عرض مشاركة واحدة
قديم 13-12-2003, 04:18 PM   رقم المشاركة : 1
در الفرح
( ود فعّال )
 
الصورة الرمزية در الفرح
 






در الفرح غير متصل

رؤية اينشتاين لليهودية ودولة اليهود

أينشتاين هو بمعنى ما، ظاهرة وليس مجرد فرد، فهو ليس فقط عالم الفيزياء الشهير، الذي غيّر بنظريته النسبية معالم علم الفيزياء، بل هو كذلك فيلسوف ومفكر ورجل محب للسلام، ويمثل نموذجاً عن شخصية اليهودي القلقة وسط مرحلة الهبات الكبرى التي عرفتها أوروبا، والذي كان مسكوناً بتلك الأحداث التي دارت في عصره وأثرت في تركيبته الثقافية والنفسية والإنسانية. ولم تصلنا غير صورة العالم الفيزيائي، وهي صورة من بين صور أخرى، لم يتعرف عليها القارئ العربي في مرايا هذا الرجل، حيث تختلط في مراياه صورة اليهودي وهويته الثقافية مع صورة الإنسان والمفكر والعالم.
وفي هذا السياق يجيء كتاب د. عفيف فراج «رؤية إينشتاين لليهودية ودولة اليهود» كي يكشف مساحات من فكر أينشتاين وسيرته، متعرضاً لموروثه الفكري والثقافي، ولرؤيته للمسألة اليهودية، وموقفه من الصراع العربي ـ الصهيوني. ويتابع عفيف فراج في كتابه هذا ما بدأه في كتابه الأول «اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية»، من جهة قراءة اليهودية أو بالأحرى إعادة قراءتها عبر المكونات التاريخية والفلسفية والثقافية لها، من خلال تناول أحد ابرز رموزها العلمية والفلسفية. وخيراً فعل المؤلف حين لم يعمد إلى تقديم أينشتاين فيزيائياً، لأن هذا الأمر يتطلب معرفة وتخصصاً علمياً دقيقاً، كي يرصد ما كان عليه علم الفيزياء قبله، ويحدد النقلة التي أحدثتها نظريته النسبية وجملة أبحاثه في هذا العلم، بل وفي مختلف ميادين العلم والمعرفة.
لذلك قدمه بوصفه شخصية مثيرة للجدل، متعددة الصور، وبصفته شاهداً على جدلية التحدي والاستجابة لأحداث ومتغيرات عصره، وفي هذا تمكن من تقديمه إيصال رسائل عديدة في هذا المجال. لقد كانت عبقرية أينشتاين من نوع مختلف، إذ لم يكن أحد يفهم شيئاً عن نظريته النسبية أو تطبيقاتها مع أن الجميع أقرّ بمنطقها، فقد جاءت النظرية النسبية الخاصة لتحير العلماء وتغير مفاهيم الفيزياء المعروفة.
فقد انطلقت نظرية أينشتاين من اعتبار أن جزيئات المادة وذراتها وحبيباتها المتناهية في الصغر يمكن أن تتحول إلى طاقة توافق إشعاعاً عندما تحرر من الكتلة المادة التي تختزنها وتحبسها وسارت بسرعة تقترب أو تساوي سرعة انتشار الضوء في الخلاء، وعليه فإنه يمكن اعتبار الكتلة المادية عبارة عن طاقة مركزة. ويروى أن أينشتاين كان يقف في أحد شوارع هوليوود مع شارلي تشابلن فتجمع حولهما المارة، فقال أينشتاين لتشابلن «لقد تجمع الناس لينظروا إلى عبقري يفهمونه تمام الفهم وهو أنت، وعبقري لا يفهمون من أمره شيئاً وهو أنا».
ولد آلبرت أينشتاين في 14 مارس 1879 في ألمانيا في مدينة صغيرة تسمى «أولم»، وبعد عام انتقلت أسرته إلى ميونيخ. كان والده هرمان صاحب مصنع كهروكيميائي، وتأخر أينشتاين عن النطق، وكان يحب الصمت والتفكير والتأمل ولم يهو اللعب كأقرانه، ولم يكن يعجبه نظام المدرسة وطريقة التعليم فيها التي تحصر الطالب في نطاق ضيق ولا تدع له مجالاً للإبداع وإظهار إمكانياته. أهداه والده بوصلة صغيرة في عيد ميلاده العاشر، وكان لها الأثر البالغ في نفسه، حيث راح يراقب إبرتها المغناطيسية التي تشير دائماً إلى اتجاه محدد وثابت، واستخلص ذلك الطفل بعد تأمل عميق أن الفضاء ليس خالياً ولا بد وأن فيه ما يحرك الأجسام ويجعلها تدور في نسق معين. فيما يرى فرّاج أن البوصلة عرفته للمرة الأولى على قانون سببي لا يتبدل، فهي لم تدل على اتجاه وحسب، بل أسست لرؤية كون تنظمه وتسجمه قوانين إلهية أو طبيعة ثابتة. وهي رؤية تختصرها جملته الشهيرة: «إن الله لا يلعب النرد مع الكون».
