراحاً ومواضيع كنا نحاول ان نتناساها واشك اذا كان مهاتير سيدعى للتحدث اقتصاديا مرة أخرى!! فقد تكون زياراته القادمة سياسية ولأداء العمرة فقط... آمل أن نستفيد عمليا من هذه الزيارة ونرى كيف تمكنت دولة يبلغ حجم سكانها 22 مليونا (نفس عدد سكان المملكة تقريبا) من انجاز ما أنجزته.. قد يكون آن الأوان أن نصلي جميعا صلاة استسقاء وعي.. استسقاء ادراك.. استسقاء فهم. آمين.