قصـــة طبيبة في مصحة نفسية
هل كان يمكن لك أن تتخيل في يوم من الأيام أن تعيش في مصحة للأمراض النفسية ؟
عن نفسى أتحدث، فلم أتخيل أبداً طوال حياتى أن أعيش في مثل هذا المكان، فليس هناك سبب لمعيشة شخص في مشفى للأمراض النفسية إلا أن يكون هذا الشخص مريضاً نفسياً، أو أن يكون مثلي أنا ..طبيب مقيم للأمراض النفسية والعصبية في مصحة من أكبر المصحات المتخصصة في هذا المجال من الطب في الشرق الأوسط.
ولك أن تتساءل، كيف يمكن لشخص مثلي أن يقضى يومه؟!!
دعونى إذاً أشبع فضولكم وأروي لكم بعض أحداث يوم من أيام عملي المزدحمة، هيا تفضلوا معي ..مرحباً بكم هذا هو القسم الذى أعمل به، قسم الرجال، في هذا السرير كان يرقد المريض الإثيوبى الذى تركته زوجته وأولاده ففوجئ به أهله لا يتحرك!..مستيقظ ويشعر بوجودهم ولكنه لا يستجيب لنداءاتهم!
لا يستجيب أبداً حتى لو حاولت ضربه على وجهه …لا يأكل ولا يشرب حتى أن مثانته انتفخت بالبول لدرجة أنها أوشكت على الانفجار ولم يتأثر بذلك ..حالته من الحالات المثيرة للانتباه والتي نطلق عليها عته كتاتونى …الغريب والمذهل في مثل تلك الحالات أنها تستسجيب وبسرعة فائقة للعلاج بالجلسات الكهربائية… تحسن المريض بعد الجلسة الثانية وعاد إلى نشاطه وتفاعله الذي أخبرنا عنا أهله فعاد للحياة بعد أن تعرض للموت الوشيك.
(حالة لمريض بالعته الكتاتوني)
أما هذا فهو مكتبى الذى أقابل فيه المرضى كل يوم ..وعندما أدخل إلى المكتب ..يعود إلى ذاكرتى مشهد المريض الذى جرى مسرعاً نحو الباب وهو يصرخ بصوت عالى ومرعب ” سأقتلها سأقتلها “” منعه مساعدى التمريض من إيذائى بهدوء، كنت سأتعرض للقتل وذلك لأن المريض كان لا يريد أن يبدأ جلسات العلاج الكهربى في اليوم التالى على الرغم من أن حالته تحتاجها بشدة، بدأ في اتهامى بأننى كافرة وبأن الله لا يرضى عنى وأدخلنى في نظام تفكيره الخاطئ الناتج عن مرضه ..واللطيف جداً أن هذا المريض قام بعمل مقابلة صحفية معي بعد تحسنه وتعافيه خاصة بمشروع يقوم بعمله في الجامعة وقام بكري على مساعدته في الشفاء ..
أما هذه هناك على المنضدة فهذه الحقيبة الخاصة بإحضار الحالات من المنزل ..وذلك يذكرنى بالمريض العربى الذي ذهبت لإحضاره من المطار، والذي كان مخدراً تماماً نتيجة لكمية كبيرة من المهدئ أعطته له والدته على الرغم من أنها طبيبة وتعلم أن هذه الجرعات الكبيرة قد تسبب في قتله فقد تتسبب في إيقاف تنفسه بالإضافة إلى هبوط حاد في دورته الدموية، ولكن الأم بررت ما حدث بأنها كانت خائفة جداً منه حيث كان يظهر عنف شديد جداً تجاهها طوال رحلتهم في الطائرة في الفترات التي كان يفيق فيها من تأثير الدواء، كان معجزة أن يبقى هذا المريض على قيد الحياة وأن تسنح لنا فرصة علاجه ولكنه لا يستطيع مسامحة أمه على فعلتها حتى الآن.
أما هذه الصالة الواسعة فكان فيها حفل عيد الميلاد لمرضى الشهر ..حيث استمتع المرضى بتناول الحلوى وشرب العصائر، كان منهم من هو يتحرك بنشاط زائد وبسرعة فائقة، ومنهم من يجلس مع أصدقاءه الخياليين غير منتبه لما يحدث، ومنهم من يخاف من التجمعات فيختبئ وراء الحائط.
ولكن للأسف انتهى الحفل بنهاية درامية، حيث قام واحد من المرضى بضرب الأخصائية النفسية في أنفها بقبضة يده ..جرى الأطباء نحوها بسرعة لتضميد الجرح وبدأ كل المرضى في الاعتذار لها ..ومن الرائع أنها تقبلت الأمر بمنتهى الكفاءة المهنية مبتسمة وسعيدة لسعادتهم!
كثيراً منكم سيدور في رأسه أن حياتى في مثل هذا المكان مثيرة للعجب والدهشة وخاصة أننى أعمل به نهاراً وأقيم فيه ليلاً، بعضكم سيتهمنى بالجنون والتهور والبعض الآخر سيتوجنى يتاج البطولة!
ولكن الأمر بمنتهى البساطة هو أن هذا عملى الذى أحبه والذي استمتع بممارسته كل يوم وأتعلم منه في كل دقيقة وكل ساعة شيئاً جديداً