وتعلق أينشتاين في شبابه بعلم الطبيعة والرياضيات، وبرع فيهما في البيت وليس في المدرسة. تعلّم الموسيقى وهو في السادسة من عمره وكان يعزف على آلة الكمان. وكانت أكبر مشكلة له اضطراره لدراسة اللغات والعلوم الإنسانية التي لا تطلق للفكر العنان وإنما حفظها للحصول على الشهادة، وكان كثيراً ما يحرج أساتذة الرياضيات لتفوقه عليهم، حتى أن أحد الأساتذة طرده من المدرسة قائلاً له «إن وجودك في المدرسة يهدم احترام التلاميذ لي». سافر أينشتاين بعدها ليلتحق بوالديه في ميلانو بعد أن تركوه لمشاكل مادية في ميونيخ، والتحق هناك في معهد بولوتيكنيك ولكنه رسب في جميع امتحانات الالتحاق فيما عدا الرياضيات، فأرشده مدير المعهد ليدرس دبلوما في إحدى مدن سويسرا ليتمكن بعد عام من الالتحاق في البولتيكنيك، ومنه بدأ مشواره العلمي.
قرأ أينشتاين فلسفة كانط وهو في سن مبكرة، كما قرأ فلسفة سبينوزا، وقد تركت فلسفتاهما ـ وخصوصاً الأخيرة ـ أثراً كبيراً فيه، وقد وفق عفيف فراج في اقتفاء أثر هذين الفيلسوفين على سيرة أينشتاين واعتقاداته. يضاف إلى ذلك تمرده المبكر على الجماعة اليهودية «لا علاقة لي بإسرائيل»، وترحاله بين ألمانيا وسويسرا وأميركا، وسيطرة ازدواجية الهوية الدينية والقومية عليه، وما تركه هذا الازدواج على تكوينه النفسي والفلسفي والثقافي. فهو كان يحمل كل تناقضات الهوية، بين الموروث التوراتي والصوفية، وشخصية الملحد العميق الإيمان بوحدة الوجود، وعليه استراح عقل أينشتاين في مملكة سبينوزا الطبيعية التي يتوحد فيها العقل بالوجود، النفس والبدن، الإنسان والطبيعة، مع التزام عميق بالأمر الأخلاقي الكانطي، ذلك الأمر الصادر عن الضمير، والذي يمليه الواجب، ويطاع وينفذ من الإرادة فيما يتجاوز المتعة أو المنفعة. فضلاً عن تلاقي أينشتاين مع كانط في عالمية كل منهما، ولا قوميته، وانشغاله بسلام العالم.
لذا وجد في فلسفة الأخلاق الكانطية، ما وجده في فلسفة سبينوزا الأخلاقية، بما يعزز إيمانه بتواشج عالم الطبيعة وعالم الإنسان. وكونه لم يكن يتصور وجود حياة ثانية فقد تأثر بالفكر الحلولي التوحيدي الصوفي، والذي تعود جذوره العميقة رؤية الصوفيين القدامى والروحانيين لعالم الوجود، وإلى ما اعتقده وتأمله فلاسفة الطاوية والبوذية والهندوسية وحكماء الشرق القديم. ما يمكن استخلاصه هو أن أينشتاين تمثل فلسفة سبينوزا بمقدار ما وجد فيها فلسفة دينية، أو بديل فلسفي يصالح به سنوات طفولته الدينية مع سنوات رشده الفلسفي وتقصيه العلمي. لكن أينشتاين كان يعيب على كل سلطة دينية حقها الحصري في تفسير الدين، ويعتبر أن الكهانة بلغت سن التقاعد بعدما اخترقت التهويل والتأويل زمناً طويلاً، فالمعرفة العقلانية وحدها تحرر الإنسان من الخوف ومن الإيمان الأعمى.
وهو كرجل علم يرى أن الدين لا يستطيع تعريف الإنسان بالظواهر الكونية، وبفيزياء الوجود، وبالتالي فلا مبرر لوجود الفكر الديني طالما أن حقائق العلم ثابتة وتتراكم مع الزمن، وكلما ازدادت معرفة الإنسان بالطبيعة ازدادت معرفته بالله. وراح أينشتاين ينقد الإله الشخصي المتعالي الذي خلقته الديانة اليهودية، كي تؤسس القانون الأخلاقي على الخوف والإخافة، وكي تبرر سلطة الكهّان في ميادين الحياة الدنيوية. فالإله عند أينشتاين بريء من شُبهة التعالي، واليهودية في رأيه، ليست ديانة تجاوزية أو عقيدة منزلة، بل هي تقديس الحياة في كليتها. لكن شخصيته بذلت محاولات كثيرة في التاريخ الحديث للعثور على فلسفة يمكن لها أن تحلّ محل العقيدة الدينية.
وحيث يلتقي أينشتاين مع كانط وسبينوزا، فإنه يلتقي كذلك مع برتراند راسل في اعتباره «الأنا هي الجحيم لا الآخر»، لكن ذلك لم يرفع عنه انحيازه لهويته الثقافية، فراح يبالغ في تثمين إسهام أقرانه اليهود في الثقافة العالمية، ليفترق عن سبينوزا الذي لم ير اليهود متفوقين في ديانتهم ولا في أخلاقهم أو حضارتهم على سواهم من شعوب العالم. وعليه لم يستطع أينشتاين المصالحة ما بين إله سبينوزا الفلسفي الحلولي وبين إله التوراة، ليغلب أحد طرفي ازدواج الهوية كلما تقدم في الزمن، مع أنه كان يقول: «اليهودية هي بالنسبة لي هوية ثقافية»، لكنه راح يذكّر الغرب، فيما بعد، بأنه ـ أي الغرب ـ مدين لليهودية، من جهة اعتباره القيم المسيحية بمثابة موروث أخلاقي أخذته أوروبا من اليهود، واعتباره أن اليهود هم من أحيا الفلسفة والفن اليونانيين. وعليه فإن رؤية أينشتاين للحضارة الغربية تفيد بأنها نهضت ليس على أساس المسيحية والفلسفة اليونانية، بل على التأليف بين الإنجيل اليهودي والفلسفة اليونانية.
وهذا يعود إلى أن أينشتاين كان يجمع بين توحيد موسى وفلسفتي سبينوزا وماركس في تقليد يتأصّل في اليهودية من جهة القناعة بعلاقة سببية بين العدالة الاجتماعية والتوحيد في مستواه الاجتماعي، وهو يفسر الازدواجات التي يصبح فيها أينشتاين يهودياً نموذجياً، تفاعل فلسفياً مع محيطه الألماني أولاً والسويسري ثانياً والأميركي ثالثاً والعالمي دوماً. ويمتد انحياز أينشتاين إلى اعتباره «اليهودية الحاضنة الأولى لقيم العدالة الاجتماعية التي انتقلت إلى المسيحية والإسلام»، الأمر الذي يفسر عدم إلمامه بالتاريخ الثقافي لحضارات الشرق القديم السابقة لليهودية والمولّدة لها والمؤثرة فيها، حيث يغيب عنه أن أخناتون، الموحِّد الأول، و«قائد الثورة الثقافية الأولى» في التاريخ كما يصفه «بريستد»، كان قد آمن بإله حلولي غير إله التوراة المتعالي، وقدّس الحياة قولاً لا فعلاً، إذ امتنع عن الصيد والحرب، وصرف الكهّان، ووزع أوقاف المعابد على الفقراء.
وبغية تفسير مظاهر الازدواجات التي لازمت تفكير أينشتاين ومواقفه، يفترض فراج أن ما اشتهر به هذا الرجل من عداء للهويات القومية والعواطف الوطنية، إنما يصدر عن أوضاع الشتات التي عاشها اليهودي العالمي الذي لم يألف تراب الوطن، والذي همّشته أوروبا المعاصرة على قاعدة إثنية قومية، بعد أن استبعدته في تاريخها الوسيط على أساس ديني، وهذا يفسر أن عداء اليهودي للقوميات الأخرى هو بمثابة الوجه الآخر لمشروع تحرير الأقلية اليهودية، والذي حملته الصهيونية في أقتم صوره.
إذن، يقرأ عفيف فرّاج أينشتاين من خلال ما تركه هذا العالم المفكر من أعمال وتصورات حملت سؤاله عن معنى الحياة، والغاية من الوجود، فقد كان أينشتاين يرى في العلم أداة ووسيلة، لذلك يقول: «إن العلم حاد البصر حين يتعلق الأمر بالأدوات، هو فاقد البصر حين يتعلّق الأمر بالقيم والأهداف». وكان بودنا أن يكون أحد منطلقات التعرف على مرايا أينشتاين هو دراسة أثر مفارقة الهوية، وسؤالها وازدواجها على مجمل أعماله، تأكيداً على أن هذا الأثر هو مفتاح مواقفه الثقافية ونشاطاته المختلفة. فحين تمثّل أينشتاين مسعى سبينوزا في تحرير وعي الإنسان من السماء وآلهتها، راح ينتقد مثنوية الأديان التوحيدية التي فصلت الله عن الطبيعة وموضعته خارج العالم، لكن إيمانه العميق جعله يسم قوانينه العلمية بسمة القوانين الحتمية غير الاحتمالية، فالحتمي والثابت مستمد من طبيعة الله الثابتة، ولم تكن تركيبة أينشتاين تسمح بأن يتصالح مع طبيعة إلهية تتقلّب، أو إله يعبث، فهو الذي جاء لينفي عبثية الكون.
من جهة أخرى فإن الامتداد الذي جمعه مع سبينوزا وفلاسفة عصر الأنوار، لا سيما في جانب الأفكار العلمية، لم يجذبه إلى الفلسفة الحديثة بقدر ما شده إلى الفلسفات القديمة، وهو أمر أكده صديقه «اوبنهايمر» حين قال: «ما اكتشفناه هو إثبات وتطوير وتدقيق لما جاء في الحكمة القديمة»، لكن المفارقة أن اوبنهايمر هو الذي تولّى مع أينشتاين إقناع أميركا بالشروع في الأبحاث التي نتج عنها التوصل إلى إنتاج أول قنبلة ذرية. ولمّا انفجرت قنبلة هيروشيما وغابت المدينة من الوجود في السادس من اغسطس 1945 قال أينشتاين «أنا الويل...
الويل هو أنا»، ومنذ ذاك لم يغفر لأميركا جريمتها في استخدام السلاح النووي ضد المدنيين اليابانيين، فقد كان يأمل في أن يكون صنعها «إجراء احترازياً» لردع النازيين وإحباط طموحهم في السيطرة على العالم. لقد أيقظت ألمانيا هويته الهاجعة، فتداخلت مع صور أخرى للهوية لديه. ولا شك أنها صورة أعادته إليها العنصرية الألمانية و«الوطنية» النازية، لكن الاعتراف بالهوية بالنسبة له لم يكن أكثر من تقليد ثقافي تربوي يحمل قيماً إنسانية تؤكد على تميز الجماعة ورسالتها الحضارية، ألا أن هذه الهوية كان يمكن لها أن تتلاشى لو أن مجرى الأحداث في أوروبا لم يعتمد الوجهة التي اتخذها.
إلا انه لم يستطع أن يتماثل معها، فانحاز إلى صورة هويته الإنسانية العالمية التي ألحّت عليه للوقوف في وجه أشكال الانتهاك التي تتعرّض لها حريات وحقوق الأفراد والجماعات، وفي التضاد مع سباق التسلح، وفي رفض صهينة فلسطين على حساب أبنائها. وبالتالي عاش أينشتاين حتى لحظاته الأخيرة يهودياً يحاول أن يكون لا يهودياً في عصر يطابق بين الدولة والوطن والأمة.
إن أينشتاين لم يكن يتوقع أن يتصادم مشروع الوطن الصهيوني مع مصالح الفلسطينيين ومشاعر العرب القومية على نحو ما يذكر فراج، فالوطن الصهيوني هو مشروع لتحرير اليهود، لا لقهر الفلسطينيين واستعداء العرب، وليس هناك ما يمنع «التعايش والتفاعل الثقافي بين شعبين سبق وأن تعايشا ورفدا الحضارة الغربية بقيم خالدة».
وعلى مستوى الاقتصاد والثقافة، تصور أينشتاين أن العلاقة بين الفلسطينيين واليهود ستكون علاقة تكامل في العمل والإنتاج، وتفاعل في الثقافة. لا شك أن أينشتاين كان يفكر تفكيراً رغائبياً حجب عنه الوجه الاستعماري للمشروع الصهيوني، فالمشروع الصهيوني أنتج مجرمين قتلة وسفاحين بدءاً من وايزمان وانتهاء بشارون، لذلك صعب عليه فهم السياسة الصهيونية في الشكل والمضمون، وهو الذي دخل السياسة من باب الدين والفلسفة، وعبثاً حاول مصالحة سبينوزا وكانط مع ميكافيلي الذي يتجسد في أبشع صوره مع المجرمين والقتلة من جنرالات الدولة العبرية العنصرية.

تحياني دروره الود







التوقيع :
[IMG] http://www.bayanit.com/upload/protected/[IMG]