السلاااااااام
حبيت اشارك معكم في الموضوع
الشاعر النبطي سوف يظل أسيراً لذاكرته الشعبية، فيبدو أشبه بالراوي يخزن المعلومات ويرددها دون أن يتفاعل معها.. فهو أشبه (بالحكواتي) الذي يجمع لديه كل شيء دون أن يقدم شيئاً على المستوى الإبداعي، رغم أهمية المعلومات وبديهية الحفظ وضرورتها أحياناً، إلا أنها تبقى منفصلة عن ذاتية الشاعرية إذا لم تندمج بها، وتنصهر داخلها، لتقدم شيئاً متميزاً فيغدو الشعر أشبه بالنسيج المتجانس، وحدة وشكلاً ومضموناً، ان عالماً مثل الفراهيدي، مؤسس علم العروض، لم يستطع أن يقدم شعراً جيداً، في كل حياته، على الرغم من امتلاكه هذا الثراء المعرفي بأوزان الشعر وقوانينه.
ولم يستطع ابن منظور مثلاً أن يقدم نصاً مبدعاً على مستوى فن الكتابة العربية، على الرغم من معرفته الدقيقة لكل مفردات العرب وجمعها في معجمه الشهير "لسان العرب" الممتد على مساحة 15مجلداً.. فبعض الشعراء لديهم ملكة الحفظ المفرطة، وربما يسرد لك ملحمة شعرية كاملة، بثوان معدودات، ولكنه يعجز أن يصيغ بيتاً من الشعر المؤثر.
لهذا نقول لا تستطيع المعرفة وذاكرة الحفظ - رغم أهميتها - أن تخلق شاعراً مبدعاً، وهذا ما يدحض الكثير من ضعاف المواهب الذين يرون الشاعرية الجديدة هي عملية تدخل فيها المعرفة وقوة الذاكرة، وملاحظة اللغة، مضمنين أشعارهم الكثير من النظريات الأدبية والنقدية التي يتشدقون بها، وكأن الشعر الشعبي مقال معرفي بحت.. لذلك تأتي كتاباتهم باردة ومعقدة وميكانيكية لا أثر فيها لاشراقات الروح والذات الإنسانية.
بل انهم يأخذون على بعض النصوص الشعرية اغراقها في الغنائية والابتعاد عن الواقع، ان الشعر الحقيقي ان لم نتواصل معه ونتفاعل في ذات الشاعر وما يقوله، اعتقد اننا نبقى في سكونية اشبه بالشجرة الميتة في فصل الخريف وقد تبدو للناظر مختلفة عن بقية الأشجار، لكن الريح والربيع كفيلان بأن يكشف كل شيء.. حين تهز الغصون فتسقط أمام القارئ الثمار أو الأوراق الميتة!
ما أقصده بهذه المقدمة ما لفت نظري من شعر جميل سمعته عن الشاعر الشاب (حامد زيد) هذا الشاعر الذي يأكل ويشرب ويتنفس شعراً، وعندما يهتز يتناثر شعراً.. انه مبدع حقيقي، وشاعر مرحلة فاصلة ما بين الشعر النبطي التقليدي والشعر الشعبي الحديث، هذا الشاعر استطاع بفترة قصيرة أن يدخل في مسامعنا مفردات بدوية سلسة بسيطة مؤثرة في سماعها غنية في جمالها وكبيرة في معانيها، انه شاعر متمكن في الكتابة والالقاء والتقاط الصورة، شاعرية غنية بالصور المؤثرة، ومفردة جزلة وكلامه كبير وكأنه يرف من بحر من الشعر العذب.. ينسجه بموسيقى قافية محببة للروح، ومحركة للسكون، وتدغدغ المشاعر، وتحرك الأحاسيس، وأحياناً تستفزنا لما لها من أثر قوي على الملتقى، لأن الشاعر حامد زيد، بشكله البدوي، وتركيبته السيكولوجية يشد المتلقى، لما فيه من حيوية ودينامكية متحركة وكأنه كتلة من المشاعر والأحاسيس، وبتصوري أعتقد أنه أتعب نفسه في مجاراة رجال من كبار السن ولديهم خبرة في معرفة "الطبقرافيا" البدوية الموغلة في الأصالة والتراث، وأقول ذلك، من خلال مفردات شعره الغنية المطعمة في الأدب الشعبي، وفي أدب العاميات المركبة، حيث ان حامد زيد، يجيد التلاعب بالألفاظ، ويركز على ا
لتضاد في المفردات وبعض المعاني، وتساعده موهبته على التقاط مفردة موجودة بيننا ولكنها غير مستغلة، وغابت عن الكثير من أقرانه، فهو يلتقطها من بيننا ويوظفها توظيفاً موفقاً، في مكان مناسب، بصورة مؤثرة، وبأسلوب شفاف وعفوي وسلس، وشعره كم هائل من الصور الشعرية الفريدة، حيث ان كلماته وصلت إلى ذروة تعبيرية وهو يرسم بالمداد السوداوي الساخر معاناة لناس يشعرون بتعاسة مزمنة، ويمكن أن يكون شعر حامد زيد اشارة ودليلاً إلى المقدار الذي يتماهى في المعضل الاجتماعي بالمشكل السيولوجي وبقوة النص وحيلته التعبيرية الفذة الأمر الذي لم يمنعنا الوقت لسماع صوته وهو يقول:
مشكلة لا صرت مطعون بكفوف الدخيل
في ظهرك أربع خناجر وفي الصدر أربعه
ومشكلة لا جات حاجتك بايدين البخيل
ما يفكك لين تدفع كثر ما يدفعه
ومشكلة لا صار عاذلك ما يبرد غليل
لا ترده طيب كلمة ولا أحد بمنه
ومشكلة لا طاح بالوقت رجال تقيل
يطلب احبابه وعيا زمانه ينفعه
ويبدو أنه مجروح، جرح عميق من عاديات الزمن، هذا الزمن، الذي أصبح فيه كل شيء ملوثا، ومملا، ومن هذه الصورة القاتمة والرمادية نتذكر قول رسولنا الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: (سوف يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويتكلم في أمور الناس الرويبضة).
وعن الصد والهجران ونكران الجميل والمعروف يقول حامد زيد:
ياكثر ما رافقت خلان.. واحباب
وياكثر ما في شدتي "هملوني"
على كثر ما عدهم، ستر وحجاب
على كثر ما احتجتهم "واتركوني"
من صارت الخوة ثمن حفنة تراب
نفس الوجيه اللي نصوني.. نسوني
من غير ذكر فروق، وعروق، وانساب
كانوا ثلاثة.. والثلاثة جفوني
علمتهم وشلون الأهداف تنصاب
ولما سواعدهم قوت.. صوبوني!
ويأخذ حامد زيد دلالة واضحة من المثل العربي الشهير القائل:
(علمته الرماية ولما اشتد ساعده رماني).. لأنه يجيد المغامرة اللغوية الرائعة ويسترسل بقوله:
أثري وجودي بينهم محرق اعصاب
ومزعل بعضهم من بعض لو طروني
يا كبري بعينهم وأنا توني شباب
يكفيني أن اسمي كبير بعيني
كد قال أبوي (ان هبتهم قول: ما هاب
لو يقدرونك قول: ما تقدروني)!
ما جيت أبدبل كبده شعر وخطاب
لين ادبلوا كبد الذي خلفوني
يا ويل وجهي كن للدمع مخلاب
ما جف ماه ولا استحى من طعوني
واجد دعوني واغلقوا دوني الباب
واكثار ناس ابكي لهم ما بكوني
مادام حطوا فيني عيوب واسباب
جنبت عنهم مثل ما جنبوني
انا يدي لو ما كست متني ثياب
نذر علي اقطع يدي من متوني
مو عيب اجي مدعو ولا اشوف ترحاب
العيب لو اني رجعت ان دعوني!
انه شاعر ممتشق قلما من شرايين القلب ليكتب بصفحة الكبد قصائد الرحيل والقدر والوجع المر على جلودنا الممزقة من بكتيريا عفن الخمول واليأس والخذلان.. وآلام حامد زيد تمتد لأكبر مساحة ممكنة بقوله:
عفا الله خطا غذر الخناجر والضلوع ابطال
باسامح واتركك تحت الظلام الحالك لحالك
دخيلك وفر دموعك ترى هدر الدموع اذلال
وترى ما فيه احد يصبر مثل صبري بغربالك
انا عيب علي انقض كلامي والرجال افعال
واذا قلت اقطع حبالك تراني بقطع حبالك
انه شاعر يعتز بكبريائه ورجولته وسبق عمره بكثير من الزمن، وقلائل هم من يشعرون بشعره، انه يمسح عن القلوب بعض تراكمات الزمن الرمادي، ويعزف على أوتار القلب حزنا والما وهو بداية حقيقية لشاعر مبدع يرفض فلاسفة المسترخين والجاثمين على أوجاعنا والشعراء الذين غطت أعينهم الرياح الصفراء وهبوب النفاق وموت الحقيقة وقتل المشاعر الصادقة وتلبد الأحاسيس الجياشة، حامد زيد هو من ينحاز من دون شرط إلى آلامنا الكبيرة وجراحنا العميقة الدامية التي تنخر فيها (الغربان السوداء)!! ويرضى لنفسه حامد زيد أن يكون شاهد عيان فقط، أو محايداً متفرجاً.. قصائده صرخة مدوية تزلزل الأرض من تحت اقدامنا، وكلماته رصاص فولاذي يصيب كبد الحقيقة، لأنه في شعره اقتناصات ذكية لما هو يومي وعابر ومألوف لكنه استطاع ببراعته أن يربط بينها بقوة مستغلاً مفردات المطابقة الدلالية على الدوام وملاحقة الانزياحات التركيبية بشكل ساخر وحزين في آن واحد، وأبيات قصائده انفعالية ابداعية بدون أن يقع في فخ التكرار والاجترار وشرك الرتابة الممثلة، فهو يجيد فن ولعبة التناص والتضاد الهائلة في التركيب، وهو أكثر وضوحاً بشعره وملامحه وإلقائه، ان شعره نار ملتهبة يتركها تتلظى في أجوافنا، ت
رها فينا حامد زيد ولم تطفئ حتى تتركنا حثامين هامدة، لأنه قتلنا بخناجره الشعرية من غير سلاح!