ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم، فقال: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللّه ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلمو للذين هادوا} أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها، {والربانيون والأحبار} أي وكذلك الربانيون منهم وهم العلماء والعبّاد، والأحبار وهم العلماء {بما استحفظوا من كتاب اللّه} أي بما استودعوا من كتاب اللّه الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به {وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشوني} أي لا تخافوا منهم وخافوا مني {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} فيه قولان سيأت بيانهما.
سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات
قال أبو جعفر بن جرير، عن عكرمة عن ابن عباس: إن الآيات التي في المائدة قوله: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم - إلى المقسطين} إنما أنزلت في الدية في بني النضير و بني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدي الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه ذلك فيهم، فحملهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء، واللّه أعلم أي ذلك كان، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي، ثم قال ابن جرير، عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير، وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل القريظي رجلاً من النضير قتل به، وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة ودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا: ادفعوه إليه فقالوا: بيننا وبينكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} ورواه أبو داود والنسائي، وابن حبان، والحاكم في المستدرك. وقد روى العوفي عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث بذلك. وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد فنزتل هذه الآيات، في ذلك كله، واللّه أعلم. ولهذا قال بعد ذلك: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال البراء عازب، وابن عباس، والحسن البصري، وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب. زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة، وقال عبد الرزاق عن إبراهيم، قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي اللّه لهذه الأمة بها، وقال السدي {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} يقول: من لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً، أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين. وقال ابن عباس قوله {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال: من جحد ما أنزل اللّه فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. رواه ابن جرير، ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم اللّه المنزل في الكتاب. وقال ابن جرير عن الشعبي {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال: هذا في المسلمين، {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون} قال: هذا في اليهود {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون} قال: هذا في النصارى، وقال الثوري عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق وقال وكيع عن طاووس {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال: ليس بكفر ينقل عن الملة.
الآية رقم (45)
{ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون }
وهذا أيضاً مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وهم يخالفون حكم ذلك عمداً وعناداً، ويقيدون النضري من القرظي، ولا يقيدون القرظي من النضري، بل يعدلون إلى الدية، كما خالفوا حكم التوارة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار، ولهذا قال هناك: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} لأنهم جحدوا حكم اللّه قصداً منهم وعناداً وعمداً، وقال ههنا {فأولئك هم الظالمون} لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر اللّه بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلمو وتعدوا بعضهم على بعض. وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا حكي مقرراً ولم ينسخ كما هو المشهور عند الجمهور، والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم على الناس عامة، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم: (أن الرجل يقتل بالمرأة)، وفي الحديث الآخر: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) "هذا بعض حديث رواه أبو داود وابن ماجة عن ابن عمرو"وهذا قول جمهور العلماء، وعن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية، لأن ديتها على النصف من دية الرجل، وإليه ذهب أحمد في رواية واحتج أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي، وعلى قتل الحر بالعبد، وقد خالفه الجمهور فيهما. ففي الصحيحين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لا يقتل مسلم بكافر)، وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ولا يقتلون حراً بعبد، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح، وحكى الشافعي بالإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص إلى الآية الكريمة.
ويؤيد الإحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت عن أنس بن مالك، أن الربيع عمة أنس كسرت ثنية جارية، فطلبوا إلى القوم العفو، فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: (القصاص)، فقال أخوها أنس بن النضر: يا رسول اللّه تكسر ثنية فلانة؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يا أنس كتاب اللّه القصاص) قال، فقال: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة، قال: فرضي القوم، فعفوا، وتركوا القصاص. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إن من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبره) أخرجاه في الصحيحين. وروى أبو داود عن عمران بن حصين: أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللّه إنا أناس فقراء فلم يجعل عليه شيئاً. وهو حديث مشكل، اللّهم إلا أن يقال: إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه.
وقوله تعالى: {والجروح قصاص} قال ابن عباس: تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح، فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينه رجالهم ونساؤهم إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس، رواه ابن جرير.
قاعدة مهمة
الجراح تارة تكون في مفصل، فيجب فيه القصاص بالإجماع كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك؛ وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل بل في عظم، فقال مالك رحمه اللّه : فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها لأنه مخوف خطر، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيء من العظام إلا في السن، وقال الشافعي: لا يجب القاص في شيء من العظام مطلقاً، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وهو المشهور من مذهب أحمد وقد احتج أبو حنيفة رحمه اللّه بحديث الربيع بنت النضرعلى مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن. وحديث الربيع لا حجة فيه لأنه ورد بلفظ كسرت ثنية جارية، وجائز أن تكون سقطت من غير كسر فيجب القصاص والحالة هذه بالإجماع، وتمموا الدلالة بما رواه ابن ماجة عن جارية بن ظفر الحنفي أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف من غير المفصل، فقطعها، فاستعدى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأمر له بالدية، فقال: يا رسول اللّه اريد القصاص فقال: خذ الدية بارك اللّه لك فيها. ولم يقض بالقصاص، ثم قالوا: لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجنى عليه، فإن اقتص منه قبل الإندمال ثم عاد جرحه فلا شيء له. والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: أقدني، فقال: (حتى تبرأ)، ثم جاء إليه، فقال: أقدني فأقاده، فقال: يا رسول اللّه عرجت، فقال: (قد نهيتك فعصيتني فأبعدك اللّه وبطل عرجك) ثم نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه، تفرد به أحمد.
مسالة : فلو اقتص المجنى عليه من الجاني فمات من القصاص فلا شيء عليه عند مالك والشافعي وأحمد ابن حنبل، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة: تجب الدية في مال المقتص. وقال عطاء: تجب الدية على عاقلة المقتص له. وقال ابن مسعود والنخعي: يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله. وقوله تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} قال ابن عباس: أي فمن عفا عنه وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب. وقال سفيان الثوري: فمن تصدق به فهو كفارة التجارح، وأجر المجروح على اللّه عزَّ وجلَّ الوجه الثاني : قال ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد اللّه في قول اللّه عزَّ وجل: {فمن تصدق به فهو كفارة له} قال: للمجروح. وقال ابن مسعود: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به. وروى الإمام أحمد عن أبي السفر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية فقال معاوية: إنا سنرضيه فألح الأنصاري، فقال معاوية: شأنك بصاحبك، وابو الدرداء جالس، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه اللّه به درجة وحط به عنه خطيئة، فقال الأنصاري: فإني قد عفوت، وهكذا رواه الترمذي. وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (ما من رجل يجرح من جسده جراحه فيتصدق بها إلا كفر اللّه عنه مثل ما تصدق به)، رواه النسائي. وقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون}، قد تقدم عن طاووس وعطاء أنهما قالا: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
الآية رقم (46 : 47)
{ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين . وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون }
{وقفينا} أي اتبعنا على آثارهم يعني أنبياء بني إسرائيل {بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة} أي مؤمنا بها حاكماً بما فيها، {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور} أي هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات {ومصدقا لما بين يديه من التوراة} أي متبعاً لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم}، ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة وقوله تعالى: {وهدى وموعظة للمتقين} أي وجعلنا الإنجيل هدى يهتدى به، وموعظة أي زاجراً عن ارتكاب المحارم والمآثم للمتقين، أي لمن اتقى اللّه وخاف وعيده وعقابه. قوله تعالى: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه} قرىء {وليَحكُم} أهل الإنجيل بالنصب على أن اللام لام كي أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم، وقرىء {وليحكم} بالجزم على أن اللام لام الأمر، أي ليؤمنوا بجميع ما فيه وليقيموا ما أمروا به فيه وبما فيه البشارة ببعثة محمد والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} الآية. وقال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة} إلى قوله: {المفلحون} ولهذا قال ههنا: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون} أي الخارجون عن طاعة ربهم، الماثلون إلى الباطل، والتاركون للحق، وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى وهو ظاهر من السياق